+ «متذكِّرين بلا انقطاع عمل إيمانكم، وتعب محبتكم، وصبر رجائكم، ربنا يسوع المسيح، أمام الله وأبينا» (1تس 1: 3).
لولا أن المسيح هو رجاؤنا الوحيد ورجاء البشرية كلها، ما سمعنا عن إنجيل ورسل وقديسين وشهداء!
فوق أن المسيح صُلِبَ وقُبـِرَ وقام وصعد إلى أعلى السموات، فوق هذا كله وبعد هذا كله، فإن شخص المسيح الحي يبقى معنا كأقوى سند في هذا العالم وأعظم عزاء في الضيق، خاصةً للإنسان الضعيف المسكين!
+ «لا أترككم يتامى. إني آتي إليكم» (يو 14: 18).
+ «إني أنا حيٌّ، فأنتم ستحيون. في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم فيَّ، وأنا فيكم» (يو 14: 20،19).
+ «والذي يحبُّني يحبه أبي، وأنا أحبه، وأُظهِر له ذاتي» (يو 14: 21).
+ «لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (يو 15: 5).
+ «عرَّفتهم اسمك وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم» (يو 17: 26).
+ «كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا» (يو 15: 9).
+ «ها أنا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20).
لهذا فقد ثَبَتَ، لا من وعد المسيح نفسه فحسب، بل من تجربة الرسل والشهداء والقديسين والكنيسة كلها، أنه حقاً كذلك.
+ «الذي رأيناه وسمعناه نُخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً» (1يو 1: 4،3).
+ «فقال الرب لبولس برؤيا في الليل: لا تخف بل تكلَّم ولا تسكت، لأني أنا معك ولا يقع بك أحدٌ ليؤذيك» (أع 18: 10،9).
+ «عالماً أن خلع مسكني قريب كما أعلن لي ربنا يسوع المسيح أيضاً» (2بط 1: 14).
+ «الذي بحسبه حينما تقرأونه، تقدرون أن تفهموا درايتي بسرِّ المسيح. الذي في أجيال أُخَر لم يُعرَّف به بنو البشر، كما قد أُعلِنَ الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح» (أف 3: 5،4).
من هذه الآيات يتبيَّن كيف ظل الرب يُمارس حضوره غير المنظور، والمنظور أحياناً؛ كما ظهر لبولس، ليُعلن لهم عن قيادته للكنيسة وعن سر الخلاص، يقويهم ويُعزيهم ويُلهمهم ماذا يعملون.
فالمسيح حقَّق ولا يزال يُحقِّق بالفعل وعده المقدس: «ها أنا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20). لقد أثبت المسيح أنه رجاؤنا حقاً. وهكذا يُشجِّعنا القديس بطرس الرسول أن نسلك كما سلكوا هم: «الذي وإن لم تَرَوْه تحبُّونه، ذلك وإن كنتم لا تَرَوْنه الآن لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد» (1بط 1: 8).
أما القديس بولس الرسول فيُركِّز في رسالته إلى أهل تسالونيكي على أن المسيح هو صبر رجائهم: «مُتذكِّرين بلا انقطاع عمل إيمانكم، وتعب محبتكم، وصبر رجائكم، ربنا يسوع المسيح، أمام الله وأبينا» (1تس 1: 3). ويُلاحَظ هنا أن المسيح يجيء في هذه الآية كموضوع الرجاء. فلم يكتب: ”رجاؤكم في المسيح“ بل «صبر رجائكم، ربنا يسوع المسيح».
أي أن المسيح هو بنفسه رجاؤنا الذي نعيش عليه ونستمد منه أملنا وتعزيتنا بل هو أيضاً أملنا في هذا العالم وعزاؤنا الوحيد، كما كان للقديس بولس وبقية الرسل والكنائس، وكنيستنا تصلي إليه: ”أنت هو رجاؤنا كلنا“، و”رجاء مَن ليس له رجاء“، و”عزاء صغيري القلوب“.
ولكن لا يظن أحد أن قوة رجاء وعزاء المسيح تعمل لهذا الدهر، أي مجرد تعزية. فهذا الدهر لا عزاء فيه ولا رجاء له، لأنه قد وُضِعَ في الشرير، بل نحن نستمد من المسيح رجاءً وعزاءً للحياة الأبدية. فالمسيح لا يمسح دموعنا هنا ولا يورِّثنا شيئاً من غناه لحساب هذا العالم، بل يمدُّنا من خلال حضوره الشخصي فينا الآن بإيمان ورجاء وجودنا معه هناك لميراث حياتنا السعيدة مع أبيه الصالح: «إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، فإننا أشقى جميع الناس» (1كو 15: 19).
ولكن رجاءنا حتى من خلال دموعنا وأحزاننا وأثقالنا قائم ثابت في المسيح لقيامة وحياة أبدية وشركة فرح ومسرَّة وسعادة حقيقية «مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح».
وإن كان سيمسح هناك من عيوننا كل دمعة تساقطت هنا، فمرحباً بالدموع، أليس هو القائل عنه داود النبي: «اجعل أنت دموعي في زقِّك. أَمَا هي في سِفْرك» (مز 56: 8)؟
وهكذا فإن ”رجاء المسيح“ يتجلَّى في قلوبنا الآن كقوة دافعة تمدُّنا بطاقة للحياة بلا تخاذُل ولا يأس، فنتخطَّى بها كل هموم الدنيا وضيقاتها مهما بلغت حتى الموت. أليس بعد الموت قيامة سبق وأخذنا سرَّها في كياننا؟ ألم نَقُم مع المسيح؟ ألم يهبنا المسيح روحه القدوس ليضمن قيامتنا منذ الآن؟ ألم يُعطِنا وعداً إلهياً: «إني أنا حيٌّ فأنتم ستحيون»؟ أو بماذا تقوم شهادتنا للمسيح الآن إلاَّ بالرجاء الذي نستمده منه؟ أو كيف نثق في كل مواعيد المسيح إلاَّ بثقة الرجاء الذي انغرس في لحمنا وسَرَى في دمنا؟
ألم يَقُل الوحي الإلهي على فم القديس بولس الرسول: «لأننا بالرجاء خَلَصْنا» (رو 8: 24)، جاعلاً الرجاء قوة تجمع الماضي والحاضر والمستقبل معاً!!؟ ولكن يستطرد القديس بولس لينفي من ذهننا إطلاقاً أي رجاء في هذا الدهر أو في دائرة المنظور، فيحبس رجاءنا في مسيح القيامة والحياة الأبدية فقط: «ولكن الرجاء المنظور ليس رجاءً… ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقَّعه بالصبر» (رو 8: 25،24).
آه! لقد برَّح هذا التوقُّع بجميع القديسين بلا استثناء، والكنيسة أيضاً على ممر الدهور، وخاصة كنيسة القرون الأولى، كنيسة الحب والنسك والتصوُّف الصادق، كنيسة انتظار الرب لا بتوقُّعٍ فقط بل بفارغ الصبر. وفي هذا يقول القديس بطرس الرسول: «منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب» (2بط 3: 12)، حتى أنه في صميم القداس في القرون الأولى ”في قداس الديداخي“(2) كان الأسقف بعد أن يُصلِّي ويستكمل القداس يقول، والشعب يُردِّد وراءه بصراخ: ”ماران آثا“ الذي تفسيره: ”تعالَ يا رب“!
وليس من فراغ تسجَّل لنا هذا في صلاة القداس، بل هو مأخوذٌ من سفر الرؤيا، حيث يسمع القديس يوحنا في ختام الرؤيا الوعد الإلهي بمجيء الرب يسوع ثم الجواب الأمين: «يقول الشاهد بهذا: نعم! أنا آتي سريعاً. آمين، تعالَ أيها الرب يسوع» (رؤ 22: 20). وهكذا صارت بنصِّها وحروفها جزءاً لا يتجزَّأ من قداس الكنيسة، ولكن سقطت لَمَّا فترت المحبة المشتعلة، إذ ظن العقليون أنه مجيءٌ منظور. فلما أبطأ العريس ناموا، ولكن ألم يُحذِّرنا القديس بولس الرسول أن لا نترجَّى المنظور؟
ثم في خبرته الروحية – التي رأى فيها الرب وسمع كلمة من فمه – التي جاءت على أعلى مستوى يمكن للحواس أن تستشفه من خلال قناع الجسد، يقول القديس بولس الرسول: «والذين كانوا معي نظروا النور وارتعبوا، ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلَّمني» (أع 22: 9). هكذا يظهر الرب لمتَّقيه ويتكلَّم معهم، فيراه واحدٌ ولا يراه الآخر، ويسمعه الواحد ولا يسمعه الآخر: «اثنتان تطحنان على الرحى، تُؤخذ الواحدة وتُترك الأخرى» (مت 24: 41).
عجيبٌ هو رجاء المسيح هذا. فهو رجاءٌ لا يعمل إلاَّ مع ”المنتظرين والطالبين سرعة مجيء يوم الرب“. ألم يختم الرب – الشاهد الأمين – سفر الرؤيا آخر أسفار الكتاب المقدس بقوله: «نعم! أنا آتي سريعاً»؟ وكأني بـالصلاة التي تخلو من ”ماران آثا“، تخلو أيضاً من رجاء المسيح!!
ثم إن لم يكن ميراثنا السمائي الفاخر مع المسيح في الله حيّاً في رجائنا الآن، فهل نستطيع أن ننجو من شهوة المواريث الأرضية وقنية الأشياء التي في العالم؟ ألم يَقُل الوحي الإلهي: «لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم» (1يو 2: 15). ولماذا هذا النهي القاطع؟ أليس لكي يمتلئ رجاؤنا «بميراث لا يَفْنَى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظٌ في السموات لأجلكم» (1بط 1: 4)؟ هذا كان عند الرسول بولس أمراً على مستوى اليقين الثابت: «لأننا نعلم أنه إن نُقِضَ بيت خيمتنا الأرضي، فلنا في السموات بناءٌ من الله، بيتٌ غير مصنوعٍ بيدٍ، أبديٌّ» (2كو 5: 1).
أما علامة الرجاء الحي في المسيح الآن من نحو الحياة معه هناك وتذوُّق ملكوته، فتأتي بوجه آخر لا يقل قوة، وفي نفس الوقت لا يُضعف رجاءنا في انتظار مجيء المسيح. هذا يُعلنه القديس بولس الرسول كاشفاً عن وجدان واقعي يزيد رجاءه في المسيح وضوحاً: «لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح» (في 1: 23).
إذن، فالرجاء يتعلَّق باللُّقيا سواء من طرفه: «سأراكم فتفرح قلوبكم» (يو 16: 22)، أو من طرفنا نحن: «لأننا سنراه كما هو» (1يو 3: 2).
نعم، إن كنا حقاً نشتهي أن ننطلق باستعداد اللُّقيا، بكمال السعي، بحفظ الإيمان؛ فحقّاً يكون رجاؤنا حيّاً في المسيح. وإن كنا ننظر إلى الرب كل يوم في الصلاة بوجهٍ مكشوف ونتفرَّس في وجهه لنتغيَّر من مجدٍ إلى مجد، بحسب عمل الرب الروح، فحينئذ سيتربَّى فينا يقين الرجاء بلُقيا وجه المسيح وجهاً لوجه: «فإننا الآن ننظر في مرآة، في لُغز، لكن حينئذ وجهاً لوجه» (1كو 13: 12). ولكن للأسف فإن ضعف الترجمة هنا يُخفِّض من حرارة المعنى في اللغة اليونانية الأصلية التي كتب بها القديس بولس الرسول، ففي الأصل اليوناني: prosopon pros prosopon، حيث تفيد شخصاً مشدوداً لشخصٍ، أو شخصاً متجهاً نحو شخصٍ. ونفس الحرف pros هو الذي استخدمه إنجيل القديس يوحنا: «والكلمة كان عند الله» (يو 1: 1). فكلمة ”عند“ مُترجمة عن حرف pros، وهي المعيَّة التي أفصح عنها القديس بولس الرسول كثيراً، وصفاً لحالة وجودنا ”مع“ المسيح فوق، وحالة كوننا ”مع“ المسيح.
أما الآن، فنحن نختبر وجودنا في المسيح سرّاً بالروح كاتحاد غير منظور. ولكن هناك يُستعلَن السر: «ولكن نعلم أنه إذا أُظْهِرَ نكون مثله، لأننا سنراه كما هو. وكل مَن عنده هذا الرجاء به، يُطهِّر نفسه كما هو طاهرٌ» (1يو 3: 3،2).
وهذا الرجاء الذي يكشف عن دقائقه القديس يوحنا الرسول بقوله إننا سنراه كما هو ”لأننا سنكون مثله“، يوضِّح سببه القديس بولس الرسول بقوله: «فإن سيرتنا نحن هي في السموات، التي منها أيضاً ننتظر مُخلِّصاً هو الرب يسوع المسيح، الذي سيُغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده» (في 3: 21،20)، أي سنكون مثله. وبذلك فإن هذا الرجاء الحي نجده عقيدة ثابتة بنصِّها عند القديس يوحنا الرسول، كما هي عند القديس بولس الرسول أيضاً. وهذا يُعطينا فرصة لكي نستمع إلى نصيحة القديس يوحنا الرسول تعليقاً على ذلك، أنَّ الذي عنده هذا الرجاء عليه أن يُقبـِلَ حتماً على تطهير نفسه من شوائب شهوة العالم والجسد، ليكون على مستوى اللقاء بهذه الرؤية، لكي لا يخجل منه. لأنه واضحٌ أن الرجاء الحي المستمد من شخص المسيح له حرارة وقوة قادرَيْن على التطهير: «والآن، أيها الأولاد، اثبتوا فيه، حتى إذا أُظْهِرَ يكون لنا ثقةٌ، ولا نخجل منه في مجيئه» (1يو 2: 28).
نعم، هذا الرجاء العجيب كفيلٌ بأن يُحيِّد شدة جذب العالم لنا ويجعله وكأنه لا يكون!!
+ «فأقول هذا أيها الإخوة: الوقت منذ الآن مُقَصَّرٌ، لكي يكون الذين لهم نساءٌ كأنْ ليس لهم، والذين يبكون (على ما في العالم ومَن فيه) كأنهم لا يبكون، والذين يفرحون (بهداياه ومجده وماله وعزِّه وهنائه) كأنهم لا يفرحون، والذين يشترون (ويكنزون مالاً وعقاراً ومقتنيات) كأنهم لا يملكون، والذين يستعملون هذا العالم (للظهور واكتساب المراكز وإظهار القوة والاقتدار) كأنهم لا يستعملونه. لأن (عند الذين يترجُّون الرب والحياة التي لا تزول) هيئة هذا العالم تزول» (1كو 7: 29-31).