“الاناجيل” الاربعة أنجيل واحد، بشرى سارّة واحدة
من ناحية المضمون هنالك “انجيل” واحد – و”انجيل” تأتي من الكلمتين اليونانيتين “او – انجيليون” أي الخبر السار. وكانت اللفظة تعني أيضاالمكافأةلحامل البشرى (أي “الحلوان” في لهجتنا العامية). اننا معشر المسيحيين نؤمن بالهام الاناجيل والوحي الالهي الى كاتبيها البشريين. ولكن كما ان القديس انسيلموس كتب: “أومن لكي أفهم”، فقد سبقه مار اوغسطينوس أسقف “هيبونة” العلامة بقوله المأثور: “الايمان يبحث عن العقل، والعقل يبحث عن الايمان”. ومن الثوابت لدى الحبر الاعظم الروماني قداسة البابا بندكتوس (مبارك) السادس عشر تشديده على عقلانية الايمان والسعي الى الحق الموضوعي “بوداعة ووقار” ومحبة تحق الحق وترفع لواء الاخوّة (عن بطرس الاولى 3 : 15 ، ثم أفسس 4 : 15) ، بما أن “الحقّ يحرر” الناس كما قال السيد المسيح.
فعلا، قد تحتاج النفس البشرية –وهي ميّالة الى الشكّ والتمرّد– الى براهين ودلائل لكي “تتقبّل” ما يؤكّده الايمان من حقائق. ولا تأتي تلك البراهين سندا –حاشى وكلا- لاي “ضعف” في الوحي الانجيلي بل اسعافا للنفس البشرية المحدودة، ورسالة محبة الى الملحدين وسائر أهل الشك.
قال السيد المسيح: “اذا كنّا نقبل شهادة الناس، فشهادة الله أعظم”. ولكنّ هنالك قوما يريدون أولا أن يستمعوا الى شهادات بشرية ودلائل انسانية. ويأتي التاريخ واللاهوت الاساسي ليقدّم ما تطلبه تلك النفوس، لعلّها تعدل عن “قساوة القلب” وتنعم بمرونة الفكر وتواضع الاقرار بالحق الالهي.
نقل البشرى السارة الينا اثنان من الرسل –هما متّى- لاوي ويوحنا الحبيب، وكانا “شاهدي عيان” (من القوم الذين اشار اليهم لوقا في مقدمة انجيله)، واثنان من تلاميذ الرسل أو الحواريين أي مرقس ترجمان بطرس الرسول وابنه الروحاني (عن بطرس الاولى 5 : 13) ولوقا تلميذ بولس الرسول ورفيقه. ويمكن القول ان مرقس ولوقا “معلنَي سماع” مبني على شهود عيان.
شهادات تاريخية عن الاناجيل الاربعة
كتب القديس ايريناوس (140 – 222)، تلميذ مار بوليكاربوس الذي كان تلميذ يوحنا الحبيب: “ان الاناجيل الموحى بها اربعة ليس الاّ. وقد جمع روح القدس هذا العدد، فلا سبيل الى الزيادة عليه.
وقد كتب الانجيليون هذه الاسفار المقدسة ودفعوها الينا لتكون أساس معتقدنا وعماده في المستقبل. فمتّى كتب انجيله للعبرانيين… وبعدما خرج بطرس وبولس من روما، نقل الينا مرقس تلميذ بطرس وترجمانه، في انجيله الحقائق التي بشّر بها بطرس. وكتب لوقا رفيق بولس في انجيله ما كان يبشّر معلّمه. وأخيرا نشر يوحنا بدوره انجيله اذ كان في أفسس من أعمال آسيا. ويوحنا هو التلميذ الحبيب الذي استحقّ أن يسند رأسه الى صدر الرب”.
وأعلن ترتليانوس (160 – 240): “أربعة يثبتون لنا الايمان في أسفارهم: اثنان من الرسل، وهما متّى ويوحنا، واثنان من التلاميذ ، وهما لوقا ومرقس”.
وفي كتابات العالم الاسكندري أوريجانوس (185 – 254) يقرأ المرء: “لقد عرفنا من الاقدمين أن الاناجيل أربعة وانها وحدها جديرة بالقبول من غير نزاع في جميع أنحاء بيعة الله المنتشرة تحت السماء. فالانجيل الاول كتبه متّى…”
من مقاييس الوحي والالهام الانجيليين
ان المشيئة الالهية وايحاء روح القدس هما السند لعقيدة الوحي الانجيلي. وقد ينفع الضعف البشري أن يستعين بدلائل أخرى منها أولا الاصل الرسولي وهو الذي يثبت صحة الاناجيل و”قانونيتهم”. ففي متّى ويوحنا الاصل الرسولي المباشر، وفي لوقا ومرقس غير المباشر.
ومن الدلائل الاخرى تواضع الكتّاب واختفاؤهم الكامل وراء النصوص المقدسة التي ينقلونها عن حياة السيد المسيح وأقواله وفعاله وموته وقيامته وصعوده- وذلك بخلاف الكتب المنحولة التي يسترسل فيها الكتّاب المنتحلون في الحديث عن أنفسهم خصوصا بعد انتحالهم لشخصية رسول أو نبي. وتتألق الاناجيل المقدّسة بشهادة أمينة نزيهة تنقل كلاما عسيرا على النفس البشرية مثل “أحبوا أعداءكم”، و “ما جمعه الله لا يفرّقنّه الانسان” و “من لطمك على خدّك الايمن، فحوّل له الايسر” من توصيات وأخلاقيات غاية في السموّ والصعوبة، ونقل عقائد ترتفع فوق مستوى التفكير البشري الذي قد يحذفها أو يخففها أو يخفضها الى مستوى الدنيويات.
ومن الدلائل الاخرى لمصداقية الاناجيل المقدسة شهادتها لامور يأنف الحس البشري العادي أن يقبلها مثلا حالات الذل والمعاناة عند “المسيح الملك” وعيوب الرسل ونقائصهم ونزاعهم حول العظمة والزعامة. وكان من السهل لاي منتحل أو مزيّف أن يحذف تلك النصوص أو أن يحوّل الهوان عظمة والعيوب خصالا!
ومن الدلائل القاطعة التي وعيها الاولون والاخرون وعبّر عنها المفكر الفرنسي بلاز باسكال الذي كتب: “أصدّق الشاهد الذي يدع عنقه يُضرًَب” –استشهاد الانجيلييين –وسائر الرسل- في سبيل الشهادة لما شهدوا من موت السيد المسيح وقيامته أي ان شهادتهم كلّفتهم حياتهم. ومعروف ان النفس البشرية تهلع وعند الخطر تجزع وهي مستعدة لانكار الواقع هربا من الموت. ويمكن القول ان قيامة يسوع قتلت الرسل جسديا ولكنها أنعشتهم روحانيا وشيّدت الكنيسة!
من الدلائل الاخرى عقلانية الاناجيل ورفضها لاية أساطير صبيانية كانت تنشرح لها صدور المنتحلين وتنتشي بها المخيّلة الواسعة، مثل روايات عن يسوع الطفل الذي حوّل زملاء له الى خنازير لانهم رفضوا أن يلعبوا معه أو تفلسفوا على ما كان يصنع!
ومن البراهين التي تفسّر رفض العقل السليم والكنيسة للكتابات الغنوصية – مثل “انجيل توما” و”انجيل فيليبوس” و”مريم المجدلية” -عدم اتزانها وحسبانها الجسد الانساني شرّا وقد خلقه– حسب زعم تلك المصادر الطهرانية –معبود شرير اسمه “سيكلاس”- في حين ان الاله الكريم خلق الارواح فقط.
خاتمة
ميلاد السيد المسيح اطلالة “البشرى السارة” التي بها نفرح، مؤمنين بابن مريم دائمة البتولية، وانهما فعلا “آية للعالمين”. ويا ليت الافراد والشعوب المسيحية وقياداتها تتبع هدى الانجيل الطاهر وسناء التعاليم السيدية ويكفّ نفر منها غير قليل عن التذرّع بصعوبة هنا أو هناك ويقبلوا الحق في قلوبهم وعقولهم، على مثال الكردينال جون نيومان الذي كتب: “ألف صعوبة لا تنشيء عندي شكّا واحدا”، وكأننا بكلماته صدى لقول القديس بولس الرسول: “انا عالم بمن آمنت!”