قال السيد الرب يشبه ملكوت السموات كنزاً مخفى في حقل، وجده إنسان فأخفاه. ومن فرحه مضى وباع كل ماكان له واشترى ذلك الحقل”.”وأيضاً يشبه ملكوت السموات إنساناً تاجراً يطلب لآلىء حسنة.فلماوجدلؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما كان له واشتراها”(مت13 : 14، 15).
وهنا نسأل : ماهو الكنز ؟
من الجائز أن يكون هو الملكوت . إذ قيل في بداية المثل “يشبه ملكوت السموات”. فالكنز هو الملكوت، أو هو الخلاص.
ويمكن أن يكون الرب نفسه هو الكنز، كما تقول المزامير “الرب قد ملك” (مز92: 1) (مز96 : 10) (مز97 :1 (مز99 :1). لأن الملكوت هو ملكوت الرب. فيكون الكنز هو الرب وملكوته.
قيل إن هذا الكنز كان مخفي في حقل :
وهنا نضع أمامنا ملاحظة عجيبة. وهي أن كثيراً من الناس إذا رأوا حقلاً ، يهتمون بالشيء الظاهر فيه، أي يهتمون بما فيه من أشجار، ومن ثمار وخضروات وباقي المزروعات… دون أن يهتموا بما هو مكنوز فيه…! بينما الكنز المخفي في الحقل هو أهم مافيه…
مثال ذلك مَنْ تعجبه آية فيحفظها ويكررها، دون أن يدرك العمق الذي فيها، واللؤلؤ الكثير الثمن الذي فيها ! هذا الذي لايجده إلا بتأمل روحي عميق. مثل هذا اهتم بالحقل في مظهره الخارجي، دون الكنزالمخفي فيه…
يوصف الكنز بأنه شيء ثمين كان مخفى. والكل يطلبونه، ويفرحون عندما يجدونه. ويتعلق قلبهم به. ولذلك يقول الكتاب :”حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك أيضاً ” (مت 6: 21).
أما إن كان الكنز هو كتابنا المقدس:
فكلمة (مخفى) تدل على المعاني العميقة المخفاة فيه، التي لايراها كل أحد… كم من معانٍ وحقائق كانت مخفاة فيما يحويه الكتاب المقدس من رموز ونبوات. كان اليهود يقرأونها “والبرقع موضوع على قلوبهم” (2كو 3: 15). فما كانوا يفهمون ولا يدركون، ولا ينكشف الكنز لهم … !.ولذلك فإن الرب، لما التقى بتلاميذه بعد القيامة، قيل عنه :
“حينئذ فتح ذهنهم، ليفهموا الكتب ” (لو 24 :45).
ليتنا إذن نقرأ الكتاب بعمق، لنعرف الكنوز المخبأة فيه، ولا نكتفي بقراءة سطحية تهتم بزهور الحقل دون كنوزه ! وأحياناً يكشف الله لنا تلك المعاني الروحية دون أن نطلب.
تصلي مثلاً مزموراً طالما كررته من قبل. ولكنك في مرة معينة ينكشف لك جمال معين في بعض آياته، ماكنت تراه قبلاً، ولم تسعَ إلى فحصه والتأمل فيه… وتشعر أنك وجدت كنزاً مخفى في حقل…
قيل في هذا المثل إنه لما وجد الكنز أخفاه (مت 13: 44). فماذا تعني كلمة (أخفاه)؟ إنها تذكرنا بقول المرتل في المزمور :” أخفيت أقوالك في قلبي، لكي لا أخطىء إليك” (مز 119 :11).أي كنزتها في قلبي، أغلقت عليها في قلبي، حتى لاتخرج منه. وفيما هي في قلبي، تختلط بمشاعري وأحاسيسي، وتصبح جزءاً من كياني.
هذا كله من جهة كلام الله ككنز. هذا الذي قال عنه المرتل في المزمور “أحببت وصاياك أفضل من الذهب والجوهر” (مز119 :127) وأيضاً “أبتهج أنا بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة” (مز119 :162).
أما إن كان المقصود بالكنز : السيد المسيح ، فقد كان مخفياً عن الناس، حتى أهل عصره الذي وُلد فيه.
ماكانوا يعرفون أنه ابن الله. “لأنهم لو عرفوا، لما صلبوا رب المجد” (1كو 2: 8). حتى أن بطرس لما اعترف قائلاً “أنت هو المسيح ابن الله الحي”، طوّبه الرب وكافأه (مت16: 17، 16). وذلك لأن أناساً كانوا يقولون عنه إيليا أو أرميا، أو يوحنا المعمدان. أو واحد من الأدباء” (مت 16 :13 ،14).
والشيطان سأله على جبل التجربة قائلاً “إن كنت ابن الله، فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً .” (مت 4 : 3).
وحتى رئيس الكهنة قال له أثناء محاكمته أمام مجلس السنهدريم “أستحلفك بالله الحيّ أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله ؟” (مت 26: 63). ولما عرف منه ذلك، مزق ثيابه وقال : قد جدّف !!
حقاً كان المسيح كنزاً مخفى في حقل هذا العالم، وكان كنزاً مخفى في الكتاب، وسط نبوات ورموز كثيرة.
نتابع مثل الكنز المخفي… سواء كان المقصود بالكنز : الملكوت، أو الخلاص، أو الكتاب المقدس، أو الرب نفسه… فنرى أن المثل يقول عمن وجده إنه .مضى وباع كل ماكان له، واشتراه…
كما سبق وقال الرب “لاتكنزوا لكم كنوزاً على الأرض… بل اكنزوا لكم كنوزاً في السماء… لأنه حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك أيضاً ” (مت 6: 19 -21).
ولعل إنساناً يقول “أنا لا أملك كنوزاً على الأرض لكي أتركها للرب” … أقول لك: أترك ما تكنزه في قلبك من شهوات عالمية، ومن رغبات جسدية أو أرضية، لأن كل ما في العالم، هو شهوة الجسد، وشهوة العين، وتعظم المعيشة” (1يو 2: 16).ولكي تصل إلى هذا، ينبغي أن تعلم أن الكنز السماوي ثمين جداً :
فالتاجر الذي كان يطلب لآلىء ثمينة، لاشك أنه كانت عنده لآلىء كثيرة. لكنه “لما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ماكان له واشتراها”. اكتفى بهذه اللؤلؤة الواحدة. لأن “الحاجة إلى واحد” كما قال الرب لمرثا (لو 10: 42).
فليتك تشعر بقيمة هذا الواحد بالنسبة إليك، لكي تبيع كل شيء من أجله، وتوجد فيه، وتغني مع داود النبي “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب” (مز 34 :8) .حقاً، إن الذين ذاقوا حلاوة الرب، تركوا كل شيء لأجله ولم يشتهوا شيئاً آخر سواه أصبح هو لهم كل مايحبونه ويتمنونه.
ابراهيم أبو الآباء ترك عشيرته وأرضه وبيت أبيه. ومضى وراء الرب، وهو لايعلم إلى أين يذهب (عب 11 :8). حتى أبنه الوحيد، لم يجد مانعاً من أن يقدمه محرقه للرب (تك22). بل الشهداء قدموا حياتهم للتعذيب، لكي يتمتعوا بالرب في السماء. كان الله هو اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن، التي بسببها باعوا كل شيء واشتروها. وفرحوا بذلك جداً.