كان ملاك كنيسة لاودكية واحداً من أكبر المخدوعين على هذه الأرض ، وهو ضحية نفسه أكثر من أن يكون ضحية لخداع الآخرين له : « لأنك تقول إنى أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لى إلى شئ ، ولست تعلم أنك أنت الشقى والبئس وفقير وأعمى وعريان» (رؤ 3 : 17).. ولسنا نعلم لمن كان يقول هكذا، .. أغلب الظن أنه كان يقوله لنفسه ولغيره من الناس، فهو مقتنع فى قرارة نفسه بأنه على خير حال ، وليس شئ أبدع مما هو عليه ، وهو لا يخفى هذه الصورة عن الذين يلتقى بهم أو يتعامل معهم ، وأنت تحس نغمة الخيلاء والكبرياء والاكتفاء الذاتى التى تملؤها من هامة الرأس إلى أخمص القدم ، . والخداع مصيبة من أكبر المصائب التى لا يكاد يفلت منها أحد من الغالبية العظمى من بنى الإنسان ، وهو يدرى أو لا يدرى ، فهو أشبه بذلك الأمريكى الذى تعرف على شاب أجنبى ، وكانا يعملان فى مصنع فى إحدى الشركات الأمريكية فى مدينة ديترويت ، وتباسطا معاً فى الحديث ، وقال الأجنبى لزميله الأمريكى : هل يشعر بالفخر لأنه وُلد فى مثل هذه البلاد الواسعة الغنية ، ولكنه دهش كثيراً حين أخذ الأمريكى يشكو له مر الشكوى من الأجور ، والنقابات ، والضرائب ، ورجال السياسة ، والحكومة على وجه عام .. ورد عليه الآخر قائلاً: لماذا لا تفعلون كما نفعل نحن عندنا ، … إننا نقوم بثورة تقذف بمن لا نريد ، ونبدأ حياتنا من جديد .. فرد الأمريكى عليه بغضب شديد ، اصغ إلىَّ .. إذا لم تكن راضياً عن الطريقة التى ندير بها أمورنا فلماذا لا تعود من حيث أتيت !!؟ ومن الطرائف أيضاً ما قصه أحد الضباط ، وهو يعبر عن حبه لرئيسه الأميرال فى البحرية إذ قال : فى يوم من الأيام شاء سوء الحظ أن يلعب دوره البالغ مع أحد الضباط إذ ارتكب خطأً فادحاً ، فما كان من الأميرال إلا أن صرخ فى وجهه: أغرب عن وجهى . أنت مطرود من الخدمة ، .. ومن المؤسف أنى أنا أيضاً ارتكبت ذات الخطأ ، فما كان من الأميرال إلا أنه فعل ذات الشئ معى وقال أخرج أنت أيضاً .. أنت مطرود!! .. ولم تكد تمضى لحظة حتى دخل الأميرال علينا غرفتنا ، وهو يقول فى استياء ظاهر .. لقد طردت نفسى من الخدمة كذلك !! .. ومثل هذا الرئيس من النادر أن تجده بين الناس ، ليحكم على نفسه ذات الحكم الذى يحكم به على الآخرين وهو يذكرنا برئيس آخر دخل إليه أحد الموظفين بادى الألم ، مجروح القلب ، لأن ابنه رسب فى الامتحان ، وإذ أبلغ النبأ لرئيسه انهال عليه بالتقريع ، وهو يؤكد له أن هذا الرسوب ليس إلا نتيجة لسوء التربية وإهمال البيت وعدم أخذ الأولاد بالشدة . .. وفى اللحظة نفسها وصلت برقية ، تقول إن ابنه هو أيضاً رسب فى الامتحان !! .. فما كان منه إلا أن قال : إن الولد صغير – أى ابنه – ويمكن أن ينجح فى السنة التالية ، .. أليس هذا ما ينطبق عليه قول السيد: «ولماذا تنظر القذى الذى فى عين أخيك وأما الخشبة التى فى عينك فلا تفطن لها » ( مت 7 : 3 ) … أجل !! وهل عرفت المثل القائل الناس أربعة : رجل يجهل ، ويجهل أنه يجهل ، ذلك مدعىَّ اتركه ، … ورجل يجهل ويعلم أنه يجهل ، ذلك بسيط علِّمه !! .. ورجل يعلم ويجهل أنه يعلم ذلك نائم أيقظه ، .. ورجل يعلم ويعلم أنه يعلم ، ذلك معلِّم اتبعه ، .. والبادى من المثل أن هناك أشياء فى الغالبية المطلقة من الناس تجعلها تتنكر للحقيقة ، ولا ترغب فى الاعتراف بها ، .. وقيل إن سقراط وهو يجادل أحدهم ، قال له أنا أعلم منك ، وقال له الآخر : وكيف تقول هكذا !! ؟ .. فأجاب : لأنى جاهل وأدركت جهلى ، لكنك أنت لم تدرك جهلك بعد !!.. كان هذا الأخير من النوع الذى وصف به ملاك كنيسة لاودكية ، الذى كان مفتوناً بنفسه، وهو أشبه الكل بالسكير الذى يترنح بسكره ، وهو يقول: «أنا جدع» أو ما أشبه من عبارات الهزيان والحماقة ، ويكفى أنه كان على أسوأ حال ، ومع ذلك يهنئ نفسه : «إنى أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لى إلى شئ» ..
كانت مدينة لاودكية تقع على مقربة من كولوسى ، بين كولوسى وفيلادلفيا ، وقد دمرها زلزال عام 62 م . لكنها كانت مدينة غنية ، بها مدارس طب ، واشتهرت بالتجارة فى الصوف الجيد ، وقد أبت عليها كبرياؤها أن تطلب معونة من أحد إثر الزلزال المذكور ، وأعادت بناء نفسها ، .. ويبدو أن ملاك الكنيسة كانت ثروته المادية كبيرة ، وعلى نفس المستوى من الكبرياء التى كانت لمدينته ، وهو مكتف بالذات ، ويرفض أن يعترف بحاجته إلى شئ ، .. وهو فى نظر السيد على أسوأ صورة يمكن أن يكون عليها الإنسان !! .. فهو ليس ثقيل الظل سمج التصرف فحسب ، بل هو أكثر من ذلك كثيراً ، وإذ أنه ثقيل على قلب المسيح : «أنا مزمع أن أتقيأك من فمى» (رؤ 3 : 16).. أيها الفاتر فى كنيسة اليوم ، هذا هو شعور المسيح بالتمام من نحوك !! .. وما أكثر الملايين ممن ينتسبون إلى المسيح ، ويعدون أعضاء فى الكنائس ، ولا يسمعون سوى هذه العبارة من السيد ومن المؤلم أن بلادة الحس تتملكهم جميعاً ، وهذا هو معنى الفتور ، ومن الغريب أن السيد المسيح يقول : « ليتك كنت بارداً أو حاراً » .. وإذا كان الحار الملتهب فى حياته الروحية ، أمره معروف ومنتظر ومقبول ، إذ أنه غيور فى كل شئ ، على مجد سيده ، إلا أن المعنى يبدو غريباً فى تفضيل البارد على الفاتر !! .. ولكن الأمر مع ذلك ليس بغريب ، إذ أن الأمل فى البارد أفضل بما لا يقاس من الأمل فى الفاتر ، .. فالبارد هو ذلك الإنسان الواضح فى بعده عن الإيمان المسيح ، كالزانى والفاسق والقاتل والعشار ، .. ومثل هذا الإنسان إذا تاب ونهض ، يمكنه أن يصعد إلى قمة الحياة الروحية ، على عكس الفاتر ، الذى تبلد حسه ، وتشكل على الوضع الذى نراه فى الغالبية ممن ينتسبون إلى المسيحية ، والذين هم العقبة الكؤود أمامهم فى طريق الوصول إلى القوة والانتصار ، .. وقد يعد الفاتر نفسه مسيحياً ، وقد يأخذ طريقه إلى أول الصفوف فى الكنيسة ، ولكن المسيح ، مع ذلك ، بالنسبة له خارج الباب ، ولم يدخل بعد،.. هل أتاك حديث ذلك الزنجى الأمريكى الذى طرق كنيسة للبيض ، فى الولايات المتحدة ، وطلب الانضمام إلى عضويتها، … ووقف الراعى محرجاً ، لأنه إذا قبله ، فإن الكنيسة كلها ستثور ضده ، وإذا رفضه، فإنه لا يوجد سبب صحيح يدعو إلى ذلك إذ كان الزنجى مسيحياً مؤمناً ، وطلب الراعى من الزنجى أن يصلى ، وبعد ذلك يتقابلان !! .. وأدرك الزنجى معنى الجواب ، فخرج. وبعد شهور التقى بالراعى صدفة فى الطريق ، .. وقال له الراعى : إنك لم تعد !! .. فأجاب: لقد صليت وأعطانى المسيح الجواب . فقال له : ماذا قال لك!!؟.. فأجاب : قال لى لا تأسف فأنا ما أزال على باب هذه الكنيسة واقفاً منذ عشرة أعوام ، ولم يسمح لى أحد بالدخول !!.. إن الرجل الفاتر هو الذى يأتى إلى الكنيسة مرة كل أسبوع أو كل بضعة أسابيع ، والعبادة عنده لا تزيد عن كلمات أو صلوات أو ترانيم تلوكها الشفاه ، وهو يستمع نائماً أو شبه نائم أو لمجرد التأثر الوقتى الذى ينتهى فى الحال ، .. هو رجل ما يزال المسيح واقفاً على باب كنيسته أو باب قلبه !! .. وهو مسيحى اسماً لا حقيقة ، والمسيحى الفاتر هو الذى لا ينتظر أن تكلفه المسيحية شيئاً أو تضحية مهما كان نوعها ، وهو يتصور أنه أعطى لمجرد أنه ألقى ببعض المال فى صندوق العطاء ، وهو الذى يقف متفرجاً على جهد الآخرين دون أن يحس بأنه ملزم بجهد مماثل، وأن هذه هى رسالته فى الحياة ، … وهو لا يكاد يرى مسئوليته فى نشر كلمة اللّه وهداية النفوس الضالة وربحها للمسيح !! .. وقد انعكس هذا كله فى ما وصفه المسيح به من أوصاف : «ولست تعلم أنك أنت الشقى والبئس وفقير وأعمى وعريان » … وأى تعاسة أقسى وأشد من هذه الأوصاف المرعبة ، وهل هناك شقاء أرهب من شقاء الحياة التى تحاول عن طريق متاع الدنيا ، أن تصل إلى سعادتها الحاضرة أو العتيدة ، دون جدوى ، وهل هناك بؤس أكثر من بؤس الإنسان الذى يترك المسيح خارج حياته دون أن يجعله سيداً ورئيساً على هذه الحياة !! .. هل قرأت البؤساء أعظم ماكتب فيكتور هوجو ، وهو يصور المعذبون فى الأرض ؟ !! .. إن هذا الكتاب على عظمته فى تصوير البؤس والبؤساء لا يساوى شيئاً بجانب تصوير دانتى ، فى كتاب الكوميديا الإلهية ، للجحيم حيث يتلظى البؤساء المعذبون فيه بالهلاك الأبدى الذى لا ينتهى . اقرأ هناك عن الذين عاشوا على الأرض ملوكاً أو رؤساء أو رجال دين أو أنبياء كذبة ، وعن بؤسهم العميق وصرخاتهم الرهيبة التى لا تنتهى ، وذلك لأنهم عاشوا على الأرض وهم يزعمون أنهم سادة البشر والمتمتعون فيها بكل شئ ، حتى وصلوا إلى ما ما قاله نابليون فى سانت هيلانة عن الفرق بينه وبين المسيح : « لقد شاد قيصر والإسكندر وشرلمان وأنا امبراطوريات عظيمة ولكن علام كانت عبقرياتنا جميعاً تعتمد !!؟ على القوة .. أما يسوع فقد شاد امبراطوريته العظيمة على المحبة وإلى هذا اليوم يموت الملايين من أجله !! وأية هوة واسعة بين بؤسى العميق وحكمه الخالد ، الحكم الذى يكرز به ويجد الحب والتمجيد والانتشار فى الأرض كلها » .. فإذا أضفنا إلى هذا أنه عندما يكون المسيح خارج حياة الإنسان ، فالإنسان ليس فقيراً فحسب ، بل هو الفقر بعينه « لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه » ؟ .. ( مت 16 : 26 ) .. لم يكن ملاك كنيسة لاودكية غنياً بما يملك من متاع الدنيا ، وهو يغبط نفسه ، بل كان المسكين الحقيقى والفقير فقراً مدفعاً !! .. وهو إلى جانب هذا كله أعمى إذ طمست الخطية والضلال كل شئ أمام عينيه ، .. وما أكثر ما غرقت كنائس فى الظلم العميقة والليل البهيم لأن قادتها كانوا هم أيضاً غارقين فى العمى والظلام !! ……. والكل يقود إلى خـــــــزى ما بعده خـــــــزى وعار ما بعــده عار : « وعريان » ..