موسى والصداقة الإلهية



الصداقة الإلهية:

لم تقف طلبات موسى من إلهه؛ حقًا قد عادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل أن يخطئ الشعب بعبادته العجل، ووعد الله أن يفعل ما طلبه موسى، ويسير وجهه في وسطهم، لكن موسى يطمع في عطايا الله اللانهائية، فقد سأل في جرأة “أرني وجهك” [18].
تشجع موسى فسأل الله، طالبًا منه ما لم يتجاسر أحد من قبل على طلبه إذ التهب قلبه بنار الحب الإلهي أراد أن يرى الله كما هو… ماذا يكون؟! أراد أن يتعرف على ذاك الذي لا يدرك ويرى غير المنظور…

فكانت إجابة الرب له هكذا: “أجيز كل جودتي قدامك، وأنادي باسم الرب قدامك، وأتراءف على من أتراءف وأرحم من أرحم… لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش” [19-20].
كأن الله يُجيب موسى: لقد سألت أمرًا أنت لا تحتمله، فأنا لا أبخل على خليقتي، أني أقدم لك كل إحساناتي وخيراتي وأعلن اسمي لك وأتراءف وأرحم، أقدم كل شيء للإنسان، أما وجهي فلا يقدر الإنسان أن يراه ويعيش! إن هذه الرؤيا المجردة الكاملة للاهوت هي فوق كل طاقة بشرية!
في قول موسى “أرني وجهك” إعلان واضح أن معرفتنا لله لا تأتي بحكمة بشرية، إنما بقوة الله،

إذ يقول القديس اكليمندس الإسكندري: [اقتنع موسى أن الله لا يُعرف بالحكمة البشرية… والتزم أن يدخل في الظلام الكثيف (السحاب) حيث كان صوت الله، ليبلغ إلى الأفكار الخاصة بوجود الله غير المدرك ولا منظور. الله ليس في ظلام ولا في مكان، إنما هو فوق المكان والزمان وفوق كل السمات.
كما يقول: [بقوله هذا أشارة بكل وضوح أن الله لا يمكن أن نتعلم عنه بواسطة إنسان، ولا أن نعبر عنه بكلمات، لكننا نعرفه خلال قوته].
الله الذي لا يرى يعلن ذاته داخل النفس قدر ما تستطيع أن ترى، لكن جوهر لاهوته لا يقدر أحد أن يعاينه، إذ لا يعرف أحد الآب كما هو إلاَّ الابن (مت 11: 27، يو 6: 46)،
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن جميع الرؤيا التي تمتع بها الآباء والأنبياء هي من قبيل تنازل الله، معلنًا ذاته قدر ما يحتملون، حتى الخليقة السماوية بجميع طغماتها ترى الله هكذا. الابن وحده هو الذي يعرف جوهر الآب، وقد تجسد لا ليعلن الجوهر الإلهي إنما ليعلن عن ذاته خلال الناسوت.
عندما سأل فيلبس السيد المسيح: أرنا الآب وكفانا، أجابه السيد: “من رآني فقد رأى الآب” (يو 14: 8).
كانت إجابة السيد كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أشبه بهذا: يستحيل عليك أن تراه أو تراني. لأن فيلبس ظن أنه يعرف الله خلال النظر، وحسب نفسه أنه قد عرف المسيح برؤيته له، فأراد أن يعرف الآب هكذا. لكن يسوع أوضح له أنه لم يَرَ بعد حتى المسيح نفسه].
إننا نراه هنا خلال عمله فينا، نتمثل به فنصير خاصته وأصدقاء له، بهذا نعاينه لا في جوهر لاهوته لكن خلال علاقة الحب والشركة معه.

يقول القديس إكليمندس الإسكندري: [من الواضح أنه لا يقدر أحد في هذه الحياة أن يدرك الله بوضوح، لكن أنقياء القلب يعانون الله (مت 5: 8)، إذ يبلغونه خلال الكمال النهائي ].
أخيرًا أجاب الرب موسى سؤاله بقوله: “هوذا عندي مكان، فتقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي إني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي، وأما وجهي فلا يرى” [21-23].
هذا الحديث يُشير إلى التجسد الإلهي، فقوله “هوذا عندي مكان، كأنما يعني، لقد حققت طلبك بالقدر الذي تحتمله، فإني أحملك إلى سرّ التجسد فتقف على الصخرة، أي ترتكز على السيد المسيح (الصخرة الحقيقية). أما قوله تنظر ورائي فيُشير إلى نهاية الأزمنة حيث يجتاز الله على العالم معلنًا حبه فنرى الله خلال التجسد الإلهي، كمن هو في سترة يد الله (المسيح) يرى مجد اللاهوت (في نقرة من الصخرة)، فيقول مع الرسول يوحنا: “ورأينا مجد مجدًا كما لوحيد من الآب” (يو 1: 14).
وللقديس باسيليوس تفسير روحي لإجابة الرب، إذ يقول: [ماذا يعني بقوله عندي مكان سوى الرؤيا في الروح؟ التي لما صار موسى فيها استطاع أن يرى الله ظاهرًا له بطريقة تمكنه من التعرف عليه. هذا هو المكان الخاص بالعبادة الحقيقية، فقد قال: “إحترز من أن تصعد محرقاتك في كل مكان تراه، بل في المكان الذي يختاره الرب” (تث 12: 13). إذن ما هي المحرقة الروحية؟ ذبيحة التسبيح. في أي مكان نقدمها إلاَّ في الروح القدس؟! ممن تعلمنا هذا؟ من المسيح نفسه القائل: “الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق” (يو 4: 23). ولما رأى يعقوب هذا المكان قال: “حقًا إن الرب في هذا المكان” (تك 28: 16). الروح هو مكان القديسين، والقديسون هم مكان خاص بالروح، إذ يقدمون أنفسهم لسكن الله ويسمون هيكل الله. وذلك كما يتحدث بولس عن السيد المسيح قائلًا أنه يتكلم في حضرة الله، كذلك يتكلم في الروح بالأسرار والروح يتكلم أيضًا فيه].

هل تبحث عن  War Room

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي