كان نحميا رجل إيمانٍ أحدث الله به نهضة روحية عظيمة، وهذا ما تُظهره حياته ومواقفه المختلفة، إن الحياة الروحية تبدأ بوجود علاقة حقيقية بالله، علاقة تبني من الله للإنسان، وهكذا كان نحميا، إنسان يُدرك أنه ابنٌ لله، ورغم أنه كان في السبي وبعيداً عن موطن هيكل الله، إلا أن الله معه يسمعه ويستجيبه حين يُصلي، كانت المهمة التي سيقوم بها كبيرة، وعوائقها أكبر، لكن إيمان نحميا وثقته في إلهه كانت بلا حدود، فقام وذهب إلى أورشليم وهناك واجه الأعداء والروح الانهزامية في الشعب، لكنه بإيمان الواثق تخطى كل تلك المعوقات وأنجز المهمة التي من أجلها جاء، ألا وهي بناء السور، لكنه وهو الرجل ذو العلاقة الخاصة بالله، أدرك أن مهمته الأكبر، ليست الأسوار المنيعة، ولا المصاريع الآمنة، ولا حتى الروح المعنّوية التي أعادها في الشعب. لم تكن كل هذه كافية لبناء أمة متماسكة، إنما الأهم من ذلك كله هو الحياة الروحيّة العميقة بين الإنسان والله، وكما قام ببناء الأسوار ورمم الثُغر، شرع في بناء الحياة الروحية لدى الشعب، متعاوناً مع عزرا. وهكذا “اجْتَمَعَ كُلُّ الشَّعْبِ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِلَى السَّاحَةِ الَّتِي أَمَامَ بَابِ الْمَاءِ، وَقَالُوا لِعَزْرَا الْكَاتِبِ أَنْ يَأْتِيَ بِسِفْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى الَّتِي أَمَرَ بِهَا الرَّبُّ إِسْرَائِيلَ. فَأَتَى عَزْرَا الْكَاتِبُ بِالشَّرِيعَةِ أَمَامَ الْجَمَاعَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكُلِّ فَاهِمٍ مَا يُسْمَعُ فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِعِ، وَقَرَأَ فِيهَا أَمَامَ السَّاحَةِ الَّتِي أَمَامَ بَابِ الْمَاءِ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ أَمَامَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْفَاهِمِينَ. وَكَانَتْ آذَانُ كُلِّ الشَّعْبِ نَحْوَ سِفْرِ الشَّرِيعَةِ” (نحميا 8: 1-3).
لم يحدث أن تجمّع الشعب حول سفر الشريعة منذ زمنٍ بعيد، لكنهم اجتمعوا كلهم، ليسمعوا وليفهموا ما يقوله لهم، وكان تجاوبهم رائعاً، يقول الكتاب “وَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْبِ: «آمِينَ آمِينَ!» رَافِعِينَ أَيْدِيَهُمْ، وَخَرُّوا وَسَجَدُوا لِلرَّبِّ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى الأَرْضِ” (نحميا 8: 6).
أمام كلمة الله عرف كل الشعب مدى خطيئتهم، فبكوا وناحوا، ولما رأى نحميا وعزرا واللاويون هذا المنظر “قَالُوا لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: «هَذَا الْيَوْمُ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلَهِكُمْ. لاَ تَنُوحُوا وَلاَ تَبْكُوا». لأَنَّ جَمِيعَ الشَّعْبِ بَكُوا حِينَ سَمِعُوا كَلاَمَ الشَّرِيعَةِ. 10فَقَالَ لَهُمُ: «اذْهَبُوا كُلُوا السَّمِينَ وَاشْرَبُوا الْحُلْوَ، وَابْعَثُوا أَنْصِبَةً لِمَنْ لَمْ يُعَدَّ لَهُ لأَنَّ الْيَوْمَ إِنَّمَا هُوَ مُقَدَّسٌ لِسَيِّدِنَا. وَلاَ تَحْزَنُوا لأَنَّ فَرَحَ الرَّبِّ هُوَ قُوَّتُكُمْ” (نحميا 8: 9- 10).
على أن اليوم التالي شهد اجتماعاً على مستوى “رُؤُوسُ آبَاءِ جَمِيعِ الشَّعْبِ وَالْكَهَنَةِ وَاللاَّوِيُّونَ إِلَى عَزْرَا الْكَاتِبِ لِيُفْهِمَهُمْ كَلاَمَ الشَّرِيعَةِ، ” (نحميا 8: 13).
لقد أعاد نحميا الحياة الروحية المفتقدة للشعب، أعاد لهم علاقتهم مع الله، أعاد لهم أعيادهم، فلأول مرة -منذ زمن يشوع بن نون- يحتفل الشعب بعيد المظال (نحميا 8: 14)؛ أعاد التوبة والاعتراف (نحميا 9: 1- 5)؛ عمل على تطهير بيت الله (نحميا 9: 9)، أعاد تكريس تقديم العشور، وشجعهم على العطاء (نحميا 13: 5، 12)، وأعاد تقديس يوم الرب (نحميا 13: 15- 22)، وحرَّم الزواج بالغرباء والأمم (نحميا 13: 23- 28).
بث نحميا في الشعب روحاً جديدة، وحياة جديدة، وأسلوباً جديداً لجعل النهضة الروحيّة واقعاً معاشاً بين الناس، استطاع بخبرته الروحية، وبرؤيته الواضحة، ودقة تخطيطه، وروحه المتضعة، ومثابرته في العمل، أن يكون نموذجاً يُلهب في تابعيه شرارة الحركة ويُلهمهم النهضة الروحية.