نشاط يوحنا ومواعظه

نشاط يوحنا ومواعظه

يقول إنجيل لوقا أن يوحنا بدأ نشاطه العلني في السنة الخامسة عشر من حكم تيبريوس،[لوقا 31] ومن الثابت تاريخيًا أن تيبيروس أصبح إمبراطورًا عام 14 هذا يعني أن يوحنا المعمدان قد بدأ نشطاه بين عامي 28 أو 29،
ويُسمى في النص الإنجيلي “يوحنا بن زكريا” ويقول أنه انتقل من البرية إلى النواحي المحيطة بنهر الأردن، ويشير دارسو الكتاب المقدس إلى رمزية خاصة في اختيار نهر الأردن، ففي هذا المكان تحديدًا وعلى ما يروي سفر يشوع جدد بنو إسرائيل ميثاقهم مع الله بعد أن تاهوا في الصحراء أربعين عامًا. ومن هناك “أخذ ينادي بمعمودية التوبة لمغرفة الخطايا”. ويضيف إنجيل متى تفصيلاً آخر: “كان يوحنا المعمدان يبشر قائلاً: “توبوا فقد اقترب ملكوت السموات””.[متى 32] وهو بذلك كما يرد في إنجيل متىومرقسولوقاويوحنا يحقق النبؤة التي وردت عنه في سفر أشعياء:
نشاط يوحنا ومواعظه صوت منادٍ في البرية، أعدّوا طريق الرّب واجعلوا سبله مستقيمة. كل وادٍ سيردم وكل جبل وتل سينخفض وتصير الأماكن الملتوية مستقيمة، والأماكن الوعرة طرقًا مستوية، فيبصر كل البشر الخلاص الإلهي
نشاط يوحنا ومواعظه
وبذلك فحسب علم اللاهوت لم يكن يوحنا بن زكريا ينادي بالتوبة إلى الله والدعوة لغفران الخطايا فقط، بل كان يمهد الطريق ويعده أمام يسوع القادم من بعده. وحسب الرواية الرسمية في الأناجيل، فإن نشاط يوحنا نال صدىً وتجاوبًا في تلك المناطق فتقاطرت إليه الجموع طالبة التوبة حتى “خرج إليه أهل أورشليم ومنطقة اليهودية كلها وجميع القرى المجاورة للأردن”.[متى 35] ويقول “التفسير التطبيقي للعهد الجديد” أنه بلا شك فقد وفد إليه البعض بدافع الفضول،
خصوصًا أن صفات يوحنا كانت غريبة كما تجمع الأناجيل الإزائية على وصفه، يلبس ثوبًا من وبر الجمال ويشدّ وسطه بحزام من جلد ويأكل الجرادوالعسل،[متى 34] وهو ما يناسب عمومًا الحياة البرية التي كان يوحنا قد عاشها وإن كنا لا نعرف وافر التفاصيل عنها. أيضًا فإن من العناصر التي ساهمت بجذب الناس نحو يوحنا كما يقول النقاد هو هجمومه العنيف على الملك هيرودوس أنتيباس والقادة الدينيين من فريسيينوصدوقيين، وإظهاره أخطائهم على العلن وحاجتهم للتوبة كعامة الشعب، وذلك كان جسارة كلفته حياته لاحقًا.كان يوحنا يعظ الجموع ويوبخها حتى أنه وصفها “بأولاد الأفاعي”،[لوقا 37] ويخصّ إنجيل متى العبارة السابقة للفريسيينوالصدوقيين منهم فقط، وربما يعود سبب ذلك لكون إنجيل لوقا وجه إلى اليونانيين الذين لا يعرفون تقسيمات المجتمع اليهودي وأحزابه على العكس من إنجيل متى الذي وجه إلى يهود الشتات. وأيًا كان فإن سياق النصّ يظهر أن يوحنا إنما كان يقرع من يكتفي بالمعمودية لغفران الخطايا دون أن يدعمها بالأعمال: “فاثمروا ثمارًا تليق بالتوبة”.[لوقا 38] أي أنه دعاهم لعدم العماد خوفًا من العقاب بل حبًا بالله. كما يقرع يوحنا أيضًا اليهود منتقدًا عقيدة “شعب الله المختار”: “لا تقولوا لنا إبراهيم أبًا، فإني أقول لكم إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولادًا لابراهيم”.[لوقا 38] ويقول “التفسير التطبيقي للعهد الجديد” أنه لا بدّ أن كثير من اليهود قد صدموا حينما سمعوا يوحنا يقول أن النسب والبنوة لا تنفع، وأن العلاقة مع الله لا تحددها سلاسل الأنساب. ويقدّم قولاً كان له دور بارز في النقاشات اللاهوتية اللاحقة في الحياة المسيحية حول علاقة الإيمان والعمل بالخلاص: “ها إن الفأس أيضًا قد وضعت على أصل الشجر: فكل شجرة لا تثمر ثمرًا جيدًا تقطع وتطرح في النار”.[لوقا 39] أي أن يوحنا من جديد أعاد الإعلان حول تلازم الأعمال الصالحة مع الإيمان الصادق. وعندما سألته الجموع عن الوصايا التي من الواجب اتباعها نصحهم يوحنا بعدم الطمع وإعالة الفقراء ومشاركة المحتاجين، وكذلك الابتعاد عن الأنانية واللامبالاة.
ولم تشمل دعوة يوحنا اليهود فقط بل الجند الرومان أيضًا، فعندما بادروا بسؤاله قال لهم: “لا تظلموا أحدصا، ولا تشتكوا كذبًا على أحد”.[لوقا 314]
أما المعمودية التي كان يوحنا يقوم بها فهي رمز للاغتسال من الخطايا وبالتالي شكلت طقسًا عمليًا لرسالته القائمة على التوبة والإصلاح.
نشاط يوحنا المعمدان كان قد تم خلال فترة عصيبة من تاريخ بني إسرائيل، إذ لم يرسل نبي لبني إسرائيل منذ أربعة قرون، وتحديدًا منذ عهد النبي ملاخي حسب الديانة اليهودية، وهذا ما خلق حالة من الانتظار لدى بني إسرائيل ليس فقط لنبي بل “للمسيح” الذي وعد به من أيام داود مخلصًا لبني إسائيل ومقيمًا للعدل والسلام على الأرض، ولذلك “كان الجميع يسائلون أنفسهم عن يوحنا: “هل هو المسيح؟”.[لوقا 315] أما جواب يوحنا فقد كان واضحًا بأنه ليس هو “المسيح”، بل قال إن المسيح حينما يأتي من بعده، لا يستحق يوحنا “أن يحل رباط حذائه”، وقال أيضًا أن المسيح حينما يأت سيعمد بالروح القدس.[لوقا 316] ووفق العقائد المسيحية فإن يوحنا إنما كان يشير في حديثه إلى يسوع نفسه، ووفق هذه العقائد أيضًا فإن نبؤة يوحنا المعمدان عن “معمودية الروح القدس” قد تحققت فعلاً حين نزل الروح القدس على التلاميذ الاثني عشر وجموع من المؤمنين معهم، بعد عشرة أيام من ارتفاع يسوع إلى السماء حسبما جاء في سفر أعمال الرسل. وقد كتب العديد من اللاهوتيين وآباء الكنيسة عن سبب استخدام يوحنا للمعمودية، ويمكن جمع أبرز الآراء بأن يوحنا قد استخدم عملاً رمزيًا يستطيع الناس أن يروه ليدركوا ما هو مطلوب منهم أن يفعلوه، فالاغتسال الخارجي إنما هو رمز “لاغتسال داخلي من الخطيئة” وبمعنى آخر فإن يوحنا كان يعمد الناس علامة على أنهم التسموا من الله أن يغفر خطاياهم، وغير أن العماد يظل علامة خارجية أما اللامة الحقيقية فهو بتغيير مواقفهم وارتدادهم عن الخطيئة. إلى جانب كون المعمودية عادة منتشرة في المجتمع اليهودي، وكثيرًا ما كان اليهود يعمدون غير اليهود الراغبين في اعتناق اليهودية، أما الكنيسة الأولى فقد ذهبت بالمعمودية لتفسير جديد وربطتها وبين موت يسوع وقيامته.
إنجيل يوحنا بدوره يستعرض يوحنا المعمدان بأسلوبه اللاهوتي الخاص، ومن المتفق عليه بين علماء الكتاب المقدس أن إنجيل يوحنا ليس “تاريخ حياة” بل مجرد تقديم فكري عن يسوع وذلك يغلب عليه الطابع اللاهوتي والفلسفي الماورائي لأقوال يسوع وتعاليمه بل ومعجزاته أيضًا فيه،
في إنجيل يوحنا يسأل الكهنة اليهود يوحنا عن ماهيته ودوره، فينفي أنه المسيح أو أنه إيليا الجديد أو أنه حتى نبي، وعندما سألوه عن لماذا يعمد أشار إلى “الآتي من بعده”.[يوحنا 1/13-27] ولعلّ خلاصة نظرة الإنجيل الرابع عن يوحنا المعمدان يمكن تأطيرها بما يلي:[يوحنا 1/6-9]
نشاط يوحنا ومواعظه ظهر إنسان أرسله الله اسمه يوحنا، جاء ليشهد للنور من أجل أن يؤمن الجميع بواسطته. لم يكن هو النور بل شاهدًا للنور، فالنور الحق الذي ينير كل إنسان كان آتيًا إلى العالم.
هل تبحث عن  سنكسار يوم الاربعاء 23 يناير 2013

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي