نوح البار

نوح البار والطوفان


“ورأي الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه. فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لأني حزنت أني عملتهم” [5-7].

لم يكن ممكنًا لله القدوس أن يطيق الشر الذي كثر علي الأرض، ولا يتحمل الالتقاء مع النفس التي خلقها كمسكن له أن يري تصورها شريرًا كل يوم، لهذا حزن أنه صنع الإنسان في الأرض. وحينما يقول الكتاب: “حزن” أو “تأسف قلبه” أو “ندم” ، لا نفهم هذه التعبيرات كانفعالات غضب، إنما هي لغة الكتاب الموجهة لنا نحن البشر لكي نفهم وندرك مرارة الخطية في ذاتها وعدم إمكانية الشركة بين القداسة الإلهية والفساد الإنساني. يفسر لنا القديس أغسطينوس معني تأسف الله أنه عمل الإنسان بقوله: [غضب الله ليس انفعالاً يعكر صفاء عقله إنما هو حكم خلاله تقع العقوبة علي الخطية[165]]. كما يقول: [غير المتغير (الله) يغير الأشياء وهو لا يتأسف كالإنسان علي أي شيء عمله، لأن قراره في كل شيء ثابت ومعرفته للمستقبل أكيدة، لكنه لو لم يستخدم مثل هذه التعبيرات لما أمكن إدراكه بواسطة عقول الناس المحتاجين أن يحدثهم بطريقة مألوفة لهم (بلغة تناسبهم) لأجل نفعهم، حتى ينذر المتكبر ويوقظ المستهتر ويدرب الفضولي ويرضي الإنسان المتعقل. فما كان يمكن أن يتحقق هذا إن لم ينحنِ أولاً وينزل إليهم إلي حيث هم (يحدثهم بلغتهم) وبإعلانه موت كل حيوانات الأرض والجو المحيط ليكشف عن عظم الكارثة التي كادت تقترب؛ فهو لا يهدد بإبادة الحيوانات غير العاقلة كما لو كانت قد ارتكبت خطية[166]].

هل تبحث عن  ‏ما اقسي الانسان الذى يحزن خالقه ولا يبالى

هكذا يري القديس أغسطينوس في إعلان الله عن تأسفه أنه خلق الإنسان إنما هو تنازل منه ليحدثنا بلغتنا لندرك مدي ما بلغناه من عدم إمكانية الشركة مع الله مصدر حياتنا، لا بتغير قلب الله من نحونا وإنما بتغيرنا نحن واعتزالنا إياه بقبولنا الفساد الذي هو غريب عن الله. أما تهديده بإبادة الحيوانات والطيور إنما من قبيل محبته الفائقة حتى نعيد النظر من جديد في موقفنا وندرك خطورة الموقف.

العجيب أنه وسط هذه الصورة المؤلمة التي أعلنها الله من جهة بني البشر، لا يتجاهل إنسانًا واحدًا يسلك بالبر وسط جيل شرير، إذ يقول الكتاب: “وأما نوح فوجد نعمة في عيني الله” [٨]. في وسط الظلام الدامس لا يتجاهل إشراقة جميلة مهما بدت صغيرة وباهتة، وفي كل جيل يفرح الله بقديسيه ولو كانوا بقية قليلة وسط فساد عام يملأ الأرض. لقد وجد نوح نعمة في عيني الرب الذي شهد له: “كان نوح رجلاً بارًا كاملاً في أجياله” [٩]. أما قوله: “في أجياله” فتكشف أن بره وكماله ليسا مطلقين، إنما أن قورنا بما يقدمه أجياله من فساد؛ فالإنسان بره نسبي.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي