أولاً – لأن إنكار وحدة سفر أشعياء مؤسس على إنكار القوة الخارقة الطبيعة المتنبئة، أي التي تعرف بالحوادث وتقررها قبل حدوثها.
ثانياً – لأن إنكار وحدته يبطل صحة العهد الجديد وسلطانه.
وفي كلامنا عن هذا المسألة نغض الطرف عن هذا التقسيم السابق لسفر أشعياء إلى ثلاثة أقسام. ونقول إن أشعياء مقسوم إلى قسمين رئيسيين أحدهما من (ص 1 – 39) والآخر من (ص 40 – 66). وأن القسم الأول كتبه النبي اشعياء بن آموص، والقسم الثاني كما يدّعون كتبه نبي مجهول في أثناء سبي بابل. فلنبحث الآن في المسألة.
أولاً من جهة اللغة: قال المعترضون أن اختلاف اللغة في قسمي السفر هو سبب الشك في وحدته. لكن علماء اللغة العبرانية العظام – إلا ما ندر جداً – يقررون أنه لا توجد لازبة لغوية تضطرنا لأن نفكر أن سفر أشعياء كتبه كاتبان أو أكثر. بل قد قالوا أن المشابهة بين أسلوب القسم الأول وبين القسم الثاني لهي أغرب جداً من المشابهة بين أي من القسمين وبين أي سفر آخر من أسفار العهد القديم، والمماثلة بين قسمي السفر عجيبة. بهذا المقدار حتى التزم الذين ينسبون السفر لمؤلفين أن يقولوا أن أشعياء الثاني قد قلد أسلوب أشعياء الأول.
حقاً إننا إذا راعينا طول المدة التي مارس فيها أشعياء النبوة كما اخبرنا هو في سفره – من أيام عزيا إلى أيام حزقيا أي زهاء ستين سنة – وراعينا أيضاً اختلاف المواضيع التي كتب عنها رأينا سبباً كافياً لأن يعلل ما يمكن أن يُرى هنالك من اختلاف الأسلوب. على أننا نقول أن أشعياء الثاني يستعمل كلمات لا تعرف إلا عند أشعياء الأول والتي صارت غير معروفة في أيام أرميا. وأشعياء الثاني يظهر نفسه أن له اصطلاحات علمية لا يشاركه فيها أحد غير أشعياء الأول. هذا ما يؤكده العلامة البروفسور مرجوليوث في كتابه “الدفاع عن وحي الكتاب المقدس”. وهذا العلامة هو أعظم ثقة في العالم في معرفة الكتاب العبراني.
والعلامة بركس في درسه الكلمات المستعملة في أشعياء الأول والثاني والتي لم ترد في سفر آخر من أسفار الأنبياء وجد كلمات كثيرة جداً بحيث قال أن عدد الكلمات المبتدئة بحرف (ألف) أربعون كلمة.
ثانياً من جهة التنبؤ: إن سبب إنكار وحدة سفر أشعياء يتجاوز مسألة لغته إلى مسألة إنكار القوة الفائقة الطبيعة في النبوة. وكما يقول الدكتور باين سميث: إذا رفعنا من الوسط حجر العثرة العظيم الذي هو حقيقة الأنباء بالمستقبل صار كل شيء سهلاً من جهة صحة السفر.
أن يتنبأ النبي عن سقوط بابل ويقول عنها إنها سيدة الممالك بينما لم تكن قد وصلت في أيامه إلى أوج مجدها كسيدة الممالك كما وبينما آشور كانت العدو اللدود للأمة اليهودية، وأن يتنبأ عن الإنقاذ من السبي قبلما يسبى الشعب، وأن يتنبأ أن الخلاص يأتي عن طريق الفرس بينما هاتان الأمتان كانتا منفصلتين عن بعضهما وعديمتي الأهمية عندما تنبأ، وأن يذكر المنقذ من السبي باسمه “كورش” قبل ولادته بمئة سنة، هذه هي حجارة عثرة للذين لا يرون في النبوة إلا فهماً بشرياً وبصيرة رجل صالح يفهم الأزمنة. أما للمؤمنين فهي تثبيت لإيمانهم بالله القدير الذي أوحى لأنبيائه بروحه القدوس
وفي القسم الثاني يقول الله نفسه عن لسان نبيه أن إتمام النبوات الأولى هي أساس للإيمان بأن النبوات الأخيرة لا بد أن تتم (أسش 48: 3 – 5). فهذا القول يكون عديم المعنى إذا لم تكن سابقاً نبوات يشير إليها. ومن ضمن النبوات الواردة في القسم الأول الهجوم على السامرة، وخرابها على يد سنحاريب، وغارته الهائلة على أورشليم، وإنقاذها الأخير وخلاصها النهائي، وإطالة عمر حزقيا.
والآن يطلب الله من شعبه المختار أن ي كونوا شهوده لإتمام ما تنبأ به في الإصحاحات من 40 – 46 (انظر ص 43: 9 و 10) ويتحدى الأصنام، آلهة الأمم، وينازلها إلى المبارزة لإثبات صحة دعواها أو بُطلها – ويتحداها أن تنبئ بحوادث مستقبلة (ص 41: 23 و 42: 7 – 9).
إن ذكر كورش يعتبر معجزة، الغاية منها أن يعلم كل العالم من المشرق إلى المغرب أن الرب الإله هو الإله الوحيد لا سواه (ص 45: 4 – 6).
إن ذكر كورث يعتبر معجزة، الغاية منها أن يعلم كل العالم من المشرق إلى المغرب أن الرب الإله هو الإله الوحيد لا سواه (ص 45: 4 – 6).
إن ذكر كورش باسمه قبل وجوده بزمن مديد قد كان له تأثير كلي في كورش نفسه وفي شعب إسرائيل. فيخبرنا يوسيفوس إن قراءة كورش لنبوة أشعياء عنه قادته لأن يصدر أمره ويقول “هكذا قال كورش ملك فارس أن الرب إله السماء قد أعطاني جميع ممالك الأرض وهو أوصاني أن أبني له بيتاً في اورشليم التي في يهوذا (2 أي 36: 23). فلو كانت النبوة كتبت في بابل حوالي ذلك الوقت عندما كان اسم كورش مشهوراً، ولو كان كورش نفسه معاصراً للوقت الذي كتبت فيه، فهل يصدق أن يكون أن يكون لهذه النبوة تأثير في كورش حتى يصدر الأمر الذي أصدره؟
قد سبقنا ونوهنا عن تأثير نبوة أشعياء في اليهود أنفسهم. فإنهم كانوا قد نـزلوا إلى بابل ولهم ميل شديد إلى الوثنية. ثم رجعوا منها وبقوا إلى يومنا هذا متمسكين غاية التمسك بوحدانية الله. فلا يمكن أن تتغير أمة هذا التغيّر العجيب إلا بالإقتناع بقوة قاهرة. وهذا الاقتناع قد تم لهم عندما لاحظوا أن نبوات أشعياء قد تمت بالحرف الواحد، وتحققوا أن الله قد سبق قرأى هذه الحوادث وأنه أعلمَ بهذه منذ القديم وأخبر بها منذ زمان (ص 45: 21) فرجع قلب الشعب المختار إلى الأبد من الأصنام إلى عبادة الرب الإله.
ثالثاً من جهة التاريخ: إن التاريخ باطراد ينسب القسم الثاني من السفر إلى أشعياء النبي نفسه. ولم يعرف قط زمن وجد فيه القسم الثاني مستقلاً عن القسم الأول أو منفصلاً عنه. ومقرر بأن اتحاد القسمين معاً كان معروفاً من ايام عزرا. فلو كان القسم الثاني قد كتبه احد عاصريه أو نبي عاش في الجيل السابق له لكان عرف ذلك جيد المعرفة. أما إذا تجرأ أحد أن ينسب لعزرا الغفلة أو الغش فذلك يخالف ما هو مشهور عن صفاته وأخلاقه. ومعلوم ان الترجمة السبعينية قد ترجمت سنة 280 ق.م وتحتوي على السفر بأكمله تحت اسم سفر أشعياء بن آموص. وأن احد أسفار الأبوكريفا، المدعو سفر حكمة سليمان، الذي كتب سنة 200 ق.م. يقول: “إن أشعياء قد رأى بروح فائقه ما هو عتيد أن يحدث في الآخر وعزى نائحي صهيون، وذكر ما سوف يحدث إلى الأبد وكشف خفايا المستقبل.
فشهادة التاريخ العمومية تبرهن ببراهين دامغة ضد منكري نسبة القسم الثاني من السفر إلى أشعياء النبي. وكما يقول العلامة إدوارد ستراتشي “إن قوانين المنتقدين المألوفة تستلزم أن نقبل أشعياء كمؤلف للسفر المنسوب إليه بأكمله إلى أن يثبت خلاف ذلك”.
ولنبحث الآن في شهادة العهد الجديد عن وحدة سفر أشعياء: إن شهادة العهد الجديد لهي قاطعة مانعة. فإنه قد ذكر فيه ليس اقل من إحدى وعشرين مرة أن كاتب هذا السفر هو أشعياء النبي. يشار عشر مرات إلى القسم الأول من السفر، وإحدى عشرة مرة إلى القسم الثاني. يقول العلامتان وستكوت وهورت أن سفر أشعياء بأكمله مقتبس منه أو مشار إليه في العهد الجديد أكثر من مئتين وعشر مرات. والقسم الثاني (أي الإصحاحات 40 – 66) مشار إليه أكثر من مئة مرة.
ويشهد كتبة العهد الجديد عن سفر أشعياء بقولهم “كلام أشعياء النبي الذي تكلم به بالروح القدس”. ويذكر متى البشير بوضوح أن كاتب ص 42 من سفر أشعياء هو أشعياء نفسه (مت 12: 17 و 18). ويقول لوقا أن ص 53 من سفر أشعياء قد كتبه أشعياء النبي (أع 8: 28 – 35)، وأن إصحاح 66 قد كتبه أشعياء نفسه (لو 4: 17). ويوحنا كذلك ينسب الإصحاح 53 والإصحاح السادس لأشعياء بالاسم (يو 12: 38: 43). وكذلك بنسب بولس الرسول ص 53 و 65 إلى النبي أشعياء ذاته (رو 10: 16 و 20). فنرى أن كتبة العهد الجديد ينسبون السفر بأكمله إلى أشعياء مميزين بين السفر وبين النبي نفسه الذي كتب السفر (انظر لو 4: 17 و 3: 4 ويو 12: 41)
وأخيراً وحدة القصد: إن وحدة الفكر والقصد في السفر، من أوله لآخره، شهادة قاطعة عن وحدة المؤلف.
إن العلامة مرجوليوث يقتبس أقوال أرسطاطاليس الفيلسوف فيقول: إن صنع الآلة يجب أن يكون متركباً ومؤتلفاً معاً بحيث إذا نـزعنا جزءاً منه يتسبب عن ذلك تحطيمها بأكملها. ويقول إننا إذا طبّقنا هذا المبدأ على سفر أشعياء وجدنا أن وحدة ذلك السفر المنسوب إلى ذلك النبي محققة بطريقة جلية واضحة. والذين أرادوا أن يقسموا سفر أشعياء إلى قسمين وجدوا أنه مستحيل عليهم أن يرسوا على تاريخ متقدم كتب فيه القسم الأول بتمامه من غير مناقضة. وكذلك وجدوا أنه مستحيل عليهم أن يقرروا هل كتب القسم الثاني بتمامه في أثناء السبي البابلي أو بعده لأن سقوط بابل متنبأ عنه (في إصحاح 13 و 14). ولذلك نجد المعترضين، لما تحيروا وارتبكوا، التزموا أن يقولوا أن هذين الإصحاحين وغيرهما من القسم الأول قد كتبا مؤخراً. فمن ذلك نرى تعنت المعارضين وغرض المنتقدين في إنكار معجزة التنبؤ على أنبياء الله الذين قد تكلم الروح القدس على يدهم.
إن هيئة الوثنية التي اشتكي بها على اليهود في ص 57 ووصفت أيضاً في الأجزاء الأولى من السفر قد ارتكبها اليهود في أرضهم قبل السبي. ومحتويات ذلك الإصحاح لا توجد إلا في فلسطين: فما ذكر فيه من الجبال العالية، وشقوق المعاقل، وحجارة الوداي الملس، لا تعرف في سهل بابل المجروف بالمياه. ولذلك اضطر المعارضون أن ينسبوا كتابة هذا الفصل وغيره من فصول القسم ا لثاني إلى عصر أسبق من العصر الذي ادعوا أنه كتب فيه. فبأعمالهم هذه قد جعلوا هذا السفر مرقعاً ترقيعاً وملفقاً تلفيقاً.
ذهب البعض إلى أن سفر أشعياء هو مجموعة كتابات، لكتبة مختلفين، ضمت معاً. ولكن نذكِّر القارئ بأن أسفار الأنبياء الصغار قد خصصت بالشخص الذي عُنونت باسمه، حتى الذين لم يكتبوا إلا إصحاحاً واحداً فقط. إن وحدة الفكر والأسلوب في سفر أشعياء هو دليل قاطع ضد الذين يقولون بتعدد كاتبيه. فإن الذي يطالع سفر أشعياء من أوله إلى آخره يجد نفسه مضطراً أن يعرفه باسمه جيد المعرفة وأنه هو الذي كتبه دون سواه. كان من عادة كتبة اليهود أن يذكر الواحد منهم اسمه في بداءة كتابته، ولا يستثنى منهم اشعياء (ص 1: 1). وكون هذه الآية ليست مقدمة الإصحاح الأول فقط، أو مقدمة أي جزء من السفر، فذلك واضح من ذكره أسماء الأربعة الملوك الذين قد تنبأ في أثناء حكمهم. فقد قصد بذكر هذه النقطة أن تكون ختماً للسفر بأكمله.
لا شك أننا لاحظنا أن الجداول التي تتبعناها في درسنا سفر أشعياء كانت متصلة وغير منقطعة، وأننا اقتبسنا الشواهد من كلا القسمين معاً. إن رؤيا أشعياء في الهيكل، عندما أتته الدعوة للوظيفة النبوية، لهي فاتحة عظمى للنبوة بأكملها. وقد رأينا فاعليتها مما وقع عليه من التأثير عند رؤيته قداسة الله وجلاله. ومن ذلك الوقت نراه طابعاً اسم الله القدوس على جميع نبواته كأنه سبق ورأى الصعوبات التي أمامنا الآن.
ويمكننا أن نقتفي آثار هذه الوحدة أيضاً في عمومية قصد الله نحو كل العالم. ووحدة السفر ترى بهيئة أوسع في النقطة المركزية لذلك السفر أي شخص مسيا (المسيح)، في عمل فدائه العجيب، وفي عمومية ملكوته – ملكوت البر. والخلاص والدينونة، والسلام الذي هو نتيجة ذلك البر، وسلطان الله وجلاله في الخلق بالمقابلة مع الأوثان صنعة أيدي البشر – هذه هي المواضيع التي يتنبأ عنها سفر أشعياء والتي نجدها في السفر كله من أوله إلى آخره بهيئة متصلة غير منقطعة.
[3]- كانت النية من بدء الأمر أن يدفن مع اللصين في مقابر المجرمين ولكن قد حالت دون نيتهم المقادير لأن رجلاً غنياً من الرامة اسمه يوسف تلميذ سري ليسوع تقدم إلى بيلاطس وطلب منه الجسد فرخص له بأخذه فكفنه بكرامة ودفنه في قبره الجديد وبهذه الكيفية تمت النبوة حرفياً.