مات المسيح وكان لابد له أن يموت فى تلك الليلة الحزينة، على ربَوة عالية فى أورشليم، ليموت فيه إنسان العهد القديم بطقوسه الجوفاء، مات الحر ليموت فيه ذل الإنسان وعبوديته للشيطان والموت والخطية، تمزّق الجسد لكي ينطلق حياً بجسد نورانيّ لا يمسّه الفساد.
ولكن إن كان المسيح قد مات بالفعل، إلاَّ أنَّ روحه قد خرجت قوية ومنتصرة وفرحة وليست مجبرة، هكذا تخرج أرواح الأبرار من أجسادهم، أمَّا الأشرار الذين قضوا حياتهم عبيداً للخطية وآلة طيّعة للإثم، فإنهم لا يخافون الموت فقط، بل ويرتعبون من مجرد اسمه، لأنَّهم يعلمون مصيرهم، فحينما يُفكّر الإنسان أنَّه لا محالة ” مائت “، وسوف يُلقى فى قبر مظلم ساكن ليس فيه من يسمع أو يتكلم، كما أنَّه سيقف أمام الديان العادل ليُعطي حساباً عن نفسه، فإنَّ الخوف سرعان ما يملأ قلبه، خاصة إن كان يعلم ما فى قلبه من شرور لم يقدم عنها توبة!
ولا يظن أحد أن المسيح عندما نكّس رأسه وأسلم الروح (يو30:19)، أنَّه استسلم للموت عن ضعف، أو كمن يدفع الجزية لقوة قهرية، بل كمن يسلم نفسه للموت طوعاً برغبته، وقد قال مرّة: ” لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً ” (يو18:10) والدليل:
إنَّه عند موته صرخ ” بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ ” (مت50:27)، فمن أين له هذه القوة الهائلة؟! روحه إذن لم تُغتصب اغتصاباً، لكنّه هو الذي سلّمها بمحض إرادته فى يدي أبيه، فالمسيح الذى كان قوياً فى حياته كان أيضاً قوياً فى مماته، ولهذا صحبت صرخته العظيمة علامات خارقة: إنشقاق حجاب الهيكل، وزلزلة الأرض، وتشقق الصخور، وتفتّح القبور، وقيام كثير من أجساد القديسين الراقدين (مت51:27،52)، فمنذ الدهر لم نسمع أنَّ ميتاً قد أقام الأموات بموته ؟!!