يشوع وهتاف الشعب

هتاف الشعب…

طلب الله من يشوع أن “جميع الشعب يهتف هتافًا عظيمًا” [5] عند سماعهم صوت البوق الذي يضربه الكهنة، “فيسقط سور المدينة في مكانه ويصعد الشعب كل رجل مع وجهه” [5]. وقد ترجم البعض كلمة “هتاف” بمعنى “صيحات الفرح”، بينما يراها البعض مثل العلامة أوريجانوسكهتاف الوحدة التي يصرخ بها الجنود معًا بروح واحدة عندما يتحمسون في المعركة. وكأنما سقوط أسوار أريحا، أو هدم مملكة إبليس لا يتطلب حياة الفرح للفرد منعزلًا عن الجماعة، وإنما هتاف النصرة المنطلق من الجماعة كلها بروح واحد. حقًا إنه هتاف الجهاد الروحي ضد الخطية ومملكة إبليس المملوء رجاءً وفرحًا خلال الوحدة معًا. لهذا يقول المرتل: “اهتفي للرب يا كل الأرض، اعبدوا الرب بفرحٍ” (مز 100: 1)، وأيضًا: “طوبى للشعب العارفين الهتاف” (مز 89: 15).
إذ داروا حول أريحا سبع مرات أُرهقوا جسديًا وصاروا كمن في حكم الموت، عاجزين تمامًا لا عن الحرب وإنما حتى على السير على الأقدام، وهذا إذ يشير إلى الدوران إلى الحياة الأبدية نقول بأن موتهم قد ابتلعته غلبة الأبدية ونصرتها كقول الرسول: “فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة أُبتلع الموت إلى غلبة” (1 كو 15: 54).
وكأن الكل إذ تمتع بالأبدية في المسيح يسوع ينطلق بهتاف الفرح والتهليل علامة الغلبة على الموت والتمتع بنصرة الأبدية، قائلين مع الرسول: “أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا هوية…؟! شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح” (1 كو 15: 55، 57). هكذا يمتزج جهادهم المضني بتهليل قلوبهم. وتلتحم الحرب الروحية بخبرة الفرح السماوي!
لهذا تحدث آباء الكنيسة -حتى النساك منهم- عن حياة الفرح الداخلي في المسيح يسوع، والتهليل وسط دموع التوبة وأتعاب الجهاد الروحي، محذرين من السقوط تحت روح الغم الذي يدخل بنا إلى اليأس فيحطم إيماننا. إنهم يؤكدون التزامنا بالهتاف الداخلي العظيم وسط جهادنا المضني.

يقول الأسقف أغناطيوس بريانشاينتوف: [إن جاءك فكر أو إحساس بالغم فمن المفيد أن تتذكر قوة الإيمان، وكلمات الرب الذي منعنا من الخوف والغم، معلنًا ومؤكدًا لنا مواعيد الله بأنه حتى شعور رؤوسنا محصاة، وأنه ليس شيء يمكن أن يحدث لنا بدون عنايته وسماحه].

ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الخطية لا تحطم كاليأس، فإن من يخطئ متى كان ساهرًا بسرعة يتوب ويصلح ما قد حدث، أما من تعلم اليأس وعدم التوبة فيفشل في إصلاح الأمر بعدم قبوله علاجات التوبة]. كما يتحدث أيضًا عن ارتفاعنا على حزن الضيقات ومرارتها بتقديم هتافات الشكر المفرحة، قائلًا: [ليتنا لا نغرق في ضيقاتنا بل نقدم التشكرات في كل شيء، فنقتني نفعًا عظيمًا، إذ نرضي الله الذي يسمح بالضيقات، الضيقة هي صلاح عظيم. هذا ما نتعلمه من أطفالنا الذين بدون ضيقة لا يتعلمون شيئًا نافعًا، أما نحن ففي حاجة إلى الضيق أكثر منهم].
يركز العلامة أوريجانوس على وحدة الروح في الهتاف المفرح، إذ يعلق على قول المرتل: “طوبى للشعب العارفين الهتاف” (مز 89: 15)، قائلًا: [لم يقل طوبى للشعب الذي يمارس البر، ولا للشعب العارف الأسرار، ولا لمن له معرفة بالسماء والأرض والكواكب، وإنما “طوبى للشعب العارفين الهتاف”. أحيانًا مخافة الله تهب الإنسان فرحًا (هتافًا)، لكنها تهب ذلك لشخص واحد؛ لهذا على سبيل المثال قيل: “طوبى للرجل الخائف الرب” (مز 112: 1)… أما التطويب هنا فيقدم بفيض… لماذا؟ لأن كل الشعب يشترك فيه، الكل يعرف صحبة التهليل. لهذا يبدو ليّ أن هتاف الفرح يعني وحدة القلب وترابط الروح معًا… عندما يرفع الشعب صوته باتفاق واحد، يتحقق فيه ما جاء في سفر الأعمال من حدوث زلزلة (أع 1: 13)… فينهدم كل شيء ويبطل هذا العالم].
إن كانت أبواق الكهنة تُشير إلى كلمة الله وعمل الكرازة الذي لا ينقطع، فإن هتاف الشعب يعني وحدانية القلب الذي يولد فرحًا وتهليلًا خلال الغلبة على مملكة الظلمة. الكهنة يكرزون بالتوبة والشعب ينعم بعطايا الله وغلبته على العالم خلال وحدة الحب الحقيقي! لهذا يقول الكتاب: “جميع الشعب يهتف هتافًا عظيمًا” [5]. مسيحيتنا إذن تقوم على أساس العلاقة الشخصية بين الله والنفس البشرية، ولكنها ليست في عزلة وانفرادية وإنما خلال اتحادها مع بقية الأعضاء بروح واحد خلال الرأس الواحد.
يربط العلامة أوريجانوس بين أبواق الكهنة وهتافات الشعب داخل النفس، إذ يرى يشوع الحقيقي يدخل النفس لكي يفتتحها مملكة له، محطمًا أسوار أريحا الداخلية. يقول إنه يليق بنا ككهنة أن نحمل في داخلنا الأبواق، ونضرب بها لكي نستبعد الأفكار والكلمات غير اللائقة، نضرب بالأبواق أي نسبح بمزامير وتسابيح وأغاني روحية (1 كو 3: 16)، أو نضرب بأبواق أسرار الناموس ورموز الأنبياء وتعاليم الرسل التي تعمل معًا بانسجام في داخلنا… هذه جميعها تفجر في داخلنا شعبًا يهتف هتافًا عظيمًا، فتهتف أفكارنا وعواطفنا وكل ما بداخلنا بفرح ولا يكون فيها دنس أو غش أو كذب؛ يهتف ما فينا بروح متناسق ومتكامل، عندئذ تنهدم أسوار محبة العالم فينا ويملك يسوعنا في داخلنا، لنقول مع الرسول: “أما أنا فحاشا ليّ أن أفتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم ليّ وأنا للعالم” (غل 6: 14).
إن ضرب أبواق العهد القديم (الناموس والأنبياء) في انسجام مع أبواق العهد الجديد، أي دراسة الكتاب المقدس في وحدة واحدة بطريقة روحية بناءه، يخلق أيضًا هتافًا منسجمًا في الإنسان، فيهتف الجسد بقدسية أعضائه مع النفس بقدسية طاقاتها والأحاسيس والعواطف والمواهب… تعمل جميعًا بروح الوحدة تحت قيادة الروح القدس، بفرح حقيقي حيث يملك ربنا يسوع عليها.

هل تبحث عن  الروح القدس .. قداسة البابا شنودة الثالث

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي