يوسف الرامى

يوسف الرامى (يو 19 : 38)

(ثم أن يوسف الذى من الرامة وهو تلميذ يسوع ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود سأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع)

(يو 19 : 38)


مقدمة

كانت إحدى الراهبات الممرضات تعمل فى شارع مشهور من شوارع برلين ، عندما تقدم منها فجأة أحد الجنود الروس ماداً يده للمصافحة وقد علت وجهه سيماء الفرح وقال لها الكلمتينن التاليتين فقط : ” يسوع المسيح ” .. فنظرت إليه لحظة ، ثم رددت الكليمات عينها وأضافت : ” إنى أحبه من كل قلبى ” .. فنظر إليها الجندى نظرة ملؤها الفرح وقال بصوت حنون عميق : ” عندى أبى وأمى وامراتى وأولادى والجميع يحبون يسوع المسيح ” … ورأت الممرضة فى الجندى المجهول المائل أمامها أخاً محبوباً فقالــت : ” ليتبارك اللّه إلى الأبد ، ليباركك الرب ، وليبارك ويحفظ عائلتك العزيزة ” … دم أمينا له !! .. إن قصـة يوسف الــرامى تفتـح باباً واسعاً عظيماً لملايين الناس الموجودين على الأرض ، وهم تلاميذ المسيح المختفون ، إلى أن يظهروا بهذه الصورة أو تلك ، كما ظهر الرجل ، على غير المتوقع فى وقت الصلب ، ومن الغريب أن الرجل لم يكن عاطلاً من المواهب والامتيازات ، بل لعله كان يملك مواهـــب أكثر وأعظم ، وامتيازات أروع وأجمل ، … ومع ذلك ، فهذه الامتيازات نفسها ، كانت المعوق والمعطل للتلمذة الكاملة الصحيحة ، حتى حرره الصليب من كل الحواجز التى وقفت أمامه ، … ولست أعلم شيئاً يمكن أن يهز الوجدان البشرى كهزة الصليب نفسه،… وها نحن اليوم نتابع قصة الرجل فيما يلى:

يوسف الرامى الرجل المهذب ( الجنتلمان)

يوسف الرامى (يو 19 : 38)



من الغريب أن الكتاب المقدس يعطينا صورة ليوسف الرامى ربما لم تعط للكثيرين فى العهد الجديد ، فيصفه متى بالقول : ” رجل غنى” أو هو مثال ” الرومانى العظيم ” … ونعته لوقا بالوصف : ” مشيراً ورجلاً صالحاً باراً ” وترجمت فى بعض الترجمـــات : ” رجلاً طيباً عادلاً ” … أو هو مثال ” اليونانى المهذب الخلق ” .. أى أنه الرجل الذى جمع فى نفسه أفضل خصائص الشعوب : ثروة اليهودى ، وعظمة الرومانى ، ونبل اليونانى ، .. فإذا أردنا أن نصفه فى كلمة عصرية واحدة فهو ” الجنتلمان ” بكل ما فى الكلمة من معنى … كان الرجل الذى لا تعوزه الثروة إذ كان غنياً ، ونستطيع أن نتعرف على غناه ، من ذات القبر الذى نحته فى الصخر فى بستان، فإذا كانت مقبرته بستاناً عظيماً ، تحف به الأشجار والزهور ، فكم يكون قصره أو بيته، … ومن المعتقد أنه كان يملك فى أورشليم قصراً كالكثيرين الذين يملكون فى العاصمة بيتاً ، إلى جانب بيوتهم فى الأقاليم ، ولهذا أيضاً نحت قبره فى المدينة المقدسة…. ومن الواضح أنه كان يمتلك الثروة ، أكثر مما كانت الثروة تمتلكه ، فهو ليس بالرجل البخيل المقتر على نفسه ، بل هو الرجل الذى يستطيع أن يستمتع بثروته على نحو سخى كريم !! … وهو أكثر من مجرد غنى ، فهو الرجل الشريف ، والكلمة تكشف عن الشخص الأرستقراطى المنبت والحياة ، فهو من سادة القوم ، وليس من رعاعهم أو عامتهم ، ويبدو من تصرفه وحكمه على الأشياء أنه من أصحاب المبادئ التى لا تتغير بالمجاراة والمحاكاة والتقليد ، لم يلوثه الإسفاف الذى سقط فيه قادة الأمة فى أيامه وعصره بل هو ” الشريف ” مظهراً وسلوكاً !! … كان عضواً فى السنهدريم وهو مركز لم يكن يبلغه إلا كبار الشخصيات اليهودية فىدلك الوقت،.. أو بعبارة أخرى لم يكن الشريف الذي يعيش في برجه العاجى ، بل القائد الذى يحس معنى وجوده ورسالته فى الحياة ، صاحب الذهن المتسع والتفكير السليم ، ومن ثم فهو المشير الذى تبدو الحاجة إليه فى أدق المشكلات والأزمات ، … ومع ذلك فهو الرجل النبيل المهذب الأخلاق ، … ويبدو من الرواية الكتابية أن يوسف الرامى كان رجلاً دمث الأخلاق، رقيق المشاعر ، طيب القلب ، .. وأكثر من هذا كله كان الرجل المثالى الذى يعيش لما هو أعظم وأسمى من الواقع الحاضر الذى يعيش فيه الناس ، إذ كان واحداً من الحالمين باليوتوبيا أو عالم الكمال ، إذ وصفه لوقا بالقول : ” كان هو أيضاً ينتظر ملكوت اللّه ” … ( لو 23 : 51 ) وهنا نراه فى أسمى أوضاعه وأرفعها ، إذ أنه ليس شخصاً من أفضل الشخصيات بالمعايير الأدبية أو الاجتماعية التى قد توجد فى الكثيرين ممن يطلق الناس عليهم ألقاب : الشرفاء أو النبلاء أو العظماء فى الأرض ، بل كان أكثر من ذلك كان الرجل الذى له الحاسة الروحية المتطلعة إلى اللّه ، والتى تمتد إلى ما وراء المنظور ، إذ لا يشبع حياتها هذا المنظور ، حتى ولو أخذت منه بأعظم الحظوظ بين الناس ، … على أية حال كان يوسف الرامى واحداً من أعظم من يطلق عليهم ” السادة ” فى أيامهم !!

يوسف الرامى التلميذ المختفى

يوسف الرامى (يو 19 : 38)


على أن يوسف الرامى يمثل ظاهرة يلزم أن نتوقف ازاءها ملياً قبل أن نعبر عنها، وهى ما جاء عنه : ” وهو تلميذ يسوع ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود”.. ( يو 19 : 38 ) ولعل موطن العجب فى التعبير الكتابى هو الاعتراف بهذه التلمذة المختفية، التى لم ينكرها عليه الرسول يوحنا ، رغم أنها إلى يوم الصلب كانت مغلفة بالظلام ، .. فهل يعنى هذا اعتراف السماء بالتلمذة الخفية حتى ولو لم تظهر بوضوح للناس !! .. قد لا نستطيع الوصول إلى الجواب، قبل أن نحلل هذه الظاهرة ونحاول سبر أغوارها ، وليس فقط بسبب الخوف كما فى حالة يوسف الرامى ، بل أكثر من ذلك من الأسباب الكثيرة التى تجعل الكثيرين لا يعلنون إيمانهم أو شهادتهم للمسيح بيسر وسهولة !! .. فقد يكون السبب أولا وقبل كل شئ ، فى عدم التسليم للسيد، وإذ أن المؤمن وهو يخرج من دائرة العالم ، وسلطان الظلمة ، لا يمكن أن يفعل ذلك إلا بعد الصراع الذى قد يطول أو يقصر ، .. ولكنه على أية حال يظل يعانى من الذبذبة القاسية التى لا تجعله يستقر على حال ، .. وهو فى هذه الفترة من الصراع يقرر مرات متعددة أنه لابد أن يعلن إيمانه ويتحدث به أمام الناس ، ولكنه يعود ويخشى المبادرة ، ويفزع من إعلان إيمانه للناس ، وهو يهدئ نفسه وضميره، بأنه مادام مع المسيح ، إذ قد قبله ، فإن الإعلان يمكن تأجيله، ولا ضير حسب تصوره ، فى ذلك ، .. ومرات كثيرة ما يأخذ الصراع صورة الشك فى الاستمرار فى النجاح كمسيحى أمام الناس ، وهذا الشك يدفعه إلى الخوف من المجاهرة بإيمانه وعقيدته ، وهو يفزع إذا سقط فى واحدة من التجارب ، وعرف الناس هذه السقطة ، فإنهم لا شك سيسخرون من إيمانه المتردى أو الضعيف ، وهو لهذا يفضل أن يبقى إيمانه فى الخفاء دون المواجهة التى تخرجه إلى النور الكامل ، والذى لا يقدر عليه إلا الأبطال والأقوياء ، وهو لم يصبح بعد واحداً منهم ، ولا يستطيع أن يكون كذلك!! .. على أن الاختفاء قد يكون بسبب آخر يرجع الأمر فيه إلى طبيعة الحياء المتمكنة من صاحبها ، فإذا كان كثيرون قد خلقوا بطبيعة تمتاز بالشجاعة والتحفز والاندفاع والصراحة والصوت المرتفع ، .. فإن هناك على العكس من ذلك – الكثيرين الذى جبلوا على السكينة والهدوء وإخفاء المشاعر ، والحرص على عدم الإعلان عما فى نفوسهم !! .. ومثل هؤلاء يعتزون بعقيدتهم وحياتهم الدينية ، ولكنهم يفضلونها عميقة غائرة فى مشاعرهم ، خاصة بهم ، دون أن يعلنوا عنها أمام الناس ، وربما يوجد بينهم أعداد تعيش كتلاميذ للمسيح ولكن فى الخفاء دون أن يعرف الكثيرون حقيقة عواطفهم وإيمانهم وسلوكهم المسيحى الداخلى !! .. ومع أننا لا نستطيع أن نرد – عن يقين – اختفاء تلمذة يوسف الرامى إلى واحد من هذه الأسباب ، وهل كان فى استعداده الطبيعى ما يدفعه إلى هذا السلوك، إلا أنه من الواضح أن عامل الخوف كان السبب الرئيسى فى إحجامه عن الجهر بإيمانه بالسيد!!

هل تبحث عن  إنجيل مرقس الأصحاح الخامس عشر نسخة تفاعلية تحوي التفاسير و معاني الكلمات مقسمة بالآيات

كان يوسف الرامى تلميذاً مختفياً بسبب الخوف من اليهود ، وما يزال الكثيرون فى كل زمان ومكان يظهرون فى صورة يوسف الرامى التلميذ المختفى ، الذى يود من أعماق قلبه أن يعترف بالسيد ، ولكن الخوف يمنع هذا الاعتراف العلنى ، ويرده إلى الوراء ، وليس بالضرورة أن يكون الخوف على الحياة نفسها ، بالقتل والموت، بل قد يكون بما لا ينتهى من أساليب التعذيب والتشريد والمضايقة والحرمان ، … كان يوسف الرامى يخاف من الطرد من السنهدريم – الأمر الذى حدث معه فيما بعد – وكان يخاف من الإهانة والتحقير والمضايقات المتعددة ، التى يجدها تلميذ المسيح إلى اليوم فى الشرق والغرب على حد سواء ، وتحتاج إلى الشجاعة غير العادية والصبر والاحتمال والجلد والبسالة التى لا يصل إليها الكثيرون !! … وكم وقف الاسم المسيحى عائقاً فى حياة الملايين من الشباب ، دون الوصول إلى مركز معين أو وظيفة أو ترقية أو سلامة أو حرية ، بل من المثير أن التاريخ يعيد نفسه فما حدث فى القرون الثلاثة الأولى للمسيحية ، يتكرر اليوم بالتمام فى البلدان الشيوعية التى تحرم دخول الإنجيل إليها ، وتقضى بوحشية على من ينادى باسم المسيح ، أو يبشر به ، … وكما بدأت الكنيسة المسيحية فى روما فى مقابر الشهداء ، فى الكهوف والمغاير حيث تعود المسيحيون الأوائل أن يقيموا العبادة فيها ، عادت الكنيسة اليوم إلى ما اصطلح عليه فى البلاد الشيوعية من تسميتها ” بكنيسة تحت الأرض ” حيث يقيم الملايين شعائر العبادة فى الأماكن السرية ، فى مواجهة الطغيان والظلم والاستبداد والبطش، وإذا كان لنا أن نعجب إلى أبعد الحدود بالشهداء الأوائل ، وبالأبطال الذين إلى اليوم على استعداد أن يموتوا من أجل المسيح ، فإننا فى الوقت نفسه نعلم بأن يوسف الرامى يظهر بهذه الصورة أو تلك فى الكثيرين الذين هم تلاميذ المسيح ، ولكنهم لا يجرؤون على الظهور أمام المجتمع لهذا السبب أو ذاك من أسباب الخوف التى يتعرضون لها فى الحياة، … حدث فى روما القديمة كما جاء فى واحدة من روائع القصص التى نقلتها إلينا الأجيال ، أنه حكم على أربعين من المسيحيين بالنفى إلى بقعة من أقسى البقاع وأشرها ، وأمهلوا أربعا وعشرين ساعة ، تعطى فيها الحرية لمن يرجع عن الإيمان المسيحى ، وأوكلت حراستهم لأحد الضباط الرومان ، ولشد ما هز الرجل وأثار دهشته ، أنه سمع فى منتصف الليل جميعهم يصلون ويرنمون ويسبحون ، كأنما هم ذاهبون إلى حفل بهيج فى الصباح ، … وعندما عرض عليهم الحرية لمن يتراجع رفضوا جميعاً إلا شخصاً واحداً أخذه الخوف من التشريد والعذاب ، ووقف الضابط ينظر إلى الرجل ملياً ثم قال: إن هذا العدد أربعون وينبغى أن يبقوا هكذا ، وخلع ثيابه العسكرية وانضم إلى القافلة ، ليصبح واحداً من أبطال الشهادة فى الأرض ليسوع المسيح ، ولكن الآخر المتراجع ما يزال إلى الآن للأسف ، باقياً فى صورة يوسف الرامى الذى ظل طوال خدمة المسيح الجهارية التلميذ المختفى !! … ومهما يكن من أمر فإن الآلام التى يتعرض لها المسيحيون فى البلدان الشيوعية لا تكاد تختلف كثيراً عما حدث فى القرون الأولى .

هل تبحث عن  لآلئ ثمينة: إنذار من الله .. 21 / 10 / 1992

يوسف الرامى وحياة الاختفاء

يوسف الرامى (يو 19 : 38)



تحتاج التلمذة الخفية إلى نوع من الدراسة الهادئ المتعمقة المتعاطفة ، قبل أن نرفع أحجارنا لنرميها بها، … إن التلاميذ المختفين ، كثيراً ما يشبهون نوعاً من الزهور التى تنبت فى جنوب أفريقيا، ويطلقون عليها: ” زهور الليل ” وزهرة الليل جميلة رائعة يبلغ طول الواحدة منها حوالى سبع بوصات، ولكنها لا تتفتح إلا فى الليل ، ولا يظهر جمالها إلا فى الظلام ، وإذا أراد المصور أن يصورها فهو لا يستطيع ذلك إلا على ضوء المغنسيوم … دخل الأمير بستانه على ما تذكر الأسطورة القديمة ، وابتدأ ينتقل من شجرة إلى شجرة ، فوقف عند شجرة البرتقال وسألها : ماذا تقدمين لسيدك !! … فأجابت : أجمل زهر عطر ، وعند النضوج أقدم الثمرة الحلوة على مائدة الأمير !! .. فقال : نعما أيتها الشجرة الجميلة ، … وتحول إلى شجرة الكستناء الهائلة (أبو فروة).. وقال وأنت ماذا تقدمين يا شجرتى ؟!! .. فأجابت : إنى فى أيام الصيف وشدة الحرارة أبسط أغصانى وأوراقى التى تشبه المراوح وأظلل المكان الذى تأوى إليه الماشية والأغنام .. فقال لها : نعم ما تفعلين !! .. وتوحول إلى المروج الخضراء وقال : وأنت ماذا تقدمين !! .. وأجابته المروج : إنى أقدم السندس الأخضر قبل أن تأتى المناجل لتحصدنى طعاماً للخيول .. فقال لها : حسناً تفعلين !! ثم تحول إلى اقحوانة بيضاء وديعة صغيرة فسألها : وأنت ماذا تقدمين !! .. فأجابت : لا شئ لا شئ فأنا لا أستطيع أن أقدم طعاماً على مائدة الأمير أو ظلا للماشية والأغنام أو طعاماً للخيول !! .. إننى زهرة مرج صغيرة لا يحتاجون إلىَّ كثيراً ، وكل ما أستطيع عمله هو أن أبذل جهدى لأكون أفضل اقحوانة .. والقصة تقول إن الأمير قبل الأقحوانة الوديعة الصغيرة ، ورآها أجمل ما فى بستانه !! ..

فى الحقيقة ، إن التلمذة الخفية مليئة بالمتاعب والصعاب والمشاكل ، وقد تكون أبعد الكل عن النمو الروحى الصحيح ، ومن الطبيعى أن يوسف الرامى – وهو تلميذ مختف – حرم نفسه من اللقاءات المتكررة مع المسيح وتلاميذه وكان عاجزاً عن الحياة فى الشركة المقدسة التى تتيح الانطلاق فى الحياة المسيحية السامية ، … كما إن حياة السرية والخوف والذبذبة تحجب الصور المختلفة للانتصار تعوق عن بلوغ القمة فى جبل الشركة المسيحية !! .. ومن أشد الأخطار والتجارب التى تتعرض لها أنها إذا لم تخرج إلى النور ، فيخشى أنها تموت فى الظلام الذى عاشت فيه ، وتفقد روح الشهادة التى هى قوام الحياة المسيحية الصالحة أمام اللّه والناس!!..

إن البعض يطلق على التلمذة الخفية ، التلمذة من الدرجة الثانية ، وهى على أية حال نوع من التلمذة ، ولكن صاحبها لا يستطيع أن يقول للمسيح : ” ها نحن قد تركنا كل شئ وتبعناك ” !! .. ( مت 19 : 27 ) أو ” إلى من نذهب . كلام الحياة الأبدية عندك ” ، ( يو 6 : 68 ) أو يقول : ” لنذهب نحن أيضاً لكى نموت معه ” !! ( يو 11 : 16 ) أو يهتف ” خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية ” !! .. ( في 3 : 8 ) أو ” لى الحياة هى المسيح والموت هو ربح ” !! … ( في 1 : 21 ) أو ما أشبه عبارات هى لسان حال من وضع يده على المحراث ولم يعد يلتفت إلى الوراء!!..

كان يوسف الرامى غنياً ، وكان المسيح طوال ثلاث سنوات فى حاجة إلى مال الرامى ، وإلى جهده ، وإلى خدمته ، ولو انضم يوسف الرامى إلى القافلة المسيحية من الابتداء ، لربما كان فى ذلك تشجيعاً وبركة كبيرة لغيره من التلاميذ . ولكن يوسف الرامى حرم نفسه والآخرين من بركات الحياة العلنية طوال الخدمة الجهارية التى قام بها سيدنا لأكثر من ثلاث سنوات فى أرض فلسطين !! ..

يوسف الرامى والتلمذة الظاهرة أمام الصليب

يوسف الرامى (يو 19 : 38)



قال السيد المسيح : ” وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلىّ الجميع “، . ( يو 12 : 32) وقد كان الصليب هو المغناطيس العجيب الذى اجتذب يوسف من دائرة الظل والظلام إلى النور الواضح الكامل يوم الصيب ، فإذا جاز لنا أن نقف قبلا حول ظاهرة التلميذ المختفى ، محاولين تحليلها ومعرفة الدوافع الكامنة العميقة خلفها ، … فإنه من الأوجب والأعظم أن نقف عند الصليب لنرى القوة الهائلة الكامنة العجيبة فيه والتى تنقل الإنسان من النقيض إلى النقيض ، بصورة سريعة ومباغتة وفجائية !! ..

هل تبحث عن  بستان الرهبان الانبا مقاريوس

ولابد من أن نلاحظ أن الصليب هو الأداة المسيحية العليا التى تهز وجدان الإنسان ، أكثر من أى شئ آخر فى المسيحية ، فإذا كان يوسف الرامى قد أصبح تلميذاً للمسيح خفية ، بسبب ما رأى أو سمع من تعاليم السيد ومعجزاته ، وإذا كان نيقوديموس قد جاءه ليلا : ” وقال له يا معلم نعلم أنك قد أتيت من اللّه معلماً لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التى أنت تعمل إن لم يكن اللّه معه ” .. ( يو 3 : 2 ) إلا أن الصليب هو الذى نقل كليهما من الظل إلى النور ، ومن الليل إلى وضح النهار ، … ومع أن هذا يبدو على عكس ما يتخيل الإنسان أو يتصور ، إذ أن الصليب هو النقطة المرهبة المفزعة التى لا يصل إليها سوى الشجعان والأبطال !! إلا أن الصليب فى العادة، يعرى الإنسان تعرية كاملة ، ويوقفه أمام أعظم الحقائق فى الأرض ، .. إذ يواقفه أمام بر المسيح الكامل !! … دخل أحدهم إلى بيت حاخام يهودى فى مدينة نيويورك وأبصر هناك صورة للمسيح المصلوب ، فتعجب وقال للحاخام : إنى أعجب كيف تضع – وأنت يهودى – مثل هذه الصورة فى بيتك !! .. فأجاب الحاخام إجابة عجيبة ، إذ قال : إنه – أى السيد المسيح – هو اليهودى الأعظم، ولم تقترف أمتنا فى كل تاريخها خطية أعظم من خطية صلبه !! .. ولعلنا لو لاحظنا إشارة لوقا إلى تأثير موت المسيح على الصليب : ” وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر لما أبصروا ما كان رجعوا وهم يقرعون صدورهم ” … ( لو 23 : 48 ) ومن المتصور أن يوسف الرامى كان واحداً من الواقفين ، وهو يسمع شهادة قائد المئة الوثنى: “بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً ” .. ( لو 23 : 47 ) وأكثر من ذلك رأى عظمة السيد الفائقة وهو يموت ، وسمع كلماته على الصليب ، وقد وضحت الصورة أمامه ، وهو يرى شر الذين كانوا معه من السنهدريم ، وقادة الأمة ، الذين بلغوا منتهى الانحطاط والكذب والأثم ، وهم يتآمرون على صلب المسيح والقضاء عليه !!

فى الحقيقة ليس من المبالغة فى شئ أن نقول إن مواقع الحياة العظمى يحسمها فى العادة صليب ربنا ومخلصنا يسوع المسيح !! .. فى أمسية يوم أحد فى عام 1266 م كان ريموندلل غارقاً فى تفكيره الآثم ، وهو يحمل عوداً يغنى عليه أغنية فاسدة وهو ينظر إلى فتاة من النافذة فى البيت المجاور وإذا بصورة المسيح المصلوب تبدو أمامه ، وتروع تفكيره ، فلم يملك معها إلا أن يلقى بالعود ويكف عن الغناء ، .. على أنه بعد أسبوع عاود الشئ نفسه ، وإذا بذات الصورة تتراءى أمام مخيلته ، فأطاح بالعود ، وتحول إلى الحياة المسيحية المتعمقة ، وتحول عن أغانى العالم الآثمة ليغنى :

وكيف أنسى حمــــــلا قد مات عن ذنبى

واحتمل التعيير والآ لام بالصلــــــــــــب

أذكر حبك الـــــــــذى أظهـــــــرت ياودود

أذكره مادمت فى الـــــ حياة والوجــــــود

ثم باع أملاكه ، وذهب إلى أفريقيا ، وعاش حياته هناك ينادى برسالة الصليب لغير المسيح!!.

لم يخرج يوسف الرامى من التلمذة الخفية فى الظلام ، أو يصل إلى قوة التكريس الكامل فحسب ، بل أكثر من ذلك كان سر قوة وتشجيع لنيقوديموس ، الذى جاء إلى المسيح ليلاً ، وكان يحتاج إلى الدفعة التى تخرجه هو أيضاً إلى النور،… سار الاثنان وطلبا جسد يسوع وكفناه بأعز وأغلى الحنوط ، … ودفنه يوسف فى قبره الجديد فى البستان إتماماً للنبوة : ” ومع غنى عند موته ” ( إش 53 : 9 ) .

ومع أننا لم نسمع عن يوسف أو نيقوديموس بعد ذلك التاريخ إلا أنه من الممكن أن نختم الحديث عنه بالصورة التى تخيلها أحد الكتاب له فى ضجعة الموت وهو يقـــول : ” ادفنونى فى القبر ، وحيث وضع سيدى أوضع ، لقد مات من أجلى ، وأموت من أجله ، عند ذلك القبر تعلمت درساً خالداً ، كنت قبلا أعيش للعالم ، فلما ظهر المسيح عشت للعالم وللمسيح ، وهكذا ظللت ثلاث سنوات أفعل المستحيل فى الجمع بين النور والظلام ، وهكذا ظللت ثلاث سنوات ، كنت فى الداخل للمسيح ، وفى الظاهر لليهود ، كان الداخل فىّ يقول أفسح لى يا يوسف لأظهر ، لكن السنهدريم والثروة وشهادات العالم والخوف من اليهود جعلتنى جميعها لا أستمع لهذا الصوت،… وأخيراً جاء صوته القائل : ” إنهم يقتلوننى يا يوسف ” ، وهنا تمزق كل شئ ومات يوسف الجبان وإذا كان قد حرمونى من السنهدريم ، فإن ذلك لم يفزعنى ، بل إنى سعيد ، وفى الاضطهاد أنا سعيد ، … إذ لم أعرف الحياة فى الواقع ، ولم تبدأ لى فى جلالها قبل أن أسكب مع نيقوديموس الطيب على جسده !! .. ” شكراً للّه على الصليب الذى حول الرجل من التلميذ المختفى إلى الآخر . الذى ظهر فى ملء الوضوح والعلانية أمام اللّه والناس !! ..

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي