لم يسجل لنا الكتاب الخطاب العميق الذي قاد 120,000 نسمة إلى التوبة، بهذا الانسحاق العجيب. ليته كان قد زودنا بهذا الجانب الهائل الذي تتركز فيه عظمة يونان النبي..
كل ما سجله الكتاب لنا في هذا المجال لا يزيد عن عبارة واحدة فقط، ذكر فيها أن يونان دخل المدينة ونادى وقال: “بعد أربعين يوما تنقلب نينوى” (يون 3: 4).
هل حقا أن يونان لم يقل سوى هذه العبارة وحدها؟ وهل كانت كافية لخلاص المدينة وإحداث هذا التأثير الهائل؟
لقد قال لوط عن سدوم “آن الرب مهلك المدينة” (تك 19: 14)، ومع ذلك لم يتأثر أحد ولم يتب أحد. وسمع الناس عن الطوفان الذي سيهلك الأرض كلها ,، ورأوا الفلك يبني أمامهم، ومع ذلك لم يتب أحد، وهلكوا جميعا.. وكم من مرة فشلت الإنذارات بالموت. أدم نفسه سمع إنذارا ” موتا تموت”، فلم يمنعه هذا الإنذار عن الخطأ.
فما هو السر الذي يختفي وراء توبة نينوى وخلاصها؟
هل الآمر يرجع إلى مناداة التي نادى بها يونان وعمق تأثيرها في النفوس؟ أم أن السبب يرجع إلى قوة الاستعداد الداخلي في القلوب، بحيث أن كل كلمة إلهية لا بُد أن تحدث أثرًا، لآن القلب مستعد للسماع، والإرادة مستعد للتنفيذ، والأرض جيدة للزرع..؟ أنا في داخلي أميل إلى هذا الرأي الثاني..
أميل إلى الاعتقاد أن توبة نينوى كان مرجعها الأساسي هو الاستعداد القلبي عند أهل نينوى.
ولعل هذا الاستعداد هو الذي دعا الله إلى إرسال نبيه إليهم. وكما يقول الرسول “الذي سبق فعرفهم، سبق فعينهم” (رو 8: 29)... أن استعداد القلب له مكانة كبيرة في عمل التوبة…
الشاب الغني خاطبه الرب نفسه، بكل ما في كلام الرب من قوة وتأثير
ومع ذلك مضى حزينا لآن القلب من الداخل لم يكن مستعدًا، كالأرض المحجرة لا تخرج نباتا مهما كانت البذار جيدة، ومهما كان الزارع خبيرا.. أما قلب الشاب انطونيوس، المستعد للكلمة فلما سمع في الكبيسة نفس العبارة التي قيلت للشاب الغنى، تركت هذه العبارة فيه أثرًا عميقًا، ونفذها بحب.. هكذا نينوى أيضًا.
ويؤيد هذا الرأي عندي أن يونان عندما قال أن المدينة ستنقلب، قالها وهو مؤمن في أعماقه أنها سوف لا تنقلب، وأن كلمته سوف لا تنفذ…
نادى بهذه المناداة مضطرا، طاعة لآمر صدر إليه، وهو غير واثق مما يقول. ولو كان مؤمنا بما قاله، لكان كلامه أعمق تأثيرًا..
ومع ذلك تابت نينوى بمناداة يونان،لآن القلب كان مستعدا لآية كلمة تخرج من فم الله.. وهكذا كانت لهذه التوبة قوتها، صادره من الداخل لا من الخارج..
ولهذا أمتدح الرب آهل نينوى وتوبتهم، وقال أنهم سيقومون في يوم الدين، ويدينون ذلك الجيل…
ومما يزيد هذه التوبة قوةً وجمالًا، أنها كانت توبة عامة.. الكل تابوا. الكل رجعوا إلى الله. الكل آمنوا به.
أكثر من 120 ألفًا دخلوا إلى حظيرة الرب دفعة واحدة أن كان يصير فرح في السماء تخاطي واحد يتوب، فماذا نقول عن الفرح بأكثر من اثنتي عشرة ربوة كانوا من قبل لا يعرفون يمينهم من شمالهن؟!
وهكذا نجح الهدف الثاني من خطة الله. فخاص أهل نينوى، كما خلص أهل السفينة من قبل.