النص الإنجيلي (لوقا 3: 10-18)
10 فسَأَله الـجُموع: ((فماذا نَعمَل؟)) 11 فأَجابَهم: ((مَن كانَ عِندَه قَميصان، فَليقسِمْهُما بَينَه وبَينَ مَن لا قَميصَ لَه. ومَن كانَ عِنَده طَعام، فَليَعمَلْ كَذلِك)). 12 وأَتى إِلَيه أَيضاً بَعضُ الجُباةِ لِيَعتَمِدوا، فقالوا له: ((يا مُعَلِّم، ماذا نَعمَل؟)) 13 فقالَ لَهم: ((لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكم)) 14 وسَأَله أَيضاً بَعضُ الـجُنود: ((ونَحنُ ماذا نَعمَل؟)) فقالَ لَهم: ((لا تَتَحاملوا على أَحَدٍ ولا تَظلُموا أَحَداً، واقْنَعوا بِرَواتِبِكم)). 15 وكانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح. 16 فأَجابَ يوحنَّا قالَ لَهم أَجمعين: ((أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار. 17 بِيَدهِ الـمِذْرى، يُنَقِّي بَيدَرَه، فيَجمَعُ القَمحَ في أَهرائِه، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بِنارٍ لا تُطفأ)) 18 وكانَ يَعِظُ الشَّعبَ بِأَقوالٍ كَثيرةٍ غَيرِها فيُبَلِّغُهُمُ البِشارة.
مقدمة
يصف لوقا الإنجيلي في الأحد الثالث للمجيء ردود فعل الجموع أمام بشارة يوحنا المعمدان للناس حول تربية الضمير بدعوتهم إلى فحص الضمير والتوبة والحياة المستقيمة. إذ أخذوا يسألونه ” ماذا نَعمَل؟” ماذا نعمل كي نكون مستعدّين للمسيّح متى جاء؟ “ماذا نَعمَل؟” ماذا نعمل كي نعيش حياة صالحة وننال الخلاص والحياة الأبدية؟ فأعطاهم الإرشادات العملية في تقويم الذات وفقا لوضع كل فئة: الجموع والعشّارين، والجنود (لوقا 3: 10-18)؛ وللجميع ولا أحد مستثنى كما يقول يوحنا المعدمان “كُلُّ بَشَرٍ يَرى خَلاصَ الله” (لوقا 3: 6). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 3: 10-18)
10فسَأَل الـجُموع يوحَنَّا: ((فماذا نَعمَل ؟))
عبارة “يوحَنَّا” هي صيغة عربية للاسم اليونانية Ἰωάννην المشتقة من اللغة العبرية יוֹחָנָן ويعني (الله حنون)؛ وتشير إلى يوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا واليصابات (لوقا 1: 5-8)، الذي وُلد في السنة السابعة ق.م، ولقبه معروف ب “السابق” لا نه مهَّد مجيء المسيح، أو “المعمدان” لكونه عمّد يسوع. وكان يوحنا يُعمِّد في ضفّة نهر الأردن الشّرقية، حوالي 30 كم شرقا من أورشليم، حيث أُكْتُشِفَ مكانُ عمّاد يسوع من يوحنا” (مرقس 1: 5). وهو يُعد أخرُ أنبياء العهد القديم، وأوّلُهم في العهد الجديد، قد أُرْسِل ليهيئ الطريق ليسوع، ويشهد للنور “ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يوحَنَّا جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس”(يوحنا 1: 5-6). أمَّا عبارة “فماذا نَعمَل؟” فتشير إلى استيقاظ قلوب الناس أمام إنذار يوحنا بالدينونة (لوقا 3: 7-9)، فأخذوا يسألون: ماذا يجب أن نفعل للهروب من غضب الله الآتي. وبالمثل كان سؤال الناس نتيجة لعظة بطرس الأولى ” فلَمَّا سَمِعوا ذلكَ الكَلام، تَفَطَّرَت قُلوبُهم، فقالوا لِبُطرُسَ ولِسائِرِ الرُّسُل: ماذا نَعمَل؟ ” (أعمال الرسل 2: 37). وكذلك كان رد فعل بولس الرسول، وهو على طريق الشام، يوم طرقت النعمة أبواب قلبه، في سؤاله العفوي “ماذا أَعمَل، يا ربّ” (أعمال الرسل 22: 10). وكان أيضا سؤال سجَّان لبولس الرسول “يا سَيِّدَيَّ ماذا يَجِبُ عليَّ أَن أَعمَلَ لأَنالَ الخَلاص؟” (أعمال الرسل 16: 30).
11فأَجابَهم: ((مَن كانَ عِندَه قَميصان، فَليقسِمْهُما بَينَه وبَينَ مَن لا قَميصَ لَه. ومَن كانَ عِنَده طَعام، فَليَعمَلْ كَذلِك)).
تشير عبارة “مَن كانَ عِندَه قَميصان، فَليقسِمْهُما بَينَه وبَينَ مَن لا قَميصَ لَه” إلى طلب يوحنا المعمدان إلى الجموع أن يسلكوا سلوك الإخاء والصدقة ومشاركة ما لديهم مع المحتاجين ” لِأَنَّ الجَسَدَ أَعظَمُ مِنَ اللِّباس” (لوقا 12: 23)، “ولأَنَّ المَحبَّةَ تَستُرُ كَثيرًا مِنَ الخَطايا” (1 بطرس 4: 8). وتركَّزت وصية يوحنا للجموع على الرحمة والمحبة العملية. أمَّا عبارة “قَميصان ” في الأصل اليوناني χιτών (معناها ثوب) فتشير إلى الحاجة لثوب واحد، والثوب الآخر يُعطى لمن يحتاج إليه. أمَّا عبارة “ ومَن كانَ عِنَده طَعام، فَليَعمَلْ كَذلِك ” فتشير إلى احتياجات الإنسان الجسدية (متى 5: 42). لم يكتفِ يوحنا بممارسة طقس المعمودية واستماع اعتراف الشعب، إنما أوصاهم بالأعمال الضرورة للبرهان على صحة توبتهم. وهنا نتساءل أي تغيير يمكن أن يحدث بمشاركتنا الآخرين فيما نملك؟
12 وأَتى إِلَيه أَيضاً بَعضُ الجُباةِ لِيَعتَمِدوا، فقالوا له: ((يا مُعَلِّم، ماذا نَعمَل ؟))
تشير عبارة “الجُباةِ“ في الأصل اليوناني τελῶναι (معناها العشَّارون) إلى جباه الضرائب الذين كانوا يجمعون العُشر ويقدِّمونه للرومان ولذلك أصبحوا عرضة لاحتقار المجتمع، لأنهم كانوا في خدمة الرومانيين الوثنيين المحتلين، وكانوا يمارسون غالبا مهنتهم باختلاس الأموال، إذ كانوا غشَّشين، وغير أمناء وجشعين وطمَّاعين، بل مستعدِّين لخيانة مواطنيهم من أجل المال (لوقا 9: 8). وقد نبذهم الفريسيُّون وكان الرأي العام يجعلهم في عداد “الخاطئين” (لوقا 5: 30) لكراهة وظيفتهم وظلم أعمالهم، لكن الله مستعدٌ أن يقبل حتى أولئك الجباة لو تابوا وتغيَّرت طرقهم حقيقة كما يُعلن يوحنا المعمدان.
13فقالَ لَهم: ((لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكم)).
تشير عبارة “لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكم” إلى طلب يوحنا المعمدان من الجُباةِ أن لا يتركوا وظيفتهم، لأنه حينما تكون حكومة لا بد من جُباةِ الجزية اللازم لنفقاتها، إنما طلب منهم أن يسلكوا سلوك العدالة والأمانة، وان يُتقنوا عملهم ويكتفوا بما هو مفروضٌ لهم من جباية الأموال، وأن لا يستغِلُّوا مراكزهم، ويجمعوا ضرائب أكثر ممَّا يجب لحسابهم الخاص تحاشيا للظلم والطغيان في الخدمة والوظيفة. يدعو يوحنا الموظف الأناني المُنهمك في مصالحته الذاتيّة أن يُغيّر سبله ويلتفت إلى خير المواطنين.
14 وسَأَله أَيضاً بَعضُ الـجُنود: ((ونَحنُ ماذا نَعمَل ؟)) فقالَ لَهم: ((لا تَتَحاملوا على أَحَدٍ ولا تَظلُموا أَحَداً، واقْنَعوا بِرَواتِبِكم)).
لا تشير عبارة “بَعضُ الـجُنود” إلى نواة القوات المسلحة الذين يعملون ضمن فرق الجيش الروماني التي كانت تُرسل إلى الأقاليم البعيدة لحفظ السلام، إنما إلى جنود هيرودس انتيباس، أمير الربع في الجليل، أو جنود من اليهود يحافظون على المنطقة حيث كانوا يظلمون الناس مُستغلين سلطتهم، وقد دعاهم يوحنا المعمدان إلى تغيير طرقهم من خلال إعلان إيمانهم أمام الجميع. أمَّا عبارة “لا تَتَحاملوا على أَحَدٍ ولا تَظلُموا أَحَداً، واقْنَعوا بِرَواتِبِكم ” فتشير إلى طلب يوحنا المعمدان إلى الجنود أن يسلكوا سلوك العدل وان يتقنوا عملهم ويُظهروا أمانتهم في ممارسة مهنتهم ، لانَّ الجنود قد اشتهروا بقساوتهم وممارستهم غير الأخلاقية مثل السرقة والزنى… أمَّا عبارة “لا تَتَحاملوا على أَحَدٍ ” فتشير إلى طلب يوحنا من الجنود أن لا يتَّخذوا من عملهم فرصة للتسلط على الناس والوشاية عليهم أمام الحاكم بغية أن يأخذوا من المُتَّهمِين رشوة لإطلاقهم أو ثوابا من الحاكم كأنهم جواسيس له. أمَّا عبارة ” ولا تَظلُموا أَحَداً “ فتشير إلى طلب يوحنا من الجنود أن لا يتَّخذوا من عملهم فرصة للتسلط على الناس فيظلموهم ويأخذوا من الشعب أكثر مما فُرض عليهم ا وان يسلبوا شيئا من أموالهم. أمَّا عبارة ” واقْنَعوا بِرَواتِبِكم” فتشير إلى طلب يوحنا من الجنود أن يلزموا القناعة بأرزاقهم ورواتبهم وعدم التحايل على الناس وابتزازهم، إذ كانت أجرة الجندي وقتئذٍ نحو دينار في اليوم وكان عليهم أن ينفقوا منها على طعامهم. وهنا نتساءل أيَّ تغيير يمكن أن يحدث عندما نقوم بعملنا بإتقان وأمانة؟
15وكانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح.
تشير عبارة “وكانَ الشُّعبُ يَنتَظِر” إلى انتظار الشعب اليهودي إلى المسيح المُخلّص، لأنه لم يكن هناك نبي في إسرائيل لفترة تزيد على أربعمائة عام. واعتقد كثيرون أن النبوءة ستعود إلى الظهور مع مجيء المسيح (يوئيل 2: 27)؛ فكانت جرأة يوحنا وتبشيره بحماس، وجواباته المُقنعة وسلطانه على قلوب الناس حملهم أن يتسألوا: أليس هو المسيح المنتظر؟ أمَّا عبارة “كُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا “ إلى تساؤل أفراد الشعب عن هوية يوحنا المعمدان ما إذا كان هو المسيح المنتظر “إِذ أَرسَلَ إِلَيه اليَهودُ مِن أُورَشَليمَ بَعضَ الكَهَنَةِ واللاَّوِيّينَ يَسأَلونَه: مَن أَنتَ؟” (يوحنا 1: 19). أمَّا عبارة ” الـمَسيح” في الأصل اليوناني Χριστός (معناها الممسوح بالزيت من اجل خدمة معينة: الملك (1صموئيل 16: 10) والكاهن (خروج 40: 13-15) فتشير إلى “المشيح” المنتظر المخلص وليس مسيحا مثل سائر المسحاء بل “المسيح”. وفي المسيحية، المسيح هو الكلمة المُتجسِّد وابن الله. ولكن اليهود كانوا ينتظرون مسيحا آخر يُطغى عليه الوجه الوطني والعسكري والسياسي والقومي، كما يبدو ذلك واضحا لدى اتهامات اليهود ليسوع المسيح أمام بيلاطس “وَجَدْنا هذا الرَّجُلَ يَفتِنُ أُمَّتَنا، ويَنهى عَن دَفْعِ الجِزيَةِ إلى قَيصَر، ويَقولُ إِنَّه المسيحُ المَلِك” (لوقا 23: 2)؛ أمَّا عبارة “هل هو الـمَسيح” فتشير إلى تلاميذ يوحنا الذين ظلوا زمناً طويلا يتساءلون هل معلمهم هو المسيح المنتظرالذي تتكلم عنه النبوءات. لعلَّ السببفي ذلك ما رأوه فيه من تقشُّف شديد في أكلِه وشُربه وملبسه وقوة كلماته وحزمه في تبكيته الخطأة (متى 3: 4-7)، فظنَّوه أنه قادر أن يُخلِّصهم من الرومان. ويُعلق العلامة أوريجانوس “من المؤكَّد أن يوحنا كان إنسانًا غريبًا يستحق إعجابًا شديدًا من كل الناس، فقد كانت حياته مختلفة تمامًا عن بقيّة الناس”. ومن الواضح أن يوحنا المعمدان كان نبيَّاً عظيما، وكان الشعب واثقاً أن المسيح الذي طالما انتظروه قد جاء. لكن يوحنا المعمدان أوضح قائلا” لَستُ المَسيح، بل مُرسَلٌ قُدَّامَه ” (يوحنا 3: 29)، واكَّد مرة أخرى قائلا ” لَمَّا أَوشَكَ يوحَنَّا أَن يُنهِيَ شَوطَه قال: مَن تَظُنُّونَ أَنِّي هو؟ لَستُ إِيَّاه. ها هُوَذا آتٍ بَعدي ذاكَ الَّذي لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه” (أعمال الرسل 13: 25). يا حبّذا لو تحلّينا بروح يوحنا المعمدان لنبشّر الأجيال الناشئة، بحياتنا وأمثالنا وأقوالنا، من هو يسوع!
16فأَجابَ يوحنَّا قالَ لَهم أَجمعين: ((أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار.
تشير عبارة “فأَجابَ يوحنَّا قالَ لَهم أَجمعين”إلىيوحنا الذي انتهز الفرصة لتوضيح الفرق بينه وبين المسيح. أمَّا عبارة “أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء” فتشير إلى معمودية يوحنا المرتبطة بالتوبة والتي تُمهِّد لمعمودية الروح القدس التي أتى بها يسوع المسيح (متى 3: 11)؛ فمعمودية يوحنا تُعرَض على الجميع ولا تُمنح إلاَّ مرة واحدة، كاستعداد أخيرٍ إلى الدينونة ومعمودية آخر الأزمنة (مرقس 1: 8)، حيث أنها تحتوي على شرط جوهري، أي التحول الباطني (متى 3: 2)، وتهدف إلى “مغفرة الخطايا” التي كان الشعب ينتظرها منذ ذلك الحين. وتختلف معمودية يوحنا عن الاغتسال (التطهير) الذي كان يُمارس يوميا في الدين اليهود للتطهر الطقسي من النجاسات كما كان الحال في جماعة الأسِّينييِّن في قمران، وكذلك تختلف عن معمودية الدُخلاء التي كانت تطهِّرهم لتمكِّنهم من الاتصال باليهود (مرقس 1: 4). أمَّا عبارة “مَن هُو أَقوى مِنِّي” فتشير إلى صفة القوة التي كانت تُطلق على الله في العهد القديم كما ورد في نبوءة دانيال “أَيُّها السَّيِّدُ الإِلهُ العَظيمُ الرَّهيب” (دانيال 9: 4). وكانت تطبق هذه الصفة على المسيح المنتظر. ففقد وُصف يسوع “بالقوي” وتظهر قوته في صراعه مع الشيطان أثناء التجارب (مرقس 3: 27). أمَّا عبارة “مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه” فتشير إلى عمل من أعمال العبيد (يوحنا 13: 4-17). فالتلميذ يُعفى من هذا العمل تجاه معلمه. وهذا يعني أن يوحنا المعمدان كان يُعد نفسه اقل من تلميذ المسيح مما يدل على وداعته المشهورة “لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر ” (يوحنا 3: 30). وهكذا أعلن يوحنا هنا أنه خادم لسيِّده، وأن المجد والكرامة والسجود والعظمة لا تليق إلا بالمسيح الذي اسمه يفوق كل اسم. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم “هذا هو دور الخادم الأمين ليس فقط لأنه لا ينسبلنفسه كرامة سيِّده، بل لأنه يمقت ذلك أيضا عندما يقدِّمها له كثيرون”. أمَّا عبارة “النَّار” فتشير إلى عمل الله الذي يُطهِّر (ملاخي 3: 2) ويَمتحن (1بطرس 1: 7). وقد تتخذ النار معنى الغضب (متى 3:12) والغضب يدلُّ على موقف الله من الخطيئة وتعامله معها وعقابه لها (أشعيا 30: 27-33). لكن يسوع يظهر بمظهر العبد الوديع المتواضع (متى 12: 18-21)، الذي يقول بولس الرسول إنه يُنجِّي من الغضب (1 تسالونيقي 1: 10). أمَّا عبارة “ إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار” فتشير إلى الفرق بين عمل يوحنا الذي يمتاز بمعمودية الماء وعمل المسيح الذي يمتاز بمعمودية الروح القدس. وليس المقصود هنا العنصرة (أعمال الرسل 1: 5) أو المعمودية المسيحية (أعمال الرسل 11: 16)، بقدر ما هو عمل الخلاص الذي افتتحه يسوع والتطهير والتقديس بالروح القدس. تعلن هذه الآية تفوق يسوع المسيح على يوحنا المعمدان خاصة تجاه بعض الجماعات التي ظلت ترتبط بيوحنا المعمدان (أعمال الرسل 19: 1-7). وترمز معمودية يوحنا إلى الاغتسال من الخطايا للتوبة والإصلاح، أمَّا معمودية يسوع بالروح القدس والنار فتتضمن القوة المطلوبة لعمل إرادة الله. شهد يوحنا عن المسيح الحقيقي، معلنًا أنه ليس هناك مجال مقارنة بين السيِّد المسيح وبينه، وبين معموديَّة السيِّد ومعموديَّته. أمَّا عبارة “ الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار” فتشير إلى الروح القدس والنار شيء واحد. الروح القدس الذي يمتحن كالنار وفي هذه الحالة تكون “الواو” العطف تفسيرية. ويُعلق القديس ايرونيموس ” الروح القدس هو نار كما جاء في أعمال الرسل، إذ حلّ على المؤمنين على شكل ألسنة ناريّة. وهكذا تحقَّقت كلمة المسيح: “جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت” (لوقا 12: 49). والروح هو نار الله التي تحرق الحثالة في حياة المؤمن وتلهب من اجل الله. وترمز المعمودية بالنار إلى عمل الروح القدس في جلب دينونة الله على من يرفض التوبة كما جاء في تعليم بولس الرسول ” وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد”(1 قورنتس 3: 13).وقد حلَّ الروح القدس في يوم الخمسين، وفي هذا اليوم يُرجَّح انه كوِّنت المعمودية التي تنبأ بها المعمدان (أعمال الرسل 2: 33).
17بِيَدهِ الـمِذْرى، يُنَقِّي بَيدَرَه، فيَجمَعُ القَمحَ في أَهرائِه، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بِنارٍ لا تُطفأ)).
تشير عبارة “الـمِذْرى” إلى خشبة ذات أطراف كالأصابع (الرفش)، تُستعمل للتذرية لتُنقِّى بها الحنطة من التبن. ويُعلّق القديس أمبروسيوس “تكشف الإشارة إلى الـمِذْرى عن سلطان المسيح في تمييز عمل كل واحد”. أمَّا عبارة “يُنَقِّي بَيدَرَه” فتشير إلى عملية الدينونة المستمرة خلال عصر الإنجيل، إذ يُفصل القمح من التبن بواسطة قبول الإنجيل أو رفضه. ويبلغ ذلك حد الكمال في اليوم الأخير. والروح هو الريح التي تذرِّي القمح (أشعيا 41: 15-16). أمَّا عبارة “فيَجمَعُ القَمحَ في أَهرائِه” فتشير إلى الحصاد، والحصاد هو صورة الدينونة الأخيرة التي ستجرى في آخر الأزمنة، لأنها ساعة فصل القمح عن الزؤان (يوئيل 4: 12-13). أمَّا عبارة “القَمحَ” فتشير إلى حَبّ ينمو في سنابل، ويُتَّخَذُ من دقيقِه الخبز، ويُسمى البُرّ والحِنْطة. والقمح يدلُّ هنا على الذين تابوا وقوَّموا حياتهم واصلحوها. ويُعلِّق القديس كيرلس “القمح هو رمز للأخيار الذين ثبَّتوا في إيمانهم ورسخوا في عقيدتهم”. من يتوب ويؤمن فهو كبير في عيني الله، إذ يبدأ حياة جديدة من الخدمة المثمرة لله. أمَّا عبارة “التِّبنُ” فتشير إلى القشرة الخارجية لحبوب القمح وإلى ما تهشَّم من سيقان القمح والشعير بَعد درْسه، وتُعلَفه الماشية، وهو يدل هنا على الأفراد الذين رفضوا التوبة للعيش مع الله. ويُعلِّق القديس كيرلس “التِبن هو رمز إلى أولئك الناس الذين ضَعُفت عقولهم وسَقُمَت قلوبهم، فأصبحوا قلقين، تهب عليهم الرياح فتفرِّقهم”. اليهود اعتبروا أن الوثنيين وحدهم يُدانون، لكن يوحنا المعمدان دعا الجميع إلى التوبة، لان الجميع البشر سيُدانون. أمَّا عبارة “فيُحرِقُه” فتشير إلى الروح القدس، فهو كالريح التي تذكي النار التي لا تُطفا (أشعيا 66: 24). فمن يرفض الله سيرفضه الله، لأنه بلا قيمة في امتداد عمل الله. أمَّا عبارة “أَهرائِه” فتشير إلى البيت الكبير الذي يُجمع فيه القمح؛ أمَّا عبارة “بِنارٍ لا تُطفأ” فتشير إلى نار النعمة المُطهِّرة التي لن تُخمد ابدأ حتى يتمّ غرضها كما جاء في نبوءة أشعيا “لا تَنطَفِئُ لَيلاً ولا نَهاراً ودُخانُها يَصعَدُ مَدى الدَّهر ومِن جيلٍ إلى جيلٍ تَخرَب وإلى أَبَدِ الآبِدينَ لا يَجْتازُ فها أَحَد” (أشعيا 34: 10)؛ وهذه النار تدل على الغضب والعقاب لمن يرفض أن يشارك الله في قداسته كما جاء في تعليم بولس الرسول “النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد. فمَن بَقِيَ عَمَلُه الَّذي بَناه على الأَساسِ نالَ أَجْرَه، ومَنِ احتَرَقَ عَمَلُه كانَ مِنَ الخاسِرين” (1 قورنتس 3: 12-15). ويُعلن يوحنا المعمدان هنا أن المسيح آتٍ بعده ليُجري القضاء والتطهير، وسيكون هذا التطهير الناتج عن معمودية يسوع أعمق بكثير من التطهير الناتج عن معمودية يوحنا بالماء.
18وكانَ يَعِظُ الشَّعبَ بِأَقوالٍ كَثيرةٍ غَيرِها فيُبَلِّغُهُمُ البِشارة
تشير عبارة “فيُبَلِّغُهُمُ البِشارة” في الأصل اليوناني εὐηγγελίζετο(معناها يقدِّم البشارة) فمنها اشتقت كلمة εὐαγγέλιον ( معناها إنجيل) إلى بشارة الخلاص، بشارة الله الذي اعلنها يسوع (مرقس 1: 14)، ولا تدل البشارة على السِفر ذاته، بل على محتوياته، أي الخبر السار عن يسوع المسيح. وهي البشارة التي أعلنها الرسل بان الخلاص قد تمَّ عبر حياة يسوع المسيح وموته وقيامته (رومة 1: 1). وهنا تشير البشارة إلى معمودية التوبة، لتنقية القلب لقبول الرب (يوحنا 3: 7-14).وقدأبرز الإنجيلي لوقا عمل يوحنا المعمدان الرئيسي، وهو الشهادة للسيِّد المسيح وعمله الخلاصي، ومعموديَّته بالروح القدس، وقد جاءت هذه الشهادة ممتزجة بكلمة التبكيت للتوبة مع بثِّ روح الرجاء، مُبشِّرًا الشعب برحمة الله.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 3: 10-18)
بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 3: 10-18) نستنتج أنه يتمحور حول تربية الضمير كي يعيش الإنسان حياة صالحة وينال الخلاص والحياة الأبدية. ومن هنا نتساءل ما هو مفهوم الضمير في الكتاب المقدس؟ وكيف يتمّ تربيته؟
1) ما هو مفهوم الضمير في ضوء الكتاب المقدس؟
إن لفظ “ضمير” نقصد به هنا تلك القدرة التي بها نحكم على عمل ما، قمنا أو سنقوم به. بالتالي فهو الحكم الإيجابي الذي يجعلنا نقرِّر أن هذا الشيء يكون (أو قد كان) في نظرنا خيراً أو شراً. الضمير إذاً هو قدرة الإنسان على التمييز قبل العمل فيما إذا كان عمل ما خطأ أم صواب أو التمييز بين ما هو حق وما هو باطل. وبعد العمل، يبعث الضمير إما إلى الشعور بالندم عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمه الأخلاقية، أو الشعور بالاستقامة والراحة عندما تتفق الأفعال مع القيم الأخلاقية. وباختصارك الضمير هو معرفة الإنسان ماذا يجب أن يكون، وماذا يجب أن يعمل فينال جزاءه خيرا كان أم شرا.
لا يورد الكتاب المقدس في العهد القديم لفظاً مُعيَّناً للدلالة على الضمير، إلاَّ في سفر الجامعة بمعنى قرارة النفس (الجامعة 20: 20)، وفي سفر الحكمة بمعنى شهادة النفس داخلياً بالشر (الحكمة 17: 10)، لكن الحقيقة الفعلية المقصودة بلفظ ضمير فوردت على مدى الكتاب المقدس كله. وُجد لفظ الضمير باليونانية συνειδήσεώς وقد اقتبسه بولس الرسول من لغة عصره الدينية. فمن المرجَّح كان يعبّر في نظره عن الحكم كردّ فعل حرّ صادر عن القلب. فالانتقال من المفهوم السابق إلى هذا المفهوم واضح جداً في النصيحة التي يُسديها بولس الرسول: “وما غاية هذه الوصية إلاّ المحبة الناجمة عن قلب طاهر، وضمير سليم، وإيمان لا رياء فيه” (1 طيموتاوس 1: 5).
غاية تربية الضميرهو البلوغ إلى النضج الأخلاقي الذي يقوم على تقبل المسؤول للقيم، وعلى السيطرة على الصراعات بما يلائم كل الظروف والأوضاع، والإنسان في هذه الحالة هو في مسيرة دائمة.
والضمير الأخلاقي هو حكم صادر عن العقل يعرف به الشخص البشري الصفة الأخلاقية للفعل الواقعي الذي سيفعله، أو يفعله الأن، أو قد فعله. وعلى الإنسان، في كل ما يقول أو يفعل، أن يتبع بأمانة ما يعلم أنه قويم وحق. والإنسان إنما يُدرك ويعرف رسوم الشريعة الإلهية بحكم ضميره. ويعرّف التعليم المسيحي الضمير الأخلاقي بقوله: “يكتشف الإنسان في ذات ضميره ناموسا لم يصدر عنه، ولكنَّه ملزم بطاعته، وصوته يدعو ذلك الإنسان إلى حب الخير وعمله وإلى تجنب الشر. انه ناموس حفره الله في قلب الإنسان. والضمير هو المركز يُسمع فيه صوت الله” (كتاب التعليم المسيحي الكاثوليكي، 1776).
وعرّف الكردينال اللاهوتي جون هنري نيومان الضمير أنَّه “شريعة من روحنا ولكنه يتجاوز روحنا، ويُصدر إلينا أوامر، ويُشعرنا بالمسؤولية والواجب، والخوف والرجاء (…) انه رسول ذاك الذي يُكلمنا من وراء الستار، في عالم الطبيعة كما في عالم النعمة، ويُعلمنا ويحكمنا. لأنَّ الضمير هو النائب الأول بين جميع نواب المسيح” (نيومان، رسالة إلى دوق نورفلك، 5). وأمَّا التعليم المسيحي يُعرّف الضمير الأخلاقي ” هو حكم صادر عن العقل يعرف به الشخص البشري الصفة الأخلاقية للفعل الواقعي” (بند 1796).
وينسب الكتاب المقدس أحيانا وظيفة الضمير إلى القلب أو إلى الكليَتَين. لقد خفق قلب داود الملك لمَّا أجرى إحصاء للشعب، فقال داود للرب: ” قد خَطِئتُ خَطيئةً كَبيرةً فما صَنَعت” (2 صموئيل 24: 10). وكذلك خفق قلب داود لقطع طرف رداء شاول ذلك الذي مسحه الرب (1 صموئيل 24: 6)، أو عندما قيل له إنه قد يندم لسفك الدم اعتباطاً (1صموئيل 25: 31).
2) كيف يتم تربية الضمير الأخلاقي؟
تتم تربية الضمير بقيادة من الباطن ومن الخارج معا. فالضمير لا ينمو وحده من تلقاء نفسه، ولا يتم من خلال التأثيرات الخارجية فقط، إنما كلاهما معا. لذلك يجب أن تشتمل تربية الضمير أيضا على تعليم في القيم والقواعد والوصايا. ولكن لا يجوز أن تكون مجرد تلقين معلومات وحسب، بل أن تتضمن نداءات وحوافز للإرادة والشعور.
تربية الضمير تقتضي تأهيل الإنسان لتثقيف ضميره على مدى حياته، ومن هذا المنطلق تبدأ تربية الضمير منذ الطفولة حيث يتمكن الطفل في مسيرة تدريجيه أن يُنمي الإحساس بالخير والشر، وبالحق والباطل ومعرفة الشريعة الداخلية التي يعترف بها الضمير الأخلاقي ولممارستها.
وتؤدي مساهمة الوالدين دورا حاسما، فان طريقة تقويهما وتصرّفهما، والصلاة المشتركة وفحص الضمير، كل هذه الأمور تؤثِّر في الطفل وتساعده على تربيته. ويُعلق التعليم المسيحي”يكون الضمير الذي أحسنت تنشئته قويما وصادقا. فيُصدر أحكامة متطابقة مع العقل ومتوافقة مع الخير الحقيقي الذي أرادته حكمة الله. وعلى كل إنسان أن يتخذ الوسائل لتنشئة ضميره” (كتاب التعليم المسيحي الكاثوليكي، 1798).
في عمر الشباب يجب أن تكون التربية مسؤولية الذات، حيث لا يجوز التضييق على الشاب ولا أن يُترك وشانه في تصرّفه الخاطئ. لذلك يجب أن يعطى بعض المتطلبات التي تحمله على الاقتناع بها والعيش بمقتضاها. “في تنشئة الضمير يكون كلام الله النور الذي يُضيء طريقنا. ولا بدَّ لنا من تقبله في الإيمان والصلاة، وممارسته عمليا”(كتاب التعليم المسيحي الكاثوليكي، 1785). ومن هذا المنطلق، لا بد من ارتباط الضمير بالوعي حول الخير والشر وبشريعة الله وبالصلاة والفطنة والإيمان.
ا) الضمير مرتبط بالوعي بالخير والشر:
لاحظ بولس الرسول أن الوثنين الذين هم بلا شريعة (موحى بها)، إذا عملوا بالفطرة ما تأمر به الشريعة، وكوَّنوا شريعة لأنفسهم مع أنهم بلا شريعة، يُشرون إلى ما تأمر به الشريعة من الأعمال المكتوبة في قلوبهم، وتشهد لهم ضمائرهم وأفكارهم، فهي تارة تشكوهم وتارة تدافع عنهم ” (رومة 2: 14-15). ومن هذا المنطلق إن دينونة الله لا تنطبق على معرفة وتمييز الخير من الشر، بل على ممارسة هذه المعرفة إيجابياً. وهذه الممارسة يُحدّدها في النهاية، لا الشريعة المُوحى بها، بل الوعي بالخير والشر.
تظهر إرادة الله من خلال الوعي بالخير والشر، وعلى سبيل المثالً عندما عصى آدم الله، فإنه شعر بعُريه وهرب من وجه الله (تكوين 3: 1-8). وهذا ما يفترض أيضاً أن تدبير الله مُسجّل في قلب كل إنسان، حتى قبل أن يحدّده الوحي نهائياً. إن كان اللّه غير معترف به كخالق (رومة1: 19 -21)، وإن لم يكن هناك شريعة موحى بها، فالإنسان يولد وهو في حوار مع الله، وهو أمام أي عمل، يتفاعل بحسب تدبير الله. ومن هنا جاء التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية “إن الذين، على غير ذنب منهم، يجهلون إنجيل المسيح وكنيسته، ويطلبون مع ذلك الله بقلب صادق، ويجتهدون، بنعمته، أن يتمِّموا في أعمالهم إرادته كما يُمليها عليهم ضميرهم، فهؤلاء يمكنهم أن ينالوا الخلاص الأبدي ” (التعليم المسيحي للكنسة الكاثوليكية، رقم 847).
ب) الضمير مرتبط بشريعة الله:
يسبر الله أغوار القلوب والكلى كما جاء في نبوءة ارميا “فيا رَبَّ القُوَّاتِ الحاكِمَ بِالبِرّ الفاحِصَ الكُلى والقُلوب” (إرميا 11: 20، 17)، وأمامه تعالى تكون كل أعمال البشر حاضرة كما يصرح داود الملك ” يا رَبِّ قد سَبَرْتَني فَعَرَفتني” (مزمور 139: 2). الله هو المرشد الشخصي لضمير الإنسان الذي يحكم على نفسه من خلال علمه ونظرته إليه. ومهما كان الضمير باطنياً، فإن حكمه يخضع لحكم اللّه وشريعته كما يقول بولس الرسول “لا أدين نفسي، فضَميري لا يُؤَنِّبُني بِشَيء، على أَنِّي َلستُ مُبَرَّرًا لِذلك، فدَيَّانِي هوَ الرَّبّ” (1 قورنتس 4: 4). إن تأكيدات الإنسان الصادرة عن ضميره تكون عادة مصحوبة بالتنويه باللّه (2 قورنتس 4: 2)، أو بشهادة الروح القدس. فالضمير من “ناموس الله” كما يؤكد ذلك بولس الرسول “الحقَّ أَقولُ في المسيح ولا أَكذِب، وضَميري شاهِدٌ لي في الرُّوحِ القُدُس (رومة 9: 1).
انتقد يوحنا المعمدان الفريسيين ريائهم في حفظ الشريعة، لأنهم كانوا يتمسكون بحرفية الشريعة لكنهم يتجاهلون مضمونها الحقيقي. وانتقد يوحنا أيضا الصدُّوقيين لأنهم كانوا يستخدمون الدين لتأييد موقفهم السياسي. ورأَى كثيراً مِنَ الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقيِّينَ يُقبِلونَ على مَعموديَّتِه، فقالَ لَهم: يا أَولادَ الأَفاعي، مَن أَراكم سَبيلَ الهَرَبِ مِنَ الغَضَبِ الآتي؟” (متى 3: 7). لكن يوحنا لم يكرز بشريعة الله فحسب، بل عاشها وعمل بها.
وكان يوحنا يدعو الناس إلى ما هو أكثر من مجرد كلمات أو طقوس، فقد طلب من الشعب أن يغيّروا حياتهم كلٌ بحسب مكانه ودوره ووظيفته: “مَن كانَ عِندَه قَميصان، فَليقسِمْهُما بَينَه وبَينَ مَن لا قَميصَ لَه. ومَن كانَ عِنَده طَعام، فَليَعمَلْ كَذلِك)). 12 وأَتى إِلَيه أَيضاً بَعضُ الجُباةِ لِيَعتَمِدوا، فقالوا له: ((يا مُعَلِّم، ماذا نَعمَل؟)) 13 فقالَ لَهم: ((لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكم)) 14 وسَأَله أَيضاً بَعضُ الـجُنود: ((ونَحنُ ماذا نَعمَل؟)) فقالَ لَهم: ((لا تَتَحاملوا على أَحَدٍ ولا تَظلُموا أَحَداً، واقْنَعوا بِرَواتِبِكم)). (لوقا 3: 11-14)، فالله ينظر إلى ما هو أبعد من أقوالنا ونشاطاتنا الدينية، ليرى ما إذا كانت حياتنا تؤيد أقوالنا، وهو يحكم على أقوالنا بما يصحبها من أفعال. فالمطلوب اتفاق أفعالنا مع أقوالنا.
يدعو يوحنا ضمير الشعب إلى عملية الارتداد والهداية ، وهي لا تتم عن طريق الشعائر الطقسية، إذ لا تكفي الذبائح ولا التقادم للهيكل ولا الحج إنما احترام الآخر “لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكم” (لوقا 13: 13) لا تَتَحاملوا على أَحَدٍ، أي لا تفتروا الكذب على أحد، ولا تَظلُموا أَحَداً، واقْنَعوا بِرَواتِبِكم” (لوقا 3: 14)، ويَطلب يوحنا أيضا مشاركة الأخرين فيما لديهم، ومقاسمتهم، والقضاء على الظلم، وعدم فعل الشرّ وعدم استغلال الآخر من أجل مصالح خاصة؛ ولذلك، فإن مهمة يوحنّا ليس فقط مساعدة فئات مختلفة من الناس على العيش مع بعضهم البعض بسلام، لكن مهمته أيضا أن يُربي الضمير.
أدان يسوع أيضا ضمير الفريسيين في الممارسة الماديّة للشريعة. ويسوع لا يلغي الشريعة، ولكنه يوضّح أن نقاء النيَّة ينبغي أن يكون الضابط لممارستنا للشريعة. ويُمهِّد يسوع الطريق ليدخل الضمير بتعليم كيفية الحكم على الأمور بحسب القلب مميزا بين وصايا الله وأحكام البشر وبين الطاهر والنجس (متى 15: 1-20)، اعتماداً على نظرة صحيحة مستقيمة (لوقا 11: 34-36)، وفي حضرة الآب الذي يرانا في الخفية (متى 6: 4 و6 و18). وهكذا يَعدّ يسوع الطريق لظهور الضمير الحر، انتظاراً لذلك اليوم الذي نرى فيه مع تعليم بولس الرسول أن الشريعة لن يعود بُعدها خارج الإنسان فقط، ولكنها ستستمدّ معناها وقوتها بفضل انسكاب الروح داخل القلوب. فالمسيحي صاحب الضمير المُستنير، يجد نفسه إذن متحرراً تجاه كل الفرائض الطقسية في الشريعة الموسوية: “لأَنَّ الرَّبَّ هو الرُّوح، وحَيثُ يَكونُ رُوحُ الرَّبّ، تَكونُ الحُرِّيَّة” (2 قورنتس 3: 17)، ويضيف بولس الرسول في مكان آخر: “فلِماذا يَحكُمُ في حُرِّيَّتي ضميرٌ غَيرُ ضميري؟ (1 قورنتس 10: 29). فحرية الإنسان لا تقيّد بضمير غيره.
ج) الضمير مرتبط بالصلاة:
يُحكم على كل شيء على ضوء الإنجيل حيث يربط يسوع نضوج الضمير مع الصلاة بقوله:” فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة”(لوقا 21: 36). فالنضوج الضمير في المسيحية هو قبل كل شيء انفتاح الأذن والقلب على كلمة الله. وفي الصلاة ننفتح على الله ونصغي لكلمته، لنكون على استعداد لتقبل إرادته. ويؤكد ذلك بولس الرسول من خلال صلاته “أَشكُرُ اللهَ الَّذي أَعبُدُ بَعدَ أَجْدادي بِضَميرٍ طاهِر، وأَنا لا أَنفَكُّ أَذكُرُكَ لَيلَ نَهارَ في صَلَواتي”(2 طيموتاوس 1: 3)، “صَلُّوا مِن أَجلِنا فإِنَّنا واثِقونَ أَنَّ ضَميرَنا صالِح وأَنَّنا نَرغَبُ في أَن نُحسِنَ السَّيرَ في كُلِّ أَمْر” (عبرانيين 13: 18). وكذلك يربط صاحب الرسالة إلى العبرانيين الصلاة بالضمير بقوله: “صَلُّوا مِن أَجلِنا فإِنَّنا واثِقونَ أَنَّ ضَميرَنا صالِح وأَنَّنا نَرغَبُ في أَن نُحسِنَ السَّيرَ في كُلِّ أَمْر” (عبرانيين 13: 18).
د) الضمير مرتبط بالفطنة:
الضمير ليس مرتبطا بالصلاة فحسب، إنما مرتبط أيضا بالفطنة. والفطنة هي العنصر العقلي في الضمير والحكم على إمكانية كيفية التصرّف الأخلاقي المسؤول فيها. والشرط الضروري للوصول إلى الحكم بفطنة في واقع كل حالة لا يكمن في معرفة التعاليم الملزمة وحسب، بل أيضا في إدراك القيم التي تنطوي عليها تلك التعاليم. الضمير الفطن لا يحكم فقط بالعقل، بل أولا بالقلب وبالشخص بمجمله.
وتربية الفطنة ضرورية في الضمير لان “التربية الفطنة تعلم الفضيلة، وهي تصون وتشفي مما ينجم عن الضعف والذنوب البشرية، من الخوف والأنانية والكبرياء، والتضايق الناتج من الذنب، ونزوات الرضى عن الذات. إن تربية الضمير تكفل الحرية وتولد سلام القلب (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 1784).لذلك يسعى الإنسان إلى تفهم معطيات الخبرة وعلامات الأزمنة، مستندا إلى فضيلة الفطنة، وإلى نصائح الأشخاص الحكماء الفطنين وإلى مؤازرة الروح القدس ومواهبه”(التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 1788).
ه) الضمير مرتبط بالإيمان:
الضمير ليس مرتبطا بالصلاة والفطنة فحسب إنما أيضا بالإيمان. والإيمان والضمير متصلان اتصالاً لا تنفصم عراه كما يُبيِّن بولس الرسول في نصائحه للشمامسة ” لْيُحافِظوا على سِرِّ الإِيمانِ في ضَميرٍ طاهِر” (1 طيموتاوس 3: 9). فالضمير غير مستقلّ بذاته، بل خاضع لحكم اللّه دائماً: “لا أدين نفسي، فضَميري لا يُؤَنِّبُني بِشَيء، على أَنِّي َلستُ مُبَرَّرًا لِذلك، فدَيَّانِي هوَ الرَّبّ” (1 قورنتس 4: 4). بذلك، وإنما ديّاني الرب ” (1 قورنتس 4: 4). فالإيمان قد وهب “العلم” (1 قورنتس 8: 1)، الذي يكشف عن طيبة كل المخلوقات (1 قورنتس 3: 21-23). وهكذا الضمير يُعد واحداً من “نواميس الله”، وعندما يوصف “بالصالح” أو “بالطاهر” فيعنى ذلك أنه يستضيء أساساً بنور الإيمان الحقيقي كما يوضح بولس الرسول: “وما غايَةُ هذِه الوَصيَّةِ إِلاَّ المَحبَّةُ الصَّادِرةُ عن قَلْبٍ طاهِرٍ وضَميرٍ سليمٍ وإيمانٍ لا رِياءَ فيه” (1 طيموتاوس 1: 5).
يصير اختبار الاطمئنان اطمئنانا إلى الله عبر الإيمان، واختبار المطلب الأخلاقي ارتباطا حرا بالله، واختبار الوصايا نداءً إلى حرية الإنسان. الضمير المرتبط بالإيمان لا يقلق في أي ظرف كان، فهو يتحمل المسؤولية ويثق بالرب الذي هو موجود في حياته ويعمل فيه حتى لو لم يرى ذلك بوضوح. فإذا كانت النيَّة مستقيمة، وإن كان الإيمان يوفّر اقتناعاً راسخاً، فعندئذ يكون الضمير مرتاحاً. والمسيحي هكذا يطيع السلطة المدنية “ليس خوفاً من الغضب فحسب، بل مراعاة للضمير أيضاً”، لأن إيمانه يوضّح له كيف تكون هذه السلطة ” في خدمة الله ” (رومه 13: 5-4).
نستنتج مما سبق أنَّ القلب، والضمير، والإيمان يظهرون بصور متنوعة، ويكونون مصدراً لفعل المحبة. فإذا كانت النية مستقيمة، وإن كان الإيمان يوفّر اقتناعاً راسخاً، فعندئذ يكون الضمير مرتاحاً. “لْيُحافِظوا على سِرِّ الإِيمانِ في ضَميرٍ طاهِر” (1 طيموتاوس 3: 9). الإيمان هبة مجانية يهبها الله للإنسان. باستطاعتنا أن نفقد هذه الموهبة التي لا تقدر بثمن؛ والقديس بولس يحذّر تلميذه طيموتاوس من ذلك: “تجَنّد التجنُّد الحميد، متمسكا بالإِيمانِ والضَّميرِ السَّليمِ الَّذي نَبَذَه بَعضُهم فانكَسَرَت بِهِم سَفينةُ الإِيمان” (1 طيموتاوس 1: 19).
ز) الضمير مرتبط بالحرية:
الضمير ليس مرتبطا بالصلاة والفطنة والإيمان فحسب، إنما أيضا بالحرِّية. يصل المؤمن إلى الحرِّية الكاملة “كُلُّ شَيءٍ طاهِر” (رومة 14: 20)، “كُلُّ شَيءٍ يَحِلُّ لي” (1 قورنتس 6: 12). نرى بولس الرسول يضيف في الحال “ولكِن لَيسَ كُلُّ شَيءٍ يَبْني ” (1 قورنتس 10: 23). فقد ينشأ تنازع بين الضمائر التي لم تتطور كلها بنفس الكيفيّة، وعلى نفس المستوى. والمؤمن ” القوي، (رومة 15: 1) ينبغي أن يعمل ما في وسعه حتى لا يجرح أخاه، الذي لا يزال ضعيفاً: “فلا تُهلِكْ بِطَعامِكَ مَن ماتَ المسيحُ لأَجْلِه” (رومة 14: 15). “كُلُّ شَيءٍ طاهِر، ولكِن مِنَ السُّوءِ أَن يَأكُلَ المَرْءُ فيكونَ حَجَرَ عَثرَةٍ لِغَيرِه” (رومة 14: 20). ولكنه يضيف: ” ولكِنِّي لن أَدَعَ شَيئًا يَتَسَلَّطُ عليَّ ” (1 قورنتس 6: 12)، فينبغي إذن أن يتخلى العالم عن الأولوية لتتقدم المحبة الأخويّة. وعلى الضمير أيضاً أن يقيّد الحرية، نظراً لأنّ الحضور الإلهي يضفي عليها معناها. المحبة تكون دائما في سياق احترام القريب وضميره: “إِذا خَطِئتُم هكذا إلى إِخوَتِكُم وجَرَحتُم ضَمائِرَهُمُ الضَّعيفة، فإلى المسيحِ قد خَطِئتُم” (1 قورنتس 12:8). وفي دفاع بولس الرسول عن نفسه يقول “أَنا أَيضاً أُجاهِدُ النَّفْسَ لِيَكونَ ضَميري لا لَومَ علَيه عِندَ اللهِ وعِندَ النَّاس” (أعمال الرسل 24: 16).
ونستنتج مما سبق أيضا انه ينبغي لكل واحد أن يكون له من الحضور في ذاته ما يجعله يسمع صوت ضميره ويتبعه. فالرجوع إلى الذات ضروري كما يقول القديس أوغسطينوس ” “عُد إلى ضميرك وأسأله (…) عودوا، أيها الإخوة، إلى الداخل، وانظروا، في كل ما تفعلون، إلى الشاهد، إلى الله” (في رسالة يوحنا إلى اليرتين 8، 9).
الخلاصة
وجَّه يوحنا المعمدان الجماهير الذين جاءوا ليعتمدوا أن يصنعوا أثمارا تليق بالتوبة. فكان يوحنا يتكلم كأنبياء العهد القديم مع الشعب كي يبتعدوا عن الخطيئة تحاشيا للعقاب، ويرجعوا إلى الله لنيل البركة. لقد تغلغلت رسالة يوحنا بين الفقراء والمساكين والعشارين والجنود. فقدم لهم إرشادات عملية لكل فئة: الجموع (لوقا 3: 10) والعشّارين (لوقا 3: 12)، والجنود (لوقا 3: 14) وفقا لوضع كل فئة، لينبذوا الخطايا المحيطة بهم ويؤدوا الواجب الخاص المطلوب منهم (لوقا 3: 7-14). لا أحد مستثنى ممَّا يُذكّرنا بما قاله النبي أشعيا ” يَتَجَلَّى مَجدُ الرَبِّ ويُعايِنُه كُلُّ بَشَر لِأَنَّ فَمَ الرَّبِّ قد تَكَلَّم” (أشعيا 40: 5).
تركز إرشادات يوحنا المعمدان في تربية ضمير المستمعين إليه من الجموع والعشّارين والجنود في نقطتين: من ناحية مشاركة الآخرين فيما لديهم، ومقاسمة الّذين هم أقلّ حظوة فقال للجموع “مَن كانَ عِندَه قَميصان، فَليقسِمْهُما بَينَه وبَينَ مَن لا قَميصَ لَه. ومَن كانَ عِنَده طَعام، فَليَعمَلْ كَذلِك” (لوقا 3: 11)، ومن ناحية أخرى احترام الغير وذلك بعدم استغلال الآخر فقالَ لَلعشارين “لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكم” (لوقا 3: 13) وعدم الظلم والافتراء وتعلم القناعة فقالَ للجنود “لا تَتَحاملوا على أَحَدٍ ولا تَظلُموا أَحَداً، واقْنَعوا بِرَواتِبِكم” (لوقا 3: 14).
أخيرا وجّه ضمير الفريسيين للعمل لأجل الله وليس لمصلحة نفوسهم قَائِلاً: “أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وٱجعَلوا سُبُلَه قويمة” (متى 3: 3). ويُعلق القديس يوحنا المعمدان والقدّيس مكسيمُس الطورينيّ ” يطلب منَّا أن نُعِدَّ طريقَ الرَّبِّ ليس بشقّ طريقٍ بل من خلال نقاوة إيمانِنا. إنَّ الرَّبَّ لا يسلك طُرُقَ الأرض بل يدخل أسرار القلب. إنْ كانت هذه الطريق مملؤة عثراتٍ ناتجة عن آدابنا، أو صعوباتٍ ناتجة عن قسوتِنا، أو أوساخٍ ناتجة عن تصرفاتِنا، فيُطلبُ منَّا أن نُنَظِّفَها ونُمَهِّدَها ونسوِّيها. وبذلك إذ يأتي الربّ إلينا فلا يتعثّر بل يجدَ طريقًا ممهَدًا بالعفّة ومسهَّلًا بالإيمان ومزيّنًا بصدقاتنا” (العظة 88).
أخبر يوحنا المستمعين إليه لماذا عمَّدهم هو بالماء وأعلن أن مسيحا آتٍ بعده وأنه سيُعمد بالروح القدس وأنه يجري القضاء. (لوقا 3: 15-17). ثم اخذ يحيي الأمل في جمهور يئنُّ تحت نير الظلم والعبودية، وذلك من خلال لقاء مع المسيح وقبول معموديته المقدسة. لاختصار أعلن يوحنا للشعب انه ليس المسيح وان مجيء المسيح وظهوره قريب وان عمل المسيح هو فصل الأبرار عن الأشرار.
دعاء
أيها الآب السماوي، نسألك باسم يسوع المسيح، الذي جاء يوحنا المعمدان يُعدّ الطريق له، دعنا أن نسير بحسب إرشاداته في ضميرٍ حرِ يغمره الإيمان والصلاة والفطنة فنعمل إرادة الله بحرية فنكون أهلا لملاقاة المسيح مخلصا وديانا.