دانيال النبى، كما يراه المفسرون هو “نبى الأيام الأخيرة(1)”، وسفره هو مرشد المؤمنين الأمناء فى أوقات الضيق والاضطرابات. أنه السفر الإلهى الذى يعلم البشرية كيف تقرأ التاريخ، تاريخ الماضى بصورة قويمة، ويفسرون الأحداث العالمية الكبرى فى ضوء إرادة الله وتدبيره وعلمه السابق، ويتطلعون للأحداث الآتية، فيعدون أنفسهم للاستعداد لها فى ضوء كلمة الله. ويعلم البشرية أيضا كيف تسلك فى هذا العالم الذى تحكمه القضايا العامة المتشعبة والمتشابكة. فقد كانت عيناه تلمع بالضوء الإلهى، وبصيرته تعبر إلى ما وراء التاريخ العالمى وقبله يتأمل الأبدية. ومن ثم فقد كانت حياته نموذجاً للقداسة والبر والحكمة، وكانت رؤاه لوحة رائعة للتاريخ الإنسانى الذى لا يبعد أبداً عن الإرادة الإلهية، وكانت نبوءاته معبرة عن الدقة فى الإتمام والتحقق معلنة لنا تحقيق قول الكتاب “سر الله لخائفيه”.
1- دانيال وسفر الإيمان
تميز دانيال النبى، كما يوصف فى الكتاب المقدس عموماً، بصفات رجل الله الواثق فى إلهه، المؤمن الذى لا يلين إيمانه أبداً ولا يهتز؛ والحكيم الذى باهى الله بحكمته ملك صور؛ وكان أعظم من أعطيت لهم الرؤى فى العهد القديم، كما نال موهبة النبوة ولقب النبى.
أ- كان دانيال ورفاق الثلاثة شدرخ وميشخ وعبدناغو، نموذجاً للقديسين الأمناء لإلههم وشريعتهم ودينهم فى أرض سبيهم وفى وسط شعب صاحب سطوة عليهم ويعبد الأوثان. وكانت ثقتهم فى الله الواحد بلا حدود. لقد رفضوا كما يقول السفر أن يتنجسوا “بأطياب الملك ولا بخمر مشروبه(2)” حتى لا يقعوا فى مخالفة شريعة الله، وأصروا على أكل البقول فقط، وفى ثقة كاملة، فى الله، طلبوا من رئيس السقاة أن يجربهم لمدة عشرة أيام فقط بعدها كانت مناظرهم “أحسن وأسمن لحماً من كل الفتيان الآكلين من أطايب الملك(3)”. كانت ثقتهم فى الله بلا حدود.
وفى موقف أخر كاد فيه دانيال النبى أن يفقد حياته رفض فى إصرار أن يخفى إيمانه ورفض أن يصلى لغير الله ورفض أن يطلب من غير الله ما يخص الله. وبسبب ذلك ألقى فى جب الأسود الجائعة والشرهة والتى لم تأكل من مدة ومنتظرة التهام أى فريسة تلقى إليها، ووضع على الجب حجر، وختم الحجر بخاتم الملك، ولكن الله الذى اتكل عليه دانيال النبى ووثق فيه، لم يخزله، بل أرسل ملاكه وسد أفواه الأسود فلم تضره “إلهى أرسل ملاكه وسد أفواه الأسود فلم تضرنى لأنى وجدت بريئاً(4)”.
وهذا كان موقف رفقاء دانيال النبى، الفتية الثلاثة؛ شدرخ وميشخ وعبدناغو؛ أو حنانيا وميشائيل وعزريا. رفضوا الخضوع لأمر الملك الطاغية نبوخذ نصر السجود للتمثال الذى صنعه لتعبده الأمم والشعوب الخاضعة له، فكان السجود لهذا التمثال الذهبى له مغزاه السياسى والدينى، وبرغم أن الفتية وصلوا إلى مناصب مرموقة فى ولاية بابل، إلا أنهم أصروا على رفض السجود للتمثال وعبادة الوثن، ونفذوا وصية الله القائلة “للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد(5)”، ووثقوا فى الله وفى وعوده بلا حدود.
ولما ألقوهم فى آتون النار المحمى سبعة أضعاف التهمت النيران الرجال الذين أوثقوهم والقوهم فيها، أما هم، الفتية الثلاثة، فلم تكن للنار أى قوة عليهم؛ “لم تكن للنار قوة على أجسادهم وشعرة من رؤوسهم لم تحترق وسراويلهم لم تتغير ورائحة النار لم تأت عليهم(6)”. ووجد معهم شخص رابع شبيه بابن الآلهة، كما وصفه نبوخذ نصر(7).
ب- وقد وضع الله فى دانيال النبى، حكمة ومعرفة وعقل، وصار أحكم من كل أهل زمانه، وفاقت حكمته حكمة معاصريه حتى ضرب به الوحى الإلهى المثل فى الحكمة والبر أيضا وباهى به الله ملك صور “هل أنت أحكم من دانيال. سر ما لا يخفى عليك(8)”. وأعطاه الله موهبة تفسير الأحلام والرؤى “وكان دانيال فهيماً بكل الرؤى والأحلام(9)”، وقال له الملك الوثنى، ملك بابل، نبوخذ نصر، بعد أن فسر له حلمان عجز كل المفسرين والعرافين عن تفسيرها وحل ألغازها “أنى أعلم أن فيك روح الآلهة القدوسين ولا يعسر عليك سر(10)”.
ج- وكان دانيال النبى أيضا “رائى” أعطاه الله ثلاث رؤى يعتبرها العلماء واللاهوتيين والمفسرين مفتاح لكثير من نبوات الكتاب المقدس.
د- كما أعطاه الله موهبة النبوة ولقبه السيد المسيح ب “دانيال النبى(11)”، وقد احتوى سفره على 58 نبوة، بل وكان سفره، بسبب نبوءاته هو أكثر أسفار العهد القديم قراءة ودراسة وتفسير فى الكنيسة المسيحية.
2- دانيال وسفر الرؤى والإعلانات الإلهية
يسمى العلماء سفر دانيال ب “رؤيا العهد القديم”، كما يسمون سفر رؤيا القديس يوحنا ب “رؤيا العهد الجديد”، ويتكون الجزء الثانى من السفر (ص 7-12) كله من رؤى وإعلانات أعطاها الله لدانيال النبى، أما الجزء الأول (ص1-6) فيمتلئ أيضا بالأحلام والرؤى التى فسرها دانيال النبى أيضا. فقد فسر للملك نبوخذ نصر حلو “التمثال البهى”، تمثال “تعاقب الممالك البشرية وملكوت المسيا”، كما فسر له حلم الشجرة الذى أصيب الملك بعده بمرض جعله يتصور أنه حيوان وعاش عيشة الحيوان لمدة سبع سنوات، كما فسر الكتابة الغريبة التى كتبتها أصابع يد على الحائط والتى أنبأت بانتهاء ملك بيلشاصر(12).
والرؤى فى الكتاب المقدسة عموماً سواء فى العهد القديم أو العهد الجديد هى إحدى طرق ووسائل إعلان الله عن ذاته وإرادته. ويقول الوحى الإلهى أن لقب “رائى” هو اللقب الأقدم للنبى “النبى اليوم (فى عصر صموئيل النبى) كان يدعى سابقاً الرائى(13)”. و”الرائى فى العبرية “رآه roeh” من الفعل رئى ra,a” ويعنى “يرى، يدرك يفهم”، ومن ثم فالرائى هو الشخص الذى يعلن له الله ويكشف من خلاله أسراره(14).
ولم تكن رؤى دانيال مجرد رؤى متروكة لتفسير النبى ذاته أو القارئ وإنما كان يصاحب النبى فى كل الرؤيا ملائكة مثل الملاك جبرائيل وغيره يُريه ويكشف له ويفسر له ما يراه؛ يقول دانيال النبى فى الرؤيا الأولى “فاقتربت من واحد من الوقوف” أى أحد الملائكة “وطلبت منه الحقيقة فى كل هذا(15)”. وفى الرؤيا الثانية يقول “وكان لما رأيت أنا دانيال الرؤيا وطلبت المعنى إذا بشبه إنسان واقف قبالتى. وسمعت صوت بين أولادى ونادى وقال يا جبرائيل فهم هذا الرجل الرؤيا(16)”. ولما جاءه الملاك جبرائيل بنبوة السبعون أسبوعاً، يقول “وفهمنى وتكلم معى وقال يا دانيال أنى خرجت الآن لأعلمك الفهم(17)”. وفى الرؤيا الثالثة والأخيرة (ص 10-12) شاهد بعض من الكائنات الملائكية التى كانت تشرح وتفسر له وقت الحاجة.
3- دانيال وسفر النبوات الإلهية
وصف السيد المسيح دانيال ب “دانيال النبى(18)”، كما وصفه أيضا كذلك المؤرخ والكاهن اليهودى المعاصر لتلاميذ السيد المسيح يوسيفوس (63-100م). وقد امتلأ السفر بالنبوات، حوالى 45% من إجمالى آيات السفر نبوءات ومن ثم يحق لنا أن نسميه سفر “نبوءات دانيال النبى” أو “سفر رؤيا دانيال النبى”. وبسبب ذلك فقد وضعه أقدم ترتيب لأسفار اليهود المقدسة بين أنبياء اليهود العظام ووضع السيد المسيح أيضا ضمن أسفار الأنبياء “لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عنى فى ناموس موسى والأنبياء والمزامير(19)”، وبالطبع فسفر دانيال ليس هو أحد أسفار ناموس موسى ولا المزامير، وإنما هو أحد أسفار الأنبياء. وهكذا أيضا وضعته أقدم الترجمات اليونانية والسريانية واللاتينية وجميع الترجمات الحديثة أيضا ضمن أسفار الأنبياء.
وقد تنبأ دانيال النبى فى فترة من أقسى فترات تاريخ شعب الله، وهى فترة السبى البابلى، أو التى لا يوازيها فى تاريخ وجودهم إلا فترة العبودية فى مصر “بيت العبودية(20)” و”كور الحديد(21)”. ومن ثم فقد جعلت هذه الظروف للسفر سمة مميزة بالمقارنة بالأسفار النبوية الأخرى فى العهد القديم.
وأعلنت نبوات سفر دانيال بطريقة وأسلوب الرؤى والأحلام، بل والإعلان المباشر عن طريق الملاك جبرائيل، إلى جانب الظهورات الملائكية واليد المرئية التى كتبت على الحائط. وقد ركزت النبوات على مصير الملوك المعاصرين؛ مصير نبوخذ نصر فى ص 4 ومصير بيلشاصر فى ص 5 ومصير الإمبراطورية البابلية التى كانت معاصرة، ومصير شعب إسرائيل من عودته من السبى وحتى دمار هيكل هيرودس على أيدى الرومان سنة 70 م. كما ركزت على مصير القوى العالمية والإمبراطوريات المتعاقبة وتتابع ظهورها على مسرح التاريخ البشرى إلى مملكة المسيا، ملكوت الله، والانتصار النهائى للمسيح الآتى من السماء، وتوارى شعب إسرائيل من على مسرح التاريخ البشرى. وقد جاءت نبوات دانيال النبى على عكس بقية أنبياء العهد القديم الذين كان تركيزهم الأول على شعب الله ومصيره والقوى العالمية التى كانت تناؤه. فقد وقف دانيال النبى بنبوءاته فى القلب، فى قلب القوى العالمية التى هزمت وأخضعت كل شعوب الشرق ومن بينهم المختار. ومن موقعه هذا تنبأ بقيام مملكة جديدة تسود العالم كله بعد أن تسحق جميع هذه الممالك وتخضعها. هذه المملكة هى مملكة البر والحق، وملكها هو البار “الرب برنا(22)”، ملك السلام الذى يجلس على كرسيه للأبد. وهى لا تقوم على ما قامت عليه الإمبراطوريات السابقة من حروب ودمار وسفك دم، ولكنها تقوم على أساس البر والحق والسلام الأبدى، أنها تقوم بتدخل إلهى مباشر من الله، بتجسد كلمة الله، الله الكلمة وظهوره بين البشر “والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقاً(23)”، هذا هو الحجر الذى قطع بدون يدين وسحق الممالك لها وملأ الأرض كلها(24)، انه ابن الإنسان الآتى على سحاب السماء لتتعبد له جميع الشعوب والأمم والألسنة “سلطانه أبدى ما لن يزول وملكوته ما لن ينقرض(25)”.
نبوءات دانيال النبى لا تختص بشعب إسرائيل فقط، بل تحتضن رؤاها فى جلال ورهبة وروعة كل التاريخ البشرى، تحتضن كل العالم معاً إلى المجيء الثانى والدينونة السعيدة، وذلك فى صورة رمزية أدبية عميقة.
4- دانيال والعهد الجديد
كان سفر المزامير وأشعياء هما اكثر أسفار العهد القديم التى استشهد السيد المسيح وتلاميذه ورسله بنبوءاتهما عنه؛ عن مجيئه وأعماله وآلامه، وكان سفر دانيال النبى هو أكثر أسفار العهد القديم التى استخدم السيد المسيح وتلاميذه ورسله صور السفر وتشبيهاته، خاصة ما يتعلق بالأخرويات؛ ضد المسيح والضيق العظيم والمجيء الثانى وقيامة الأموات والدينونة.
أ- السيد المسيح وسفر دانيال:
أكد السيد المسيح صحة سفر دانيال ولقبه ب “دانيال النبى” واستخدم بعض صوره واقتبس إحدى نبوءاته.
استخدم السيد المسيح صورة “آتون النار” المذكورة فى دانيال 6:3 وعبر بها عن النار الأبدية التى سيطرح فيها جميع المعاثر وفاعلى الإثم “ويطرحونهم فى آتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان(26)”.
كما كان لقب “ابن الإنسان” اللقب المحبب للسيد المسيح والذى أطلقه على نفسه، هو اللقب الذى أعلن لدانيال فى رؤياه الأولى “مثل ابن الإنسان” الآتى على السحاب “وإذا مع سحاب السماء مثل ابن الإنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فأعطى سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدى ما لن يزول وملكوته ما لن ينقرض(27)”.
هذا اللقب استخدمه السيد المسيح ولقب به نفسه واشار به إلى ملكوته ومجيئه أكثر من ست مرات :
“وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان فى السماء. وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير(28)”.
“ومن الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء(29)”.
“وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتياً فى سحاب بقوة كثيرة ومجد(30)”.
“وسوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً فى سحاب السماء(31)”.
“هوذا يأتى على السحاب وستنظره كل عين(32)”.
“وفى وسط السبع مناير شبه ابن الإنسان(33)”.
“ثم نظرت وإذ سحابة بيضاء وعلى السحابة جالس شبه ابن الإنسان(34)”.
كما عبر السيد المسيح عن قيامة الأموات والدينونة بنفس الصورة التى عبر بها الوحى فى رؤيا دانيال الأخيرة. يقول السيد المسيح “تأتى ساعة فيها يسمع جميع الذين فى القبور صوته. فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين فعلوا السيئات إلى قيامة الدينونة(35)”، وتقول رؤيا دانيال النبى “وكثيرون من الراقدين فى تراب الأرض يستيقظون هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدى(36)”.
كما اقتبس السيد المسيح نبوءة دانيال النبى عن “رجسة الخراب” وأشار بها إلى تدنيس الهيكل وخرابه ودماره النهائى سنة 70 م.
وأشار إلى الضيق العظيم الذى سيسبق مجيئه ثانية بقوله “لأنه حينئذ يكون ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون(37)”. وهى نفس النبوءة التى سبق أن أعلنت لدانيال النبى فى رؤياه الأخيرة؛ “ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمه إلى ذلك الوقت(38)”.
ب- بولس الرسول وسفر دانيال :
لم يكن بولس الرسول أقل من معلمه وسيده وربه استخداماً لسفر دانيال النبى، صوره الأدبية واللاهوتية الأخروية. ففى رسالته الأولى إلى كورنثوس 2:6 يقول “ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم” ورأى دانيال النبى أنه عندما “جاء قديم الأيام وأعطى الدين لقديسى العلى(39)”. ويستخدم نفس تعبير دانيال النبى “ولمسنى كمنظر إنسان وقوانى(40)” فى قوله “ولكن الرب وقف معى وقوانى(41)”.
وفى الرسالة إلى العبرانيين يشير بوضوح إلى إلقاء دانيال فى جب الأسود بقوله “بالإيمان… سدوا أفواه أسود(42)”، وإلى إلقاء الفتية الثلاثة فى آتون النار بقوله “أطفأوا قوة النار(43)”.
أما أقوى النبوات والصور الرؤوية التى استخدمها القديس بولس الرسول بالاتفاق مع نبوءات دانيال هى صورة ضد المسيح “إنسان الخطية”؛ يقول القديس بولس “لأنه لا يأتى (المسيح) إن لم يأت الارتداد أولاً ويستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك. المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهاً أو معبوداً حتى أنه يجلس فى هيكل الله (كإله) مظهراً نفسه إنه إله … وحينئذ سيستعلن الأثيم …(44)“. وهو نفس الشخص الذى سبق أن تنبأ عنه دانيال النبى فى رؤياه الأولى فى صورة “قرن صغير” ذو عيون “كعيون الإنسان فى هذا القرن وفم متكلم بعظائم … ومنظره أشد من رفقائه. وكنت أنظر وإذا هذا القرن يحارب القديسين..(45)”، وأيضا فى صورة ملك الشمال “ويفعل الملك كإرادته ويرتفع ويتعظم على كل إله ويتكلم بأمور عجيبة على إله الآلهة … وبكل إله لا يبالى لأنه يتعظم على الكل(46)”.
ج- سفر الرؤيا وسفر دانيال :
سفر الرؤيا هو الامتداد الطبيعى لسفر دانيال، كل منهما هو رؤيا من الله أعطيت لشخص تميز بالقرب الشديد من قلب الله ومن ثم فقد دعى بالمحبوب، فقد دعى الملاك دانيال النبى ثلاث مرات ب “الرجل المحبوب(47)”، وكما دعى الوحى القديس يوحنا خمس مرات ب “التلميذ الذى كان يسوع يحبه(48)”، وكل منهما كتب فى الأسر؛ رؤيا يوحنا كتبت وهو أسير فى جزيرة بطمس(49)، ورؤيا دانيال كُتبت فى السبى البابلى. سفر دانيال هو سفر النبوات العظيمة الخاصة بشعب الله وإمبراطوريات العالم وملكوت المسيح، وسفر الرؤيا هو سفر النبوات العظيمة الخاصة بتاريخ الكنيسة، سفر دانيال ختمت بعض رؤاه إلى وقت النهاية وسفر الرؤيا كشفت فيه الختوم وأعلن فيه ما كان خفياً فى العهد القديم. كل منهما تنبأ بالمجيء الثانى والانتصار النهائى لملكوت الله، وكل منهما تنبأ بما كان وما هو كائن وما هو عتيد أن يكون. كان سفر دانيال هو رؤيا العهد القديم وما يزال، وكان سفر رؤيا يوحنا هو رؤيا العهد الجديد وما يزال. ومن ثم فقد اشترك كل منهما فى استخدام صور ورموز أدبية ورؤوية ونبوية واحدة، خاصة فى الأمور الأخروية :
وصف القديس يوحنا المسيح الممجد بنفس الوصف الذى وصف به دانيال النبى القديم الأيام : “وأما رأسه (المسيح) وشعره فأبيضان كالصوف الأبيض كالثلج(50)”؛ “وجلس القديم الأيام. لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقى(51)”.
وأيضا بوصف قريب من وصف الكائن الملائكى الذى ظهر لدانيال النبى : “وعيناه كلهيب نار ورجلاه شبه النحاس النقى كأنهما محميتان فى آتون وصوته كصوت مياه كثيرة… فلما رأيته سقطت عند رجليه كميت(52)”؛ والكائن الملائكى “عيناه كمصباحى نار وذراعاه ورجلاه كعين نحاس المصقول وصوت كلامه كصوت جمهور … ولم أضبط قوة(53)”.
فى سفر الرؤيا يحذر ملاك كنيسة سميرنا بأنهم سيجربوا “ويكون لكم ضيق عشرة أيام(54)”، وهذه صورة قريبة من قول دانيال ورفاقه “جرب عبيدك عشرة أيام(55)”.
فى سفر الرؤيا يصف عرش الله فى السماء بقوله “وإذا عرش موضوع فى السماء وعلى العرش جالس” ثم يضيف “وحينما تعطى المخلوقات الحية مجداً وكرامة وشكراً للجالس على العرش الحى إلى أبد الآبدين(56)”، وفى سفر دانيال يقول “كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام… وعرشه لهيب نار وبكراته نار متقدة. نهر نار جرى وخرج من قدامه(57)”، أما وصف “الحى إلى أبد الآبدين” فهو لقب مميز لله فى سفر دانيال(58).
فى سفر الرؤيا يتكلم عن سفر مختوم بسبعة ختوم وقد قام المسيح وفتح ختومه(59)، أما فى سفر دانيال فقد طلب منه الملاك أن يخفى “الكلام ويختم السفر إلى وقت النهاية(60)”، كما أن هناك أقوال فى سفر الرؤيا لم تكتب على الإطلاق وطلب من القديس يوحنا أن يختم عليها “أختم على ما تكلمت به الرعود السبعة ولا تكتبه(61)”، ولكن طلب منه أن لا يختم على نبوات السفر نفسه “وقال لى لا تختم على أقوال نبوة هذا الكتاب(62)”.
فى سفر الرؤيا يصف الأجناد السمائية كالآتى : “ونظرت وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش والكائنات الحية والشيوخ وكان عددهم ربوات ربوات وألوف ألوف(63)”، وهو نفس أسلوب ووصف سفر دانيال “ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات وقوف قدامه(64)”.
فى سفر دانيال أدان الله الملك بيلشاصر : “وأنت يا بيلشاصر… لم تضع قلبك… بل تعظمت على رب السماء… وسبحت آلهة الفضة والذهب والنحاس والحديد والخشب والحجر التى لا تبصر ولا تسمع ولا تعرف. أما الله الذى بيده نسمتك وله كل طرقك فلم تمجده(65)”. وهو نفس السبب الذى أدان الله به البعض فى سفر الرؤيا فقد سجدوا “للشياطين وأصنام الذهب والفضة النحاس والحجر والخشب التى لا تستطيع أن تبصر ولا تسمع ولا تمشى(66)”.
جاء فى رؤيا “والملاك الذى رأيته واقفاً على البحر وعلى الأرض رفع يده إلى السماء واقسم بالحى إلى أبد الآبدين(67)”، وجاء فى سفر دانيال “فسمعت الرجل اللابس الكتان الذى من فوق مياه النهر إذ رفع يمناه ويسراه نحو السموات وحلف بالحى إلى أبد الآبدين(68)”.
يذكر فى سفر الرؤيا رقم 1260 يوم كالمدة التى سيتنبأ فيها الشاهدان(69)،والمدة التى ستهرب فيها المرأة المتسربلة بالشمس(70)، وهذه المدة تساوى ثلاث سنوات ونصف (2/1 3 ÷ 360 = 1260 يوم)، وهى نفس المدة المستخدمة فى سفر دانيال والمعبر عنها ب “زمان وزمانين ونصف زمان(71)”، وهى مدة تدنيس الهيكل، وأيضا مدة القرن الصغير أو ضد المسيح، والزمان فى العبرية “Zeman” وهو هنا مساوى تماماً لسنة، ومن ثم فهذا النص مترجم فى الترجمة العربية الجديدة “ثلاث سنوات ونصف”.
فى سفر دانيال يبحث يتحدث عن نموذج ضد المسيح بقوله “وتعظم حتى إلى جند السموات وطرح بعضاً من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم(72)”، وهذه صورة قريبة مما جاء فى سفر الرؤيا عن إبليس المصور بتنين عظيم أحمر له سبعة رؤوس وعشرة قرون “وذنبه يجر ثلث نجوم السماء فطرحها إلى الأرض(73)”.
كما يصف سفر الرؤيا ضد المسيح بالوحش الخارج “من البحر له سبعة روؤس وعشرة قرون وعلى قرونه عشرة تيجان وعلى رؤوسه اسم تجديف. والوحش الذى رأيته كان شبه نمر وقوائمه كقوائم دب وفمه كفم أسد(74)”. وهو هنا يجمع بين أوصاف الوحوش الثلاثة الأولى فى رؤيا دانيال الأولى(75).
هذا الوحش الذى رآه يوحنا الرائى “أعطى فما يتكلم بعظائم وتجاديف وأعطى سلطاناً أن يفعل أثنين وأربعين شهراً. ففتح فمه بالتجديف على الله وعلى اسمه وعلى مسكنة وعلى الساكنين فى السماء. وأعطى أن يصنع حرباً مع القديسين ويغلبهم(76)”. ومدة ال 42 شهراً تساوى ثلاث سنوات ونصف، أى زمان وزمانين ونصف. وهذا نفس الوصف الذى ذكره سفر دانيال عن ضد المسيح فى صوره الثلاثة؛ القرن الصغير الخارج من الحيوان الرابع (ص7) والقرن الصغير الخارج من أحد أفرع الحيوان الثالث (ص8) وملك الشمال (ص11) : “وإذا بعيون كعيون الإنسان فى هذا القرن وفم يتكلم بعظائم … ويتكلم بكلام ضد العلى ويبلى قديسى العلى … ويسلمون ليده إلى زمان وزمانين ونصف زمان(77)”، “وتعظم قوته ولكن ليس بقوته. يهلك عجباً وينجح ويبيد العظماء وشعب القديسين(78)”، “ويتكلم بأمور عجيبة على إله الآلهة(79)”.
وأخير يصف القديس يوحنا أحد مشاهد الدينونة كالآتى : “ورأيت عروشاً فجلسوا عليها… ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله وانفتحت الأسفار…(80)”. ونجد وصف قريب من ذلك فى سفر دانيال : “فجلس الدين وفتحت الأسفار(81)”.
أنها كلمة الله الواحدة التى أعطيت لكل من دانيال النبى والقديس يوحنا الرائى.