نبــوخذ نصر
والسؤالان خرجا عن معنى الاستفهام المعتاد إلى معنى آخر.
فالسؤال الذي وجّهه نبوخذنصر لا يُقصد به استفهامٌ حقيقيٌ ولا يُتوقَّع عنه إجابة، وإنما هو يستنكر وجود إله يستطيع أن ينقذ الفتية الثلاثة من يديه.
أما السؤال الذي وجّهه ميخا فقد خرج أيضاً عن معنى الاستفهام إلى التعجّب، وكأنه يقول: أنت وحدك الإله! لا يوجد إله مثلك! ولا يستطيع شخص آخر أن يصفح ويغفر!
ويصوّر السؤالان لنا جانبين هامين في تأملنا في إلهنا
.أولاً: إلهنا الذي ينقذ ….. وثانياً: إلهنا الذي يغفر ….
السؤال الأول
وجاء يوم تدشين التمثال، وصدحت الموسيقى، واجتمع الناس من كل مكان وسجدوا لذلك الإله، لكن ثلاثة من الفتيان لم يحضروا: شدرخ وميشخ وعبدنغو. وهنا يجب أن نتذكـر أن هناك أماكن لا ينبغي لأولاد الله أن يذهبواإليها. كان في إمكانهم أن يذهبوا لذلك المكان على سبيل حب الاستطلاع، ليروا ما يحدث هناك، وما هو هذا التمثال. وكان يمكن لحبهم لحماية أنفسهم في بلـد غريب – وهم يهود سبـوا إلى أرض غريبة – أن يجعلهم يشتركون مع بقية الشعب ليسجدوا لهذا التمثال. كانت هناك عوامل كثيرة تدفعهم إلى الذهاب، ولكنهم لم يذهبوا.
ويريد إلهنا أن يعلمنا أن هناك أماكن لا يجب أن نذهب إليها، ان كنا أمناء ومخلصين له. وهناك أشخاص لا ينبغي أن نصادقهم، وهناك أفعال لا ينبغي أن نشترك فيها… حتى وإن كنا مسبيّين وغرباء، وخائفين. وعلينا أن نتذكر أننا لا ننتمي إلى هذا العالم، بل إلى اله قادر. وعلينا أيضاً أن نتذكر من نحن ولمن نحن.
والغريب أن قوماً من الناس اكتشفوا غياب الفتية الثلاثة، مع أن الجموع كانت غفيرة، تُعدّ بالآلاف. ومن السهل جداً أن يضيع الإنسان في تلك الزحمة، لكن الناس اكتشفوا غيابهم. لماذا؟
لأن هناك شيئين يكتشفان الأخطاء بسهولة.
الأول هو الحقد، والثاني هو الحب. فالمحبة تكتشف الخطأ لتستر وتصفح، أما الحقد فإنه يكتشف الخطأ ليكشف ويفضح.
كان هؤلاء الكلدانيون قد رأوا الفتية الثلاثة الآتين من أرض غريبة وقد حظوا بسلطانٍ عظيمٍ في تلك البلاد، فامتلأوا حقداً عليهم، لذلك اكتشفوا غيابهم بسهولة. لكن الحقد يكتشف ليبطش بينما الحب يكتشف ليغفر.
ذهب هؤلاء الحاقدون إلى نبوخذنصر ليبلغوه غياب الفتية الثلاثة: فأعطاهم نبوخذنصر فرصة جديدة ليسجدوا للتمثال عندما يسمعون صوت الموسيقى، وإلا يُلقى بهم في وسط أتون النار المتقدة. “ومن هو الإله الذي ينقذكم من يدي؟“ وكانت إجابة الفتية الثلاثة عن هذا السؤال للملك إجابة عظيمة يجدر بنا أن نتذكرها دائماً:
“يا نبوخذنصر” – إنهم حتى لم يلقبوه بالملك لأن لهم ملكاً أعظـم – “
لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر”. ولكن إن أردت إجابة فها هي إجابتنا:
“هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة، وأن ينقذنا من يدك أيها الملك”. ولكن حتى إن أراد إلهنا في حكمته التي قد لا ندركها.. حتى إن أراد أن نُحرق في أتون النار “فليكن معلوماً لك أيها الملك إننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته”.
أيها الاخوة، هل لنا هذه الثقة، والإيمان بإلهنا الذي ينجي. قد نسمع أخباراً مخيفة بعض الشيء ولا ترضينا، لكن دعونا نقول:
“هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده الذي يستطيع كل شيء… ينجينا من أتون النار”.
لقد رأى نبوخذنصر والشعب معه، الفتية الثلاثة والنار لم تلحق ضرراً بأجسادهم. حتى ثيابهم وشعور رؤوسهم لم تحترق
فإلهنا لا يخلص نصف خلاص، بل يخلص إلى التمام.
تعجب نبوخذنصر إذ رأى الثلاثة لم يصبهم سوء ورأى رابعاً معهم. وأن هذا الرابع ليس إنساناً، ليس دانيال، لكنه ابن الله الذي جاء معهم في وسط النار ليحفظهم وينجيهم ويحميهم.
أيها الاخوة تذكروا هذه الحقيقة أن لنا إلهاً يستطيع أن ينجي، فهو لا يتركنا وحدنا بل معنا في أتون النار.. معنا في الضيق.
ثم أن هذا الأتون، هو الذي جعل الفتية الثلاثة والشعب كله يدرك وجود الله وقدرته. إن النجوم موجودة ليلاً ونهاراً، لكن ظلمة الليل تظهر لمعانها. ولولا ظلمة الليل ما أدركنا النجوم. فقد يسمح إلهنا أحياناً للظلمة أن تحيط بنا، لكي ندرك نحن، وآخرون معنا، أن لنا إلهاً قادراً، معنا وسط أتون النار.
لقد سأل نبوخذنصر هذا السؤال: من هو الإله الذي ينقذكم من يدي؟
ولم يكن يتوقع إجابة من الفتية، لكنه أجاب بنفسه على هذا السؤال في نهاية الأصحاح، حين رآهم سالمين، وابن الله هو الذي نجاهم
قال: “مني قد صدر أمر بأن كل شعب وأمة ولسان يتكلمون بالسوء على إله شدرخ وميشخ وعبدنغو، فإنهم يصيرون إرباً إرباً، وتجعل بيوتهم مزبلة، إذ ليس اله آخر يستطيع أن ينجي هكذا”.
لقد أجاب بنفسه عن سؤاله، “من هو الإله الذي ينقذكم من يدي؟”
بأنه ليس اله آخر يستطيع أن ينجي هكذا.
دعونا نتذكر هذه الحقيقة، أن إلهنا قادر.
السؤال الثاني
ثم أتقدم إلى السؤال الثاني الذي نجده في سفر ميخا 18:7 ”
من هو إله مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه“.
إن غيره من الآلهة – كما يتصورهم الناس – إله متعال لا يهتم، قاس، يتلذذ بأن يلقي الناس في أتون النار. غيره من الآلهة كما يتصوره الناس لا يبالي، لا يكترث، لا يحب،
لكنه وحده إلهنا الذي أحبنا وبذل نفسه لأجلنا، الذي هو محبة
ولأنه محبة كان لا بد أن يغفر.
وحين نتصوّر نحن البشر أننا نغفر، فإننا في الواقع لا نغفر، إنما ندّعي أننا صفحنا وغفرنا لكننا لا ننسى الإساءة.
بل إن للإنسان مقدرة على أن ينسى إحسانات الآخرين إليه، وأن يتذكر دائماً إساءاتهم، وإن ادّعينا أننا غفرنا، فهو غفران إلى حين، لكننا لا ننسى.
فإن أخطأ هذا الإنسان إلينا ثانية تذكّرنا ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتذكرنا أخطاءه السابقة وجمعناها إلى أخطائه اللاحقة، وعدنا ننتقم ونحقد.
أما إلهنا فإنه يغفر وينسى.
“لا أعود أذكر خطاياكم وتعدياتكم فيما بعد”.
فهو يمحو كغيمة ذنوبنا وكسحابة خطايانا، وبالتالي لا يوجد لخطايانا ذكر أمام الله.
إن إلهنا لا يمكن أن ينسى شيئاً، لأن النسيان صفة سلبية من صفات الإنسان، أما إلهنا، وهـو يعرف كل شيء – كيف ينسى؟ إنه القادر على كل شيء؟
إن الله لا ينسى شيئاً موجوداً، لكنه لا يذكر الشيء الذي لا وجود له.
فلو أن خطايانا ظلت قائمة فما نسيها. إنما هو ينساها لأنه يلاشيها أولاً، ويطرحها في بحر النسيان.
“يعود يرحمنا، يدوس آثامنا. من هو إله مثلك غافر للإثم” يغفر وينسى.
انه يغفر ويطهر، لا يتركنا نعيش في ضعف فنعود للسقوط ثانية.
لا يقبلنا من الكورة البعيدة ويبقينا في الثياب المهلهلة، بل يقبلنا، ويغير ثيابنا، ويعطينا حلة جديدة.. حياة جديدة، قلباً جديداً.
انه لا يصلح حياتنا بأن يضع رقعة على خطأ ليستره، لكنه يجعل منا خليقة جديدة.
إنه يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية، ويعطينا طبيعة جديدة تنتصر على الخطية.
انه يغفر ويطهر، يغفر إلى التمام.
لا يوجد إله غيره… لا يوجد من يغفر إلا المسيح.
لماذا؟!
لأن إلهنا لا يمكن أن يقبل الخطية ولا يمكن أن يقبل خطاة في ملكوته، ولأنه وحده هو الذي مات لأجلنا وصار خطية عنا فهو وحده بالتالي الذي يغفر الخطية
وهو وحده الذي حمل قصاص خطيتي، لذلك لا يوجد اله آخر يغفر إلا الله
الذي ظهر في الجسد.
سؤالان: من هو الإله الذي ينقذكم؟ هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده قادر… ويستطيع.
من هو إله مثلك غافر الإثم؟ لا يوجد غيره، إلهنا قادر.. إلهنا محبة.. إلهنا غافر.
فلنتقدم إليه باسم المسيح، مستترين تحت دمه، وواثقين في قدرته وكفارته.