( رو 61 : 22 )
مقدمة
جاء بولس إلى ختام رسالته العظيمة إلى أهل رومية ، وأخذ يرسل تحياته إلى الموجودين فيها، وتلفت حوله ليضم تحيات الذين معه فى كورنثوس – حيث يرجح أنه كتب الرسالة هناك – وكانت بعض الأسماء من الذين معه معروفة للمؤمنين فى روما ، ولكن واحداً عجيباً ، أغلب الظن أنه كان مجهولا من الكنيسة فى روما ، لم يشأ أن تذهب هذه التحيات إلى أخوة له فى المسيح يسوع ، دون أن يدون اسمه بينها ، فكتب جملة وحيدة خاصة به ، وهكذا كشف الرجل عن نصيبه فى واحدة من أعظم الرسائل التى كتبت على الأرض ، وكشفت عن الإيمان المسيحى على أروع أسلوب بوحى اللّه ، وسر بولس ألا تنتهى هذه الرسالة دون أن يذكر فضل الرجل الذى أملى عليه بولس كلماته العظيمة ، … ولم يعلم ترتيوس أن اسمه سيظل خالداً مع هذه الرسالة لمجرد أنه خط ما أملى عليه فيها ، … كان ترتيوس لبولس ما كانه باروخ بن نيريا الكاتب لإرميا ، وكتب ما كان يقوله إرميا لشعب اللّه ، .. ومع أن العمل فى حد ذاته يبدو محدداً وضئيلا ، إلا أننا فى العصر الحديث نستطيع أن ندرك أهميته بصورة أعمق وذلك فيما يفعله المساعدون والسكرتيرون ، وكيف أن أعمال القادة والروساء تتوقف أو تتعثر أو ترتبك بدونهم!!.. ومن ثم يحسن أن نتأمل قصة ترتيوس الكاتب فيما يلى :
ترتيوس وإملاء بولس
كان ترتيوس يكتب ما يمليه بولس عليه ، وقد كانت هذه عادته الغالبة فى كل الرسائل ، ولم يكن يكتب بخط يده سوى التحيات أو كلمات البركة الإلهية ، فمثلا يكتب للكورنثيين : « السلام بيدى أنا بولس » ( 1 كو 16 : 21 ) .. وللكولوسيين : « السلام بيدى أنا بولس . اذكروا وثقى . النعمة معكم . آمين » ( كو 4 : 18 ) .. ولأهل تسالونيكى يكشف عن السبب فى هذه العادة فى قوله : « السلام بيدى أنا بولس الذى هو علامة فى كل رسالة . هكذا أنا أكتب » ( 2 تس 3 : 17 ) ونفس الشئ يذكره لأهل غلاطية عندما قال : « انظرو ما أكبر الأحرف التى كتبتها إليكم بيدى » ( غل 6 : 14 ) .. وقد اختلف الشراح فى السبب الكامن خلف هذه العادة ، فمتى هنرى يذهب إلى أن بولس كان من أولئك الذين يكتبون بخط لا يسهل قراءته ، كمثل الكثيرين الذين قد يكتبون بخط ردئ إلى درجة أنهم يعجزون هم أنفسهم عن قراءة خطوطهم ، ويذهب دين فرار إلى أن بولس كانت شوكته الرمد أو التهاب العينين الذى جعله يقول للغلاطيين : « ولكنكم تعلمون أنى بضعف الجسد بشرتكم فى الأول وتجربتى التى فى جسدى لم تزدروا بها ولا كرهتموها بل كملاك من اللّه قبلتمونى كالمسيح يسوع . فماذا كان إذا تطوبيكم . لأنى أشهد لكم أنه لو أمكن لقلعتهم عيونكم وأعطيتمونى » … ( غل 4 : 13 – 15 ) . وهو لهذا يكتب بأحرف كبيرة لأنه كان يعانى من عينيه !! .. وهناك رأى ثالث يقول : إن الكتابة بالاختزال كانت قد انتشرت فى ذلك الوقت ، وقيل إن محاضرات أوريجانوس كانت تكتب أولا بالاختزال ، ثم تعاد كتابتها ، ويجوز أن بولس – على هذا الرأى – كان يطلع على كل ما كتب بعد أن يكتب ثم يضيف إليه التحية بخط يده ، وتصبح الاضافة فى التحية بمثابة توقيعه على الرسالة !! .. على أية حال، من الواضح أنه كان من عادة بولس إملاء الكتابة للآخرين ، وكان له المساعدون والكتاب الذين يقومون بسرور وبهجة وفخر بكتابة ما يمليه عليهم ، وكان ترتيوس واحداً من هؤلاء الكتاب الأمجاد !!
ترتيوس وحظه فى كتابة رسالة رومية
لم يكن ترتيوس يعلم وهو ينقل كلمات بولس الرسول الموحى بها أنه ينقل رسالة من أثمن الرسائل التى كتبت على ظهر هذه الأرض ، الرسالة التى أطلق عليها جويت «كاتدرائية الإيمان المسيحى» « والمنجم الذى ماتزال الكنيسة المسيحية تخرج منه طوال القرون الماضية أثمن الكنوز دون أن يفرغ أو ينفد حتى ترتفع أخيراً من الإيمان إلى المعرفكة الكاملة » … والتى قال عنها كلفن : «إن أى فرد يتمكن من معرفة هذه الرسالة سيجد المدخل المفتوح إلى كنوز الكتاب المخفية» … ومع أن ترتيوس لم يكن أكثر من مسجل ، إلا أنه كان محظوظاً إذ كان من امتيازه أن يقوم بتسجيل الرسالة العظيمة الخالدة..
ترتيوس وصغر دوره وأهميته فى رسالة رومية
كان دور ترتيوس صغيراً ، ولكنه كان فى الوقت نفسه غاية فى الأهمية ، … ومن المؤكد أن قارئ الرسالة سيذكر على الدوام بولس ، ولكن الغالبية العظيمى من الناس لا تلتفت إلى ترتيوس كاتبها ، … ولكن مهما يكن دور ترتيوس ، فإنه كان من المستحيل أن نقرأ الرسالة ما لم يقم ترتيوس بنصيبه فيها ، …. والحقيقة أننا فى حاجة إلى أن نذكر الجنود المجهولين الذين يقفون فى العادة خلف العظماء والقادة والأبطال ، … فمثلا هناك دور الأم ، وما يمكن أن تفعله فى حياة أولادها الذين يلعبون أعظم الأدوار على الأرض ، قال لنكولن بعد أن صار رئيس الولايات المتحدة : أنا مدين فى كل ما وصلت إليه أو ما أطمع أن أصل إليه ، لأمى … وهناك أيضاً دور المعلم ، ومن يقرأ أو يسمع عن تريبونيوس معلم الأطفال الصغار فى ايزناخ ، والذى كان من عادته عند دخوله الفصل على الطلبة أن يرفع قبعته تحية لهم لأن عظماء المستقبل سيخرجون من بينهم ، وكان بين هؤلاء الطلبة مارتن لوثر ، الذى كان يحمل فى أعماقه ثورة الإصلاح الهائلة التى لم تغير مجرى تاريخ أوربا فحسب ، بل العالم كله !! .. لما كان القس رسل كونويل شاباً دعى إلى فيلادلفيا ليرعى كنيسة كانت قد تقهقهرت فى حياتها الروحية ، ولكنه ما أن استلم قيادتها حتى بدأت تزدحم بالناس إلى أن شعر المجلس بضرورة بناء كنيسة تناسب الحال . ولكن لم يكن لديهم المال اللازم . وكان فى الكنيسة فتاة صغيرة اسمها هيتى ، فهذه جاءت صباح أحد إلى الكنيسة فلم تجد مكاناً لأن الزحام كان إلى ما وراء الباب ، فرجعت إلى البيت حزينة ، واتفق أنها مرضت فى ذلك الأسبوع وماتت ، وبينما كانت على فراش المرض قالت لأبيها : أعط ثلاثة أرباع الريال ملكى للراعى ليبنى به كنيسة جديدة تسع الناس ، ويقول الدكتور رسل إن هذا المبلغ الزهيد هو الذى بنى الكنيسة ، لأنى حالما علمت به بحثت عن قطعة أرض مناسبة ، … وقد أثارت قصة الصغيرة نخوة الجميع فانهالت التبرعات على الكنيسة ، واستطعنا أن نبنى كنيسة عظيمة !! .
ترتيوس وبركة كتابة رسالة رومية
لست أعلم قوة الذاكرة عند ترتيوس ، ولكنى اتفق مع من قال إن ترتيوس كان أول من استمع إلى الرسالة العظيمة ، أول من استمتع بها . كان ترتيوس ، رجلاً مؤمناً باللّه ، وكان وقع الكلمات على ذهنه وقلبه أحلى من أعظم موسيقى يستمع إليها إنسان فى الأرض ، … إن الكتابة التى كان يكتبها لم تكن رص حروف جنباً إلى جنب ، بل كانت عميقة المعنى ممتلئة قوة كبيرة الأثر فى حياته ، .. وهى تذكرنا بما حدث ذات مرة مع بنيامين فرانكلين عندما كان فى التاسعة عشر من عمره ، وسافر ذات مرة من أمريكا إلى أوربا ، ووصل إلى لندن يبحث عن عمل يتعيش منه ، وكان قد تعلم فن الطباعة ، وإذ رأى فى طريقه مطبعة دخلها ، وقابل مديرها ، وطلب منه عملا ، فنظر إليه المدير متذمراً وقال : « شاب آت من أمريكا يطلب عملا فى إنجلترا … هذا عجيب .. وهل تعرف حقاً فن الطباعة !!؟ هل تقدر أن تصف بعض الكلمات !!؟ فتقدم الشاب نحو صندوق الحروف دون أن يفوه بكلمة وبسرعة جمع هذه العبارة من الأصحاح الأول من انجيل يوحنا : « فقال له نثنائيل أمن الناصرة يمكن أن يكون شئ صالح . فقال له فيلبس تعال وانظر » ، … وكانت العبارة توبيخاً صامتاً لمدير المطبعة الذى أسرع فأعطى للشاب عملا تحت إدارته ، .. إذ تكلمت الكتابة إليه بلغة أفصح وأقوى !! .. من المؤسف أنه توجد أعداد لا تنتهى من الناس يكتبون للآخرين ، وكأنما هم آلات صماء لا شأن لها بما يكتب أو ينسخ ، وقد تكون أفكارها ومشاعرها وطبائعها ضد ما يكتب أو ينشر بين الناس ،.. وهم لا يهتمون إلا بما يأتيهم من مركز مادى أو اجتماعى يحصلون عليه من وراء ما يكتبون ، … ولكن ترتيوس كان يؤمن بكل كلمة يمليها بولس عليه ، وهو سعيد كل السعادة برسالة رومية ، قبل أن تنشر أو تذاع على البشر وتأخذ مكانتها العظمى فى التاريخ ، وهو ينتفع بها ويتعلم منها ومتميز على الآخرين بسبق الانتفاع والعلم !! ..
على أن البركة الأخرى ، تظهر فى الرابطة التى ربطت ترتيوس بالمؤمنين فى روما … ومن الواضح أن الرجل فى تحيته ، يبدو غريباً عن أهل روما ، ويبدو أنه كان من كورنثوس ، وإن كان على الأغلب رومانى الجنسية ، ومن المرجح أنه كان مستقراً بالمدينة ولم يذهب مع بولس إلى أماكن أخرى ، وإلا لورد اسمه بين أسماء المرافقين لبولس فى الرسائل الأخرى ، … ومع أنه لم يكن معروفاً للكنيسة فى روما ، لكنه حياهم فى «الرب» فى ذاك الذى جاء ليجمع أبناء اللّه المتفرقين إلى واحد !! .. قال جون ويسلى :” إذا كان قلبك ينبض مع قلبى بالحب والولاء للمسيح ، فضع إذا يدك فى يدى واعلم أن الكنيسة مؤسسة واحدة رأسها المسيح ، وإيماننا مهما نختلف فى التعبير عنه فهو الإيمان بقوة المسيح المخلصة التى تخلص الخطاة وتعطيهم الحياة الأبدية !! .. وما أجمل الرابطة المسيحية التى تتجاوز حدود المعروف والمنظور والأهل ، لنرى فى كل مؤمن أخاً محبوباً فى الرب !! .. كان هذا شيئاً مجهولا عند الرومانى أو الوثنى ، وكان أبعد من أن يصل إليه اليهودى إذ ألف معلمو اليهود أن يقولوا : إن اليهودى بقوله قريبى يستثنى جميع الأمم ، ويقول الربى سيمون : إن الأمم الذين لا حرب بيننا وبينهم . وكذلك حراس القطان الإسرائيلية ومن شاكلهم ، هؤلاء لا يجوز أن نقتلهم ، ولكننا لسنا ملتزمين أن نعمل على إنقاذهم إذا ما وقعوا فى خطر ، فإذا سقط أحدهم فى الماء فلا يلزمنا أن ننتشله لأنه ليس قريبنا . فهو أممى !! لكن ترتيوس أخذ البركة التى تربطه بكل مؤمن على الأرض ، وهو يحبه . ويحييه عن قرب أو عن بعد ، فى الرب !!
على أن البركة الواضحة بعد هذا كله ، هى بركة الخلود الذى ضمنه هذا العمل لترتيوس ، كانت عادة بعض الرسامين القدامى ، وهم يريدون أن يخلدوا أسماءهم فى الصور التى يبدعونها، وفى الوقت نفسه لا يريدون لفت النظر إليهم ، أن يضعوا فى ركن من الرسم شخصاً واقفاً أو راكعاً ، ملامحه هى ملامح المصور نفسه ، … ونحن نرى ترتيوس ، فى نهاية الصورة العظيمة لرسالة رومية ، لا يرى نفسه أهلا لأن يظهر فيها إلى جانب بولس العظيم ، ولكنه فى ركن متواضع خالد يقول : « أنا ترتيوس كاتب هذه الرسالة أسلم عليكم فى الرب » ، … ومن العجيب أن هذه الكلمات الوديعة المتواضعة تشع بنور أبدى لتعلن الحقيقة الكبرى فى أن أبسط عمل تقدمه للسيد ، سيكتب له الخلود مع أعظم الأعمال وأسماها وأمجدها على وجه الاطلاق ، ولا يضير ترتيوس أن يركب قطار الخلود فى آخر عربة فيه ، حتى ولو كان بولس فى المقدمة وفى أمجد مكان ، مادام كلاهما يسيران بالعمل العظيم أو البسيط إلى المجد الأبدى !! .. ترى أية رسالة تكتب فى دنيا الحياة أيها القارئ الكريم !؟ .. ضع اسمك مكان ترتيوس وأكمل الجملة التى خلدت الرجل القديم إلى جانب بولس سواء بسواء !! ..