هوشع
قال الرب لهوشع اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى
هو 1 : 2

هوشع النبي
مقدمة
من روائع تينسون الشاعر الإنجليزى ، قصيدة ، لست أدرى مدى ما فى وقائعها من الدقة أو الصحة ، وهل هى حقيقة عرفها ، وحولها شعراً ، أو هى مزاج من الخيال والحقيقة معاً ألهبت شاعريته فسجلها شعراً رفيعاً رقيقاً ، والقصة على أية حال تصور جندياً دعى إلى القتال فى الحرب ، وغاب سنوات طويلة عن بيته وزوجته ، وحسب فى عداد المفقودين ، وإذ طال انتظار زوجته دون عودته ، … اعتبرته ميتاً وتزوجت بآخر ، … على أن الجندى عاد بعد أهوال الحرب ، وهو يعتقد أن زوجته باقية على الوفاء لعهد الزوجية والمحبة التى ربطتهما ، … ولشد ما روعه أن يسأل صبياً على مشارف القرية التى كان يعيش فيها ، عن الزوجة ، وإذ بالصبى يذكر أن الزوجة تزوجت بآخر بعد أن فقدت الأمل فى عودة زوجها واعتبرته ميتاً ، وهاله الأمر وشق طريقه إلى بيته القديم ، وما أن ولج الباب بعد أن فتحه بالمفتاح الذى كان معه ، حتى رأى من على بعد غريباً بالبيت ، فأغلق الباب فى هدوء ، وخرج خارج القرية ، وفى الصباح وجدوه جثة هامدة ، قال الطبيب بعد فحصها ، إنها جثة شاب يبدو أنه مات حزيناً مكسور القلب !! .. ومهما كانت قصيدة تينسون ونصيبها من الدقة أو الصدق ، فإن هناك قصة حب قديم لرجل تزوج امرأة خائنة رغم أنه أحبها بجماع قلبه ، .. وكان الرجل مثالا ورمزاً وصورة لحب اللّه لعذراء إسرائيل ، ومع ذلك فقد تحولت هذه العذراء عن اللّه ، وخانته بالزنى مع آخرين !! .. وحقاً قال أحد المفسرين : إن كلمات هوشع كانت دموعاً أكثر منها كلمات . فالجرح العميق الذى أصاب قلب الرجل ، علمه أن يفهم معنى الجرح العميق فى قلب اللّه . ومحبته لزوجته الخائنة رغم إثمها وشرها وخيانتها دربته على أن يدرك إلى أى حد لم يستطع إثم إسرائيل وشره وزناه أن يضيع محبة اللّه له !! ..
ولعلنا بعد هذا نرى هوشع فيما يلى :
هوشع ومن هو
يأتى هوشع فى أول القائمة بين الأنبياء الذين يطلق عليهم « الأنبياء الصغار » ، وليس معنى هذا أنه أقدمهم ، فالبعض يعتقد أن يونان أقدم الكل ، وأن يوئيل يتلوه ، وأن عاموس يأتى بعد ذلك . وعلى الأغلب يأتى هوشع بعد الثلاثة وهو الذى تنبأ فى أيام يربعام الثانى وكان معاصراً لإشعياء فى أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا !! .. وقد أرسله اللّه ليكون الصوت الأخير للمملكة الشمالية قبل سقوطها ، والكلمة هوشع معناها « خلاص » وإن كان جيروم يأخذها على اعتبار أنها « مخلص » .. ومع أننا لا نكاد نعرف شيئاً عن هذا النبى خارج سفره ، إلا أنه من المتفق عليه ، أنه من أبناء مملكة إسرائيل ، .. ومع أن البعض يعتقد أنه من بيت نبوى ، لكن المرجع أنه كان كعاموس الذى لم يكن من سلسلة الأنبياء أو من أبنائهم ، وهناك تقليد قديم يقول إنه من سبط يساكر !! ..
ولا يمكن أن يذكر هذا النبى دون أن يشار إلى المأساة المحزنة التى حدثت فى حياته ، ونعنى بها زواجه بجومر بنت دبلايم ، وجومر معناها « تمام » وبلايم معناها « قرصا تين » والاسم يشير إلى المرأة التى وصلت إلى تمام الخطية بنت الشهوة واللذة ، .. وقد اختلفت الآراء اختلافاً كبيراً حول زواج هوشع من زانية ، ولعل أشهر الآراء هو : الرأى الرمزى والذى يعتقد أن اللّه الذى يكره الخطية ويمقتها ، والذى ينادى برجم الزانية ، لا يمكن أن يأمر نبياً بأن يتزوج بأمرأة خائنة ، والأمر كله رمزى يصور العلاقة التى تربط اللّه بشعبه الخائن على هذا الأسلوب الرمزى الرهيب ، وقد أخذ به أوغسطينوس وجيروم وكلفن وكايل ، ويذهب لوثر إلى أن المرأة جومر وأولادها وصموا بالزنى ، على سبيل التمثيل الرمزى !! .. ويتجه التفكير اليهودى فى العصور الوسطى والذى أخذ به ميمونديس وابن عزرا وكيمتشى إلى الأخذ بفكرة الرؤيا ، وأن الأمر كله كان حلماً أو رؤيا رآها النبى وتحدث بها إلى الشعب ، وهو يصور العلاقة بين اللّه وأمته !! .. على أن هناك من لا يأخذ بهذين الرأيين ، ويقطع بأن المرأة كانت زانية ، وأن أولادها أيضاً أولاد زنى ، ويتعصب لهذا الرأى دكتور بوسى وهو يقول : « ليس هناك من أساس يمكن أن نحول معه ما يذكره الكتاب كحقائق على اعتبار أنها أمثال ، وليس هناك من دليل يساعد على تصور أن أشخاصاً ذكرت أسماؤهم دون أن يقصد اللّه أنهم وجدوا فعلا وعاشوا بين الناس ، وليسوا مجرد رموز أو صور تشبيهية !! .. وإلا فلن يبقى لنا بعد ذلك من سبيل لمعرفة الفارق بين ما هو حقيقى أو خيالى !! .. » وهناك رأى حديث نسبياً أخذ به بعض المفكرين فى القرن الثامن عشر ، ممن لم يستسيغوا الأفكار السالفة جميعاً ، ونادوا بأخذ الزنى بالمعنى الروحى ، وقالوا إن زنى جومر يعنى إما أنها كانت امرأة وثنية بعيدة عن شعب اللّه ، أو إسرائيلية مرتدة !! .. وأعتقد أن النص الكتابى من الوضوح بحيث يشجع على الأخذ بالفكر الحرفى المادى . وأن جميع المحاولات الأخرى ، نشأت أساساً من هول التصور الذى يصدم نفوس الشراح والمفسرين ، بخيانة المرأة لزوجها ، وثمرة بطن الخيانة البشعة فى أولادها الثلاثة ، … وإن كان البعض مع ذلك يعتقد أن النبى كان يجهل هذه الخيانة ، وأن اللّه أعلمها له بعد وقوعها ، وقد أطلق على الولد الأول « يزرعيل » إعلاناً عن قرب العقاب الذى سيقع على يزرعيل ، بخراب الأمة التى حادت عن اللّه ، وأن الابنة الثانية « لورحامة » ، وتعنى عدم الرحمة ، أو الشقاء « التعب الذى سيقع فيه الشعب بدون هدوء أو رحمة » ، … وأن الثالث « لوعمى » أو ليسوا شعبى ، إعلاناً عن فصم العلاقة بين اللّه وشعبه !! … ويزيد الأمر ترجيحاً أن جومر لم تكتف بزناها ، بل هجرت بيت الزوجية ، وسارت وراء محبيها ، وكانت النتيجة أنهم تخلوا عنها ولفظوها ، وكادت تهلك جوعاً ، فذهبت إلى سوق العبيد لتبيع نفسها ، لعلها تجد من يأويها ويطعمها ، وهناك التقى بها هوشع مرة أخرى ، ليأخذها ، ويعيدها إلى بيته ثانية ، ولكن على علاقة جديدة . فلن تكون له زوجة ، بل ستبقى أياماً كثيرة بعيدة عن حياتها الأولى ، تائبة نادمة ، حتى تدرك معنى الحياة الزوجية السليمة دون زيغ أو ضلال !! ..
هوشع والعهد المنقوض
لم يقف هوشع ، وهو يتحدث عن الخطية ، عند بعض مظاهرها السلبية أو الإيجابية، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ، إلى نبعها التعس القذر ، ورآه فى نقض العهد مع اللّه ، … ومن المؤكد أنه وهو يكتب وثيقة الاتهام قائلا : « اسمعوا قول الرب يابنى إسرائيل . إن للرب محاكمة مع سكان الأرض » ( هو 4 : 1 ) ، لم يكن يكتب هذا الاتهام بقلمه ولسانه فحسب ، بل كتبه ، أكثر من ذلك ، بحياته ومأساته ، ولقد استمد من ذوب هذه الحياة الحزينة مداد وثيقته الدامغة ، … أجل ، فإن هوشع صالح بقول الرب من أعماق نفسه الممزقة الدامية ، … وهو بذلك يعطينا صورة للخادم العظيم المثالى ، الذى لا يبقى على شئ فى حياته دون أن يقدمه على مذبح الرب ، … فالحياة والخدمة والشرف والكرامة ، وكل مقومات النفس الإنسانية فى أعظم وأرهب وأدق وأروع وأقسى أوضاعها ، ينبغى أن توضع على المذبح النارى فى كل ولاء وخضوع وتسليم دون تردد أو تذمر أو تقهقر أو تراجع !! ..
كانت خطية إسرائيل الأولى ، أو بالحرى ، نبع كل خطاياها ، هى – التعدى على عهد اللّه ونقضه ، كما تعدت جومر بنت دبلايم على عهد الحياة الزوجية مع زوجها هوشع !! .. ولم يقف النبى عند هذه الصورة الخاصة به ، بل رمى ببصره إلى الوراء ليراها خطية الإنسان الأولى فى الحياة : « ولكنهم كآدم تعدوا العهد هناك غدروا بى» ” هو 6 : 7 ” والنبى يريد أن يذكر الشعب بأن اللّه صنع مع إسرائيل ما صنع مع الأبوين الأولين ، إذ يسر لهما كل سبل الحياة ، وأودعهما جنة جميلة بهيجة ظليلة ، ولكنهما مع ذلك ، تجاوزا عهده وخانا وصيته ، وهكذا الإسرائيليون الذين أحسن اللّه إليهم وظللهم بحياة البهجة والنعمة والرضى ، ولكنهم مع ذلك تمردوا عليه ، وخانوا العهد الذى قطعه بينهم وبينه !! .. فإذا استطاع الإنسان أن يغدر بالعهد مع اللّه ، فلا يمكن أن يستقيم أو يستقر فى عهده مع أخيه الإنسان ، وسيبعد عن كل وفاء مع اللّه أو الناس على حد سواء ، ومن ثم ، سيرتكب كافة الخطايا سواء كانت سلبية أو إيجابية ، وحق لهوشع أن يرى من الوجهة السلبية الفضائل الضائعة : « لأنه لا أمانة ولا إحسان ولا معرفة اللّه فى الأرض » ” هو 4 : 1 ” والأمانة موقف الإنسان من نفسه ، والإحسان موقفه من الآخرين ، ومعرفة اللّه موقفه من الذات العلية المباركة !! … والخطية فى الواقع ليست وقفاً على ارتكاب الإنسان للرذائل والآثام والشرور بل هى أولا وقبل كل شئ ترك الواجب النبيل العظيم ، أو كما وصفها الرسول يعقوب : « فمن يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية له » ” يع 4 : 17 ” كانت صلاة الأسقف أثر : « ربى اغفر لى خطايـا النسيان والإهمال » ..
وما أسرع ما جاءت الخطايا الإيجابية فى إثر الخطايا السلبية ، فعجت الأرض بخطايا رهيبة : « لعن وكذب وقتل وسرقة وفسق . يعتنفون ، ودماء تلحق دماء » ” هو 4 : 2 ” وهل هناك مجتمع أشر وأقسى من مثل هذا المجتمع الفائض بالمرارة والخداع والأغتصاب والنهب والعنف وإراقة الدماء ، وفى مثل هذا المجتمع يتساوى رجل الشارع والكاهن والنبى ، فالكل قد ضلوا وزاغوا وليس لأحد امتياز على آخر ، ولا يستطيع أحد أن يحاكم آخر أو يعاقب آخر ، لأن الكل فى الموازين إلى فوق ، وعلى حد سواء ، ألم يرفض الكاهن المعرفة ، وينسى الشريعة ؟ ، وقد هلك الشعب لعدم المعرفة ، وتعثر الجميع فيما انتهوا إليه من شرور ؟ ! ..
وقد تعاظمت المأساة ، لا بالخطية وحدها ، بل أكثر من ذلك ، بتلك القطرات القليلة من التوبة الزائفة ، إذ أن العقاب عندما حل بإسرائيل ، حاولوا التوبة ، ولكن توبتهم كانت ضعيفة وقتية ، أشبه بسحاب الصبح أو الندى الذاهب سريعاً : « فإن إحسانكم كسحاب الصبح وكالندى الماضى باكراً » .. ” هو 6 : 4 ” وعيب هذه التوبة أنها تبدو جميلة المظهر ضائعة المخبر ، وأليست هذه توبة الكثيرين الذين إذ يسمعون الكلمة يقبلونها بفرح ولكن ليس لهم أصل فى ذواتهم ؟؟ فما أسرع ما تضيع وتتلاشى وتنتهى!! . مثل هذه تقرضها وتقرض أصحابها أقوال الأنبياء إذ تشهد عليهم بالعقم والكذب وعدم الأثر : « لذلك أقرضهم بالأنبياء اقتلهم بأقوال فمى والقضاء عليك كنور قد خرج » .. ” هو 6 : 5
ولم ينسى هوشع أن يتحدث عن التوبة الصحيحة الصادقة ، والتى فيها يدعو أبناء شعبه للعودة إلى الرب ، دعوة جماعية : « هلم نرجع إلى الرب » ” هو 6 : 1 ” والدعوة الجماعية أساس كل قوة وحياة ونهضة ، لأن الأفراد فى العادة يتشجعون بعضهم بالبعض ، وتسير فيهم موجة عارمة كالتى حدثت يوم الخمسين ، عندما آمن عدد كبير فى يوم واحد ، … والذى يشجع على العودة أن عقاب اللّه وتأديبه لأولاده ، لم يقصد به قط الانتقام ، بل هو عقاب الأب لابنه ، وأنه بعد أن يفترس يريد أن يشفى ويعالج الجروح التى حدثت فينا ، وبعد أن يضرب يريد أن يجبر الكسور التى ألمت بنا!! … وهو على استعداد أن يقصر فترة العقاب ، فلا تزيد عن يومين ، أو فى عبارة أخرى ، لا تزيد عن فترة قصيرة جداً … بل أكثر من ذلك ، هو على استعداد أن يأخذ مكاننا فى الألم . والمفسرون اليهود والمسيحيون متفقون على أن العبارة : « يحينا بعد يومين فى اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه » تحدث عن المسيح المنتصر المقام ، وإن كنا نحن نرى فيها ، على خلافهم ، الام الصليب التى تسبق القيامة ، … على أن العودة إلى الرب لا يمكن أن تتم إلا بالمعرفة الفكرية والاختبارية له : « لنعرف فلنتبع لنعرف الرب » ” هو 6 : 3 ” أو فى لغة أخرى ، ينبغى أن نعرف الرب بعقولنا ، ولكن هذه المعرفة ينبغى أن يلحق بها ، ويتبعها على الدوام السير وراء الرب ، وقد أراد النبى أن يشجع هذا السلوك ، فبين أنه سيصحب ببركة الرب ، إذ أن اللّه يأتى إلى شعبه ليرويه كما ترتوى الأرض الجافة بالمطر المتأخر الذى طال انتصاره … ولعل النبى خاف أن يكون هذا السلوك مجرد طقوس وفرائض ، فبين أن اللّه يهتم بالرحمة أكثر من الذبيحة ومعرفته أكثر من المحرقات : « إنى أريد رحمة لا ذبيحة ومعرفة اللّه أكثر من محرقات » “هو 6 : 6 ” إن الرحمة هى الحياة الخفية للإنسان التقى والمعرفة هى التتبع السليم لوصايا اللّه !! ..
فإذا رفض الإنسان التوبة ، وسلك فى عناد قلبه ، فإن العقاب سيكون الجزاء القاسى الرهيب الذى سيتناول الأرض والحيوان والناس ، أما الأرض فتصاب باللعن والقحط والجدب ، والحيوانات والطيور والأسماك ستذيل وتنتزع نتيجة للمجاعة والجفاف ، وكما حدث فى أيام آدم إذ لعنت الأرض بسببه ، وفى أيام نوح إذ أغرق الطوفان الإنسان والحيوان وكل شئ معاً ، هكذا فى أيام هوشع ، وفى كل الأيام ، هناك علاقة ثابتة بين الإنسان وسائر المخلوقات فبركته بركتها ، ولعنته لعنتها ، وذلك وفقاً لناموس العلاقة القائمة بينهما … لذا ينبغى أن نتوقع دائماً ضياع الخير والدسم والبركة من الأرض كلما ازداد الناس إمعاناً فى الشر والإثم والخطية ، … أما الناس أنفسهم فسيكون عقابهم من كل جانب ، ومن كل لون من ألوان حياتهم ، أذ سيتناول الصحة فتذبل أجسامهم ، والطعام عندما تجدب الأرض ، وتقل المخلوقات فيها ، … والنعمة عندما يرفضون النصيحة والإرشاد وكلمة اللّه ، وعندما يضل الأنبياء والكهنة فيهم ،… والكرامة عندما تسرى بينهم الضعة والهوان ، والخراب عندما يلحق بأمهم إسرائيل : « وأنا أضرب أمك » ” هو 4 : 5 ” وعندما يبصر الناس كل هذا قد يقول قصار البصر والمعرفة والإدراك إنها الصدفة أو الظروف السيئة أو يد آشور التى عاثت فى الأرض فساداً ، … وأما هوشع فيؤكد أنها يد الرب إذ : « أن للرب محاكمة مع سكان الأرض » .. ” هو 4 : 1 ” ..
هوشع والمحبة الغافرة
يعتقد أغلب الشراح ، أن الشطر الأخير من نبوة هوشع كتب بعد موت يربعام الثانى، فى تلك الأيام التى بدأ فيها مجد إسرائيل بنطفى وينوى فى ظلال النهاية والعدم، ومن المعتقد أن هوشع سمع دون أدنى شك نبوات عاموس النبى الذى جاء من أرض يهوذا إلى إسرائيل لينذره بالمصير المفجع الذى يوشك أن يتردى فيه ، ورأى كيف أعطى إسرائيل أذنا صماء للنبى الراعى ونبوءته ، ورأى أكثر من ذلك فترة الفوضى والقلق والاغتيال والانهيار التى أعقبت ذلك ، ومع أنه لم يعش ليرى الخراب النهائى لبلاده إلا أنه رآه وشيك الوقوع وعلى مقربة منه ، إذ لم يكن عسيراً عليه أن يرى شمس أمته تنحدر سريعاً نحو الغروب ، على أنه فى تلك اللحظة الحزينة السوداء القائمة ، وقف ليرينا منظراً بهيجاً مجيداً رائعاً … فنظر الشفق الجميل الأحمر الذى يرسل شعاعاته الفاتنة قبل أن يغمر الأرض الظلام ، … لقد تحدث هوشع عن محبة اللّه العظيمة الغافرة ، التى لا يمكن أن تهزمها خطية إسرائيل وإثمه وشره وأصنامه،… وإلى أن نقف عند الصليب لن نرى نبياً بز بحياته وأحزانه ورسائله – هوشع فى إعلان محبة اللّه الغافرة ، ولئن كان عاموس يدعى فى نظر الكثيرين الرسول يعقوب فى العهد القديم ، فإن هوشع هو الرسول يوحنا !!
فى مدينة نيويورك حادت زوجة وزاغت عن الأمانة الزوجية فى علاقتها ، بزوجها، وهربت مع آخر ، وظلت على هذه الحال فترة من الزمن ، لم يلبث بعدها أن هجرها محبها الآخر ، وتركها شريدة بائسة ضائعة ، وفى يوم من الأيام ، التقت بزوجها عرضاً فى الطريق ، فحاولت أن تتوارى عن عينيه خجلا وذلا وعاراً ، ولكنه وقد أبصرها على هذه الحالة التعسة ، عادت إليه ذكرى الأيام القديمة الحلوة ، فصاح : مارى !! وأخذها إلى بيته ، وقد ضاق به أصدقاؤه ومعارفه لما فعل ، ولكن الرجل سار وراء محبة اللّه الغافرة ، فانتشل زوجته من أعماق دركات الخطية ، … وهكذا فعل اللّه مع إسرائيل إذ أحبه رغم خيانته وإثمه ، وأرسل هوشع ليكرز بحياته وأحداثه ورسالته بمحبة اللّه الغافرة ، وها نحن سنتبع هذه المحبة ، ونحن نذكر بعض ماورد فى الأصحاحين الحادى عشر ، والرابع عشر من سفره على النحو التالى :
تاريخ المحبة
كانت هذه المحبة ، ولا شك ، محبة أزلية فى قلب اللّه، غير أنها ظهرت عندما ظهر إسرائيل على الأرض ، وعلى الإخص عندما كان غلاماً صغيراً عاجزاً فى أرض مصر ، … هنا انحنت عليه المحبة أنحناء الأب على الوليد وأمسكت به فى عجزه وقصوره ، وأخرجته من أرض مصر ، بل هنا سارت معه المحبة سيراً وئيداً رفيقاً هادئاً تدرجه وتدربه على المشى ، وترفعه إذا سقط ، وتشفى جراحه ، وترفع عنه النير عندما تثقل عليه الأحمال ، وتولى رعايته وإطعامه وتعليمه ، مع أنه كان يتجه بقلبه ، مرات كثيرة ، نحو البعليم فيذهب إليها وينحنى لتماثيلها المنحوتة ، ولكن ذلك كله لم ينتزع المحبة العظيمة نحوه … إن تاريخ محبة اللّه ، سابق دائماً لوجودنا ومعرفتنا وإدراكنا ونقصنا وعجزنا وقصورنا وضيعتنا !! ..
حزن المحبة
على أن إسرائيل – للأسف – قد تجاهل هذه المحبة ، وتعامى عن تاريخها ، وسار فى طريقه الخاطئ حتى أضحى مثل سدوم وعمورة وأدمة وصبويم ، المدن التى قلبها اللّه لشرها ، ومع أن صوت العدالة كان يطالب بإبادته والقضاء عليه ، لكن صوتاً آخر عميقاً فى قلب اللّه ، كان يقول كلا : « لا أجرى حمو غضبى لا أعود أضرب أفرايم لأنى اللّه لا إنسان ، القدوس فى وسطك فلا آتى بسخط » ” هو 11 : 9 “وهذا الصوت هو صوت المحبة ، صوت اللّه الذى هو أكثر احتمالا ورأفة من الإنسان ، وأقل رغبة فى الانتقام ، وفى غمرة هذا النزاع بين العدالة والمحبة نرى حزن اللّه المفعم بالود والإحسان والمشاعـــــــر فى القول : « قد انقلب على قلبى اضطرمت مراحمى جميعاً » ” هو 11 : 8 ” .
فى إحدى ولايات دولة الهند كانت هناك سيدة غنية من أغنى الأسر ، ولها ولد شرير فاسد ، ضعيف العقل سفيه التصرف ، ومع ذلك ، كانت أمه تحبه وتعنى به ، … وقد اتهم فى يوم من الأيام بالكثير من الجرائم المنكرة ، وحكم عليه بالموت ، وقد جاهدت أمه جهاداً جباراً للابقاء على حياته ، وعندما قالوا لها إن موته سيريحها ويعفيها من كثير من الآلام والمتاعب … صاحت : أليس هذا هو ولدى … فكيف أتركه !! ؟ لئن صح أن يصدر هذا عن إنسان فيفما يكون حاله وشأنه !! .. فبالأولى إنه يعبر عن محبة اللّه للإنسان الخاطئ !! ..
نداء المحبة
فى الأصحاح الرابع عشر ، يدعو النبى شعب اللّه أن يتوبوا ويرجعوا : « إرجع يا إسرائيل إلى الرب إلهك لأنك قد تعثرت بإثمك خذوا معكم كلاماً وأرجعوا إلى الرب . قولوا له ارفع كل إثم واقبل حسنا فنقدم عجول شفاهنا . لا يخلصنا أشور . لا نركب على الخيل ولا نقول أيضاً لعمل أيدينا آلهتنا . إنه بك يرحم اليتيم … » ” هو 14 : 1 – 3 ” وهذا هو نداء المحبة العظيمة ، الذى يؤكد لاسرائيل أنه رغم سقوطه وتعثره ، فإن الرب ما يزال إلهه ، وما عليه إلا أن يرجع للرب ، ويقدم صلاة التوبة التى يراها اللّه كعجول الذبيحة ، كما عليه أن يثق بسيده لا بآشور أو غيرهما من ممالك الأرض فاللّه وحده هو الذى يستطيع أن يقوى الضعيف ، ويرحم البائس ، وينصف اليتيم ، ترى هل يستطيع أن ينصت المتعثرون إلى هذا النداء الحلو الجميل ؟ ! ..
انتصار المحبة
وقد اختتم هوشع نبوته بانتصار المحبة : « أنا أشفى ارتدادهم ، أحبهم فضلا لأن غضبى قد ارتد عنه » .. ” هو 14 : 4 ” وما أكثر ما يرى إسرائيل من خير بعد هذه المحبة المنتصرة ، فإنه سيكون لإسرائيل كندى الحياة ، يجعله مزهراً كالسوسن ، جميلا كالأرز ، بهيا كالزيتون ، عطرى الرائحة كلبنان عميق الأصول … وهكذا يبصر اللّه فى إسرائيل مالا يراه إسرائيل فى نفسه ، وما لا يمكن أن تبصره سوى عين المحبة المنتصرة ، أو كما قال أحد المفسرين : « وكما تصبر الأم على ضلال ابنها ، وتثق بشئ قد لا ترى منه أدنى علامة ، ولكنها تأمل أن يكون يوماً ، وتظل متمسكة بالأمل ، حتى ولو أثبتت الأيام فشل انتظارها ، فيما كانت تحلم به ، غير انها تنظر إلى ولدها بقلب الأم ، لا بما يبدو منه من خطأ أو عار ، ولا فيما هو عليه ، بل فيما يمكن أن يكون ، فى ضوء رغباتها وأحلامها ، وتظل تتعلل بالفكر أن ابنها أعلى وأعظم كثيراً مما يبدو فى ظاهره ، ولا يمكن أن تسلم إلى النهاية بشره وبطله وضلاله ، وإلا تكون قد فقدت قلب الأم وحنانها ، هكذا اللّه أبونا السماوى ، يمسك بنا ويتحمل كل ما يرى من مظاهر شرنا ، على أمل أن يرى – يوماً ما – الخطية والجنون وقد عبرا عنا ، وفى قطار المسيح يسوع نرجع إلى بيت أبينا » …
على أحد التلال وقف ولد إنجليزى مع أبيه الذى كان يحدثه عن محبة اللّه ، ونظر الأب شمالا إلى اسكتلندا ، وجنوباً إلى إنجلترا ، وشرقا إلى ألمانيا ، وغرباً إلى التلال والمحيط الواسع خلفها ، وقال لوالده : إن محبة اللّه يا ولدى متسعة مثل هذه الجهات البعيدة ، … وقال الابن : إذاً يا أبى نحن الآن فى وسطها !! ..
وإذا كان من المعتقد أن « جومر » بنت دبلايم ، قد أثرت فيها محبة هوشع ، فعادت إلى بيت الزوجية تقبع فى عقر دارها ، تجتر ، حزنها وألمها أياماً كثيرة ، قبل أن تفهم معنى التوبة والوفاء لزوجها ، .. وإذا كان إسرائيل قد عاش فى الآم المنفى والسبى ، سنوات طويلة ، قبل أن تعود البقية من أسباطه إلى اللّه ، وتظهر فى أمثال شاول الطرسوسى بعد مئات من السنين ، وإذا كان الابن الضال قد عاد إلى أبيه بعد الجوع والضيق والمشقة والحرمان ، … فسنظل دائماً – على أية حال نكون – كما ذكر الغلام الإنجليزى – فى وسط دائرة محبة اللّه وقلبها ، لنسمع ما قاله هوشع بن بئيرى فى ختام نبوته ، ” ربما فى عام 735 ق.م. ” ، : « أنا أشفى ارتدادهم . أحبهم فضلا لأن غضبى قد ارتد عنه » ” هو 14 : 4 “.. !! …

هل تبحث عن  السلام للرسل الاطهار

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي