برزلاي الشيخ العجوز
برزلاي الشيخ العجوز

والآن نأتي إلى حديث الوداع بين الشيخ العجوز وداود، لنرى فيه صورة رائعة لهذا الشيخ، وهو يتحدث بمنطق الشيخوخة التي وصل إليها،.. ولعلنا نستطيع أن نرى هذا أولاً إذا ذكرنا: الشيخ والبقية الباقية من العمر إذ يقول لداود وقد طلب إليه أن يذهب معه إلى أورشليم: “كم أيام سني حياتي حتى أصعد مع الملك إلى أورشليم”… كان هذا الشيخ يمد بصره إلى الغروب البهيج الذي تدنو شمسه منه، بلمعان ذهبي،.. وهو يذكر الأيام القليلة الباقية قبل مجيء الغسق بنفس راضية،.. وهو ليس من ذلك الصنف من الشيوخ الذي كلما اقترب من النهاية، كلما حاول تجاهل هذه الحقيقة، وظل على بحثه في تزايد المركز أو الجاه أو الثروة، لقد أدرك برزلاي أنه “غريب ونزيل في الأرض” وهو ينبغي أن يتصرف به الغريب النزيل.
في قصة طريفة أن أحد الدراويش طرق قصر الملك، وإذ خرج الحراس طلب منهم أن يبيت في المكان، إذ هو فندق، فقالوا له: ليس هذا فندقاً، بل هو قصر الملك، ولكنه أصر على أن المكان فندق، وبينما هم يتجادلون ويتنازعون، جاء الملك ليؤكد للرجل أن هذا قصر وليس فندقاً، ويؤكد الرجل العكس، وأخيراً قال الدرويش للملك.. من الذي سكن هذا المكان قبلك؟!! فقال الملك: أبي.. فقال الدرويش: وأين أبوك؟!! وأجاب الملك: لقد رحل من العالم!! فقال الدرويش: ومن كان قبل أبيك.. فقال: جدي!!.. وأين هو الآن؟!! وكان الجواب: لقد رحل من قبل أبي!!.. وقال الدرويش: ألم أقل لك أنه فندق.. وليس قصراً؟!!.. في قصيدة: “لست أدري” للشاعر إيليا أبو ماضي، والتي فيها صور نفسه يناجي البحر قال:
كم ملوك ضربوا حولك في الليل القبـاب
طلع الصبح عليهم لم يجد إلا الضباب
ألهـم يا بحـر يومــاً رجعـــة أم لا مـــــآب؟..
فــأجـــاب البحــــر: إنـــــي لســـــت أدري!!..
وفي عرف الشاعر أنه لا فرق بين القباب والضباب، وكان هذا ما يعنيه برزلاي الجلعادي، وهو يتحدث إلى داود عن الأيام القليلة الباقية له من العمر!!.. وكان برزلاي ثانياً: الشيخ الشبعان من الأيام، الذي لا يأسف على ما أخذت الأيام معها -كما يفعل الكثيرون من الشيوخ- لما ضاع من أجسادهم من قوى بدنية، أو عقلية، أو عدم قدرتهم على التذوق الحسي أو العاطفي، فهو وإن كان لا يستطيع التذوق إلى حد الاستطعام بما يأكل أو يشرب، أما سماع أصوات المغنين والمغنيات، فهو لا يأسف على هذا، أو يتشبث به، فلكل وقت وقته، وهو يستبدل بهذه أشياء أخرى أسمى وأعلى وأكمل، لأنه على حد قول الرسول: إن كان إنساننا الخارج يفنى فإن الداخل يتجدد يوماً فيوماً،.. وعند برزلاي من الرؤى الداخلية، والشركة الحية التي تربطه بالله، والمتع العميقة للمعنى الروحي الأعلى للحياة، ما يتفوق على أعظم الرؤى الأرضية، وأشهى الأطعمة، وأرق الموسيقى، وأرخم الأصوات بين المغنين والمغنيات،.. وأي جمال يمكن أن يداني جمال الشيخوخة التي لا تعيش متذمرة على ما فاتها من صحة أو قوة أو أرضيات، لتعيش الغروب في صحبة الله، حتى تأتي اللحظة الرائعة المجيدة، لحظة الانطلاق!!..
عندما كتب أفلاطون جمهوريته، ذكرنا بالشيخ العجوز ثأوفيلس، الذي أقام فلسفته على أن ما أضاعه من قوى الشباب لم يكن ضربة أصابته، بل بالحري كان تحريراً لنفسه لما هو أعلى وأسمى،.. فإذا صح أن الخيال الوثني يمكن أن يبلغ هذا المبلغ، فكم بالأحرى الشيخ العجوز الجليل الذي يعيش حياته مع الله، ولو طعنت به الأيام وامتد به العمر على الأرض!!.. وكان برزلاي ثالثاً: الشيخ الرافض الرقيق الاعتذار في رفضه،.. وهو يقدر ولا شك عرض داود، وهو يذكر المعاني الرقيقة العميقة الممتليء بها، إلا أنه يرفض برقة وولاء وأدب، ويعطي نموذجاً للأدب الرقيق الرافض، وهو يريد أن يذكر داود بجلال الرفض الذي ينبغي أن يتمسك به الشيخ، وهو يرفض المسرات والملذات والمباهج والمراكز والثروات المتزايدة وما أشبه، لا لأنها في حد ذاتها شر أو خطأ، ولكن لأن التربة القديمة لم تعد تصلح لزرع جديد،.. إن برزلاي سيبقى إلى جوار أرضه القديمة، يرعاها على قدر ما يتمكن من جهد أو تعب، دون أن يرهق نفسه بتوسعات انتهى أمرها، ولم تعد تصلح إلا أن تكون عبئاً عليه أو على الآخرين: “فلماذا يكون عبدك أيضاً ثقلاً على سيدي الملك”.. ولقد كان الرجل موفقاً ودقيقاً إزاء إلحاح الملك إلى أن يبين أن ما يصلح مع كمهام ابنه الشاب لا يمكن أن يصلح معه وهو شيخ.. وما أعظمه من شيخ ذلك الذي يحسن التفرقة الذهنية والعلمية بين الشيوخ والشباب،.. ولعله أكبر خطأ يمكن أن يتردى فيه إنسان أن لا يجيد التفرقة بين الأجيال والأعمار المختلفة في حياة الناس، وما أكثر ما يفشل الشيوخ الذين لا يدركون هذه الحقيقة، ويستولى عليهم الحزن واليأس وانكسار القلب، لأنهم يطلبون لأنفسهم مطلب الشباب دون جدوى، أو لأن الشباب من أبنائهم وذويهم، على العكس، لا يعيشون كما يتخيلون هم أو يتصورون كشيوخ!!.. وهم أعجز من أن يعبروا البرزخ الذي يفصل بينهم وبين الشباب،.. وعلى أي حال إن برزلاي يعطي أبدع نموذج وأروع مثال للقدرة في التوفيق بين التحية الرقيقة والرفض المهذب،.. وهو يذكرنا بهذا بالأعظم الذي قيل عنه: “أعطوه خلا ممزوجاً بمرارة ليشرب، ولما ذاق لم يرد أن يشرب”… لقد كان الخل الممزوج بمرارة، نوعاً من المخدر تقدمه جميعة من بنات أورشليم لكل محكوم عليه بالموت، وقيل إن الأصل التاريخي لذلك ما ورد في سفر الأمثال: “أعطوا مسكراً لهالك وخمراً لمري النفس يشرب وينسى فقره ولا يذكر تعبه بعد” أو هو يشبه ما يقدم في العصور الحديثة للمحكوم عليه بالإعدام مما يطلبه قبل أن يموت،.. وقد رأى المسيح في هذا رقة يجمل أن يقدرها بالتذوق، للمعنى الإنسان الرقيق العميق، الذي يرغب في تخفيف آلام المحكوم عليهم بالإعدام،.. وفي الوقت عينه يرفض أن يتناول ما يخدر به آلام الصليب، التي لابد أن يحتملها بكاملها دون أدنى تخفيف أو تخدير!!.. وهو مثل يعملنا الأدب عندما نقصد أو نرفض ونقول كلمة: لا.. وعندما نقدر الدافع الذي يدفع من يقدم شيئاً لنا، يمكن أن يكون خاطئاً أو غير مقبول!!… وكان برزلاي رابعاً: الإنسان الذي يحسن الرجوع إلى الماضي بذكرياته الحلوة الجميلة: “دع عبدك يرجع فأموت في مدينتي عند قبر أبي وأمي”.. لقد عاد الرجل بذكرياته إلى الأيام الهانئة الطويلة التي قضاها، وهو يعبر قصته الأرضية، عاد إلى أبيه وأمه اللذين فارقهما منذ زمن بعيد،.. وهو يذكر قبرهما الذي سيضمه بعد زمن لن يكون على الأغلب طويلاً،.. عاد الرجل إلى دفء الذكريات، وما أحلاها من ذكريات، ونحن نسير في ثقل الحياة، ومتاعبها وآلامها ومعاركها،.. قال واحد من عظماء الناس: من يعود بي مرة أخرى إلى أحضان أمي؟! ولعله كان يذكر أحلى الأيام الخالية من الهموم والقلق والمتاعب والأحمال، عندما كان صبياً صغيراً، تضمه أحضان أمه بكل ما فيها من حنان وحب وبساطة وهدوء، كأجمل مكان يستعذبه الإنسان في الأرض!!.. ولكن إن عز علينا أن نجد المكان، فإنه لا يعز علينا أن نعود بالذكريات الحلوة الجميلة المبهجة للأيام القديمة!!.. إن الشيخ يستطيع أن يغالب قسوة الحاضر، بالعودة بالخيال الحلو الجميل للماضي البهيج،.. وهذا الخيال لا يمكن أن يعوقه معوق، حتى ولو دخل المرء إلى الزنزانة القاسية،.. وقد استطاع بولس في سجنه أن يعود إلى دموع تيموثاوس يوم الوداع، وأن يذكر الصحاب الأوفياء، الذين أحبوه، ووجد فيهم من قدم عنقه من أجله،.. وكانت هذه الذكريات هي أحلى ما ذكره الرجل، وهو على قيد خطوات قصيرة من الرحلة القاسية الأرضية!!.. على أن برزلاي لم يتجه بفكره إلى الماضي البعيد القديم،.. لقد حول عينيه أيضاً إلى المستقبل الأكثر لمعاناً من كل قصور داود وأبهائه ومجده،.. إنه يتطلع إلى بيته الأبدي، إلى المدينة التي لها الأساسات، وهو لا يمكن أن يتحدث عن المستقبل كمجرد عظام ينضم فيها في قبر إلى عظام أبيه وأمه في أرض جلعاد… إن هناك شيئاً أغلى وأسمى عند الرجل القديم،.. إنه الطائر الذي يحلق، وقد اقترب المساء، فهو يسرع إلى عشه، حيث هناك الراحة، والأمن والهدوء والاستقرار، إن لبرزلاي قصراً أمجد من كل قصر أرضي في جلعاد أو في أورشليم الأرضية، ولعله يقول ما قاله آخر وهو شيخ كان يودع العالم: “إني أدنو من الخطى الأخيرة، في غربتي على الأرض، وها هي شمسي تسرع إلى المغيب، وتغطي الفضاء بمجد لامع،.. وها بيت أبي يشع بنوره أمام عيني، وبابه المفتوح يدعوني إلى الدخول إلى الوطن بنفسي راغبة، وكل كنوزي الغالية، وكل أشواقي العميقة قد شحنت قبلي، وها أنا على الجناح الطائر لألحقها هناك”.. فإذا كان هناك من شيء أخير يهتم به برزلاي، فهو أن تمتد قصته بكل ما فيها من نبل وجمال وأمانة ومكافأة إلى ابنه كمهام!!… فإذا راق لداود أن يفعل شيئاً له، فهل يقبله ممتناً شاكراً إذ يفعله مع ابنه كمهام، وغريزة الشيخ تنفعل هنا، مع أجمل وأرق وأعمق العواطف البشرية، إنك تحسن إليَّ بما تقدمه لابني، وتسعدني بما يسعد به أولادي من بعد!!.. وتدفع نفسي لترضى حياً أو ميتاً بما يمكن أن تصنعه مع من يخلفوني على هذه الأرض!!… وهكذا يدرك الرجل أن الله لا يرجيء المكافأة كلها لما بعد الوفاة، بل إن الخير لابد أن يكافأ هنا في هذه الأرض… قبل أن نحصل على المكافأة الكاملة في السماء: “فأجاب بطرس حينئذ وقال لها ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا فقال لهم يسوع الحق أقول لكم إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثنى عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر وكل من ترك بيوتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية“..!!

هل تبحث عن  سنكسار السبت 24 ديسمبر 2022 م الموافق 15 كيهك 1739 ش

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي