النبي والشيخ الزميل
النبي والشيخ الزميل
والآن نأتي إلى الفصل الثالث من المسرحية، وتتحول من البلوطة إلى الشيخ النبي الذي سار وراء رجل الله حتى وجده هناك، لتقسو التجربة وتكمل وتفعل فعلها الآثم الرهيب، ولعل القسوة تأتي هنا، من هذا القناع الديني الذي لبسته التجربة وتدثرت به، وجاء الشيطان في شبه ملاك نور، وجاء فحيح الأفعوان على لسان نبي شيخ قديم كان يسكن في بيت إيل ويعيش فيها،… وقد صاح المسيح في وجه بطرس، إذ لم يره التلميذ الحبيب العزيز، بل رأى الشيطان الذي يطل من خلال عينه، ويتكلم على لسانه، ومن ثم قال له: “اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس” وإذا صح أن الشيطان يأتي إلى المسيح في بطرس، فمن السهل جداً أن نتصور، أنه جاء إلى النبي المرسل إلى يربعام، في زميله الشيخ الأسبق في النبوة، والذي يسكن في بيت إيل،.. ولعل من أصعب الأمور أن تأتي العثرة إلينا ممن هم أكبر منا سناً أو أكثر دراية في حياة المعرفة أو الفهم المسيحي،… ونحن لا نعلم لماذا ذهب الشيخ يبحث عن الشاب ليلتقي به، ويدعوه إلى الطعام، ويكذب عليه،… هل دعاه بدافع الإعجاب، فهو شاب قد بز الشيوخ، وهو صغير قد فعل ما لم يفعله الكبار، وهو المتكلم فيما أغلق غيره الفم وخاف من الكلام فيه،.. وهو الابد أن يجيبه، لأنه جرؤ على ما لم يجرؤ عليه هو،… لقد أرسل الشيخ أولاده إلى الحقل الكبير، ولم يذهب هو، ربما إبقاء على شيء من الإحساس الديني، بأنه لا يجوز له أن يذهب إلى منكر يفعله الملك، وهو لا يريد في الوقت عينه أن يسيء الملك التفكير فيه، أو يتصور إذا امتنع هو وأولاده معاً، أن هذا الامتناع هو نوع من العصيان الذي قد يعاقب عليه وإذا فلا مانع عنده من أن يداور الأمر، فلا يذهب هو، على أن يذهب أولاده، ولن يجد الملك غضاضة من قبول الوضع في التصور أن الشيخ قد يكون مريضاً أو عاجزاً عن المجيء، ما دام يوجد من يمثله ويحل محله،.. وعندما عاد أولاده ليقصوا عليه الأخبار المثيرة في ذلك الشاب الذي شق الصفوف بشجاعة، ووقف أمام الملك ليرعد في وجهه برسالة الله،… استولى على الشيخ الإعجاب وقاده هذا الإحساس بالإعجاب، إلى أن يدعو الشاب إلى بيته، حتى ولو اختلق الأمر وصور له أنه مرسل إليه بالرسالة من الله ليسهل عليه قبول الأمر والاستجابة له!!.. على أن البعض يصور الوضع تصويراً آخر، إذ يعتقدون أن الشيخ قد ذهب إلى الشاب مدفوعاً بالحسد منه، أليس هو الأكبر سناً؟ وها هو قد جلس في بيت إيل أخرس الفم واللسان، دون أن ينطق بكلمة لأن الملك أغلق الأفواه، وهوذا شاب جديد أفضل وأحسن وأعظم منه يتكلم بما عجز هو عن أن يفعله،… وهو إذا لم يكن له مثل هذه البطولة العظيمة فلا أقل من أن يصور لنفسه أنه يمكن أن يكون شريكاً صاحب الفضل في جانب من هذه الخدمة، عندما يرى الناس الشاب داخل بيته، وعلى مائدته، وإذ لم يقبل النبي مائدة الملك إطاعة لأمر الله، فإنه يقبل مائدة الشيخ النبي لأن الأخير شريك في الرسالة العظيمة التي قام بها الأصغر!!… نحن لا نملك أن نعرف تماماً وعلى وجه التحقيق الدوافع التي دفعت الكبير إلى الكذب على الشاب،.. ولكننا نعلم بكل يقين أن الشاب أخطأ خطأ فادحاً قاتلاً!!… وذلك لأنه أبهم الرسالة الواضحة المرسلة له من الله،.. نحن نعلم أن الله كلم الآباء بالأنبياء بأنواع وطرق كثيرة،… وليس من السهل أن نعلم الطريقة التي تكلم بها إلى هذا النبي وحدد له بكل وضوح رسالته إلى يربعام… فهو مرسل من الله ليتحدث عن نبوة ستبدأ به وتنتهي بملك في بطن المستقبل البعيد اسمه “يوشيا” وسيأتي هذا الملك على بعد ثلاثة قرون من يربعام، ولكنه سيأتي ليقود حركة واسعة من الإصلاح، ويحرق عظام الكهنة الكاذبين، ويطهر الأمة كلها،… ومثل هذا الكلام الواضح لا يحتمل الشبهة والتردد، فإذا جاءه شيخ أو ملاك من السماء ليقول له ما يبهم هذه النبوة في جانب منها أو ما يلاحقها من أمر إلهي واضح صريح، فإن واجبه الكامل أن يرفض رفضاً قاطعاً، أية أفكار أو مزاعم تدعى أنها منسوبة إلى الله، والسر واضح بين لا يحتمل الإبهام والتردد، لأن الله لا يكذب أو يناقض نفسه وأقواله،… لكن النبي الشاب، وقد اختمرت التجربة تحت البلوطة في ذهنه، كان أشبه ببلعام بن بعور الذي عاد يسأل الله، ما يعلم يقيناً أن الله كشفه له بكل وضوح.. كان الشيطان قد وجه إلى الشاب ضرباته الشديدة التي جعلته يترنح، وجاءت كلمات الشيخ الكاذبة، لتكون الضربة القاضية الأخيرة عليه!!…
على أن الأمر الأكثر إثارة وعجباً، أن الشيخ وهو على المائدة أجبره الله على أن ينطق بمصير الشاب التعس ومصرعه الوشيك على الحدوث، ومن حقنا أن نقف هنا على حقيقة بالغة، إن المجرب في العادة لا يشفق على الضحية، وسيكون هو أول من يخبرها بالقضاء الإلهي الذي يقع عليها،.. ومن المحزن المؤلم أن النبي الشيخ بعد أن سمع بمصرع النبي الشاب أخذ يصيح عليه قائلاً: “آه يا أخي”.. ونحن نسأل عن هذه الصيحة أو هذا النوح أو البكاء، وما معناه أو مغزاه،.. أهو نوع من الإحساس بالذنب أدرك الرجل إذ علم أنه السبب في هذا المصرع البشع؟!!.. أم هو نوع من الألم عندما نرى أنفسنا تجاه مقتل رجل عظيم، ولا كل الرجال!!.. أم أن الرجل مد بصره بعيداً فرأى في المصرع رمزاً لمصرع أمة بأكملها؟!!… قد يكون الأمر واحداً من هذه، أو قد تكون هذه جميعاً مختلطة معاً!!…
هل تبحث عن  سنكسار يوم الاربعاء 28 نوفمبر 2012

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي