أحشويرش
فى تلك الليلة طار نوم الملك
أس 6 : 1
أحشويرش

مقدمة
هل قرأت ما كتبه الشاعر الغربى عن المسمار الذى ضاع من حدوة الحصان ؟ ، وإذ ضاعت الحدوة ، ضاع الحصان ، وإذ ضاع الحصان ضاع راكبه ، وإذ ضاع الراكب ضاعت المعركة ، وإذ ضاعت المعركة ضاعت المملكة ، وكل ذلك بسبب الحاجـــة إلى المسمار الذى كانت تحتاج إليه حدوة الحصان !! .. وما أكثر ما تنجم أعظم النتائج من أصغر الحوادث وأتفهها ..
فى الليلة التى أعد فيها هامان خشبة ارتفاعها خمسون ذراعاً ليصلب عليها مردخاى المسكين ، .. فى تلك الليلة طار نوم الملك ، وتغير كل شئ ، وانقلبت الأوضاع ، إذ أن الملك لم يطلب – والنوم بعيد عن عينيه – الموسيقى الرقيقة ، أو النساء المحظيات .. ، أو الخمر أو غيرها مما يمكن أن يسليه عن النوم المستعصى على عينيه ، ولكنه طلب سفر تذكار أخبار الأيام ، ليتذكر ما فعل مردخاى ، وكيف لم يكافئه عن عمله ، .. وكيف أن هذا أنقذ الشعب الذى حكم عليه بالإعدام وهو لا يدرى ، وغير وجه التاريخ بما رتب لإنقاذه كل هذا حدث لأنه فى تلك الليلة طار النوم من عينى الملك ، .. ومن العجيب أن هذا الرجل الذى طار النوم من عينيه ، كان فى واقع الحال وحشاً من أقسى الضوارى التى ظهرت على الأرض ، ويصنع اللّه معه معجزة خارقة فلم تكن المعجزة سوى النوم الذى طار من عينيه ، .. وهكذا يتدخل اللّه بعنايته العجيبة ، ليصنع بأبسط الوسائل أضخم الأمور وأعظمها فى حياة الناس ، ولعلنا بعــد ذلك نستطيع أن نتابع القصة من نواح متعددة !! ..
من هو أحشويرش :
من المسلم به أن أحشويرش هو الملك الفارسى المسمى ” أكزركسيس ” أو زركسيس ” وأن هذا الاسم الأخير فى الأصل اليونانى هو الاسم المختصر للاسم الأول، وقد حكم عشرين عاماً ما بين 485 – 465 ق. م ، وقد كان مشهوراً بجماله الطبيعى مع الكبرياء والعناد والاندفاع والقسوة ، على نحو يكاد يكون بلا مثيل بين طغاة الأرض ، وجبابرتها العتاة ، وقد بدأ حكمه بإتمام غزو مصر الذى بدأه أبوه داريوس ، ثم عاد إلى بلاده ليعد لغزو اليونان التى كانت قد وصلت فى ذلك التاريخ إلى القمة فى العظمة والحضارة والمجد والمعرفة .. وذلك بعد أن خضعت له آسيا بأكملها من الهند إلى كوش ، ليتحقق له إخضاع أوربا بأكملها ، وليصل – على حد قوله – بالحدود الفارسية إلى آخر ما تصل إليه سماء اللّه !! .. وقد استمر ثلاث سنوات يجهز الجيش اللازم للمعركة ، وقيل إنه أمكن أن يعد أكثر من خمسة ملايين مقاتل ومدنى للقتال ، على رواية هيرودتس ، وإن كان المؤرخون المحدثون يعتقدون أن هذا العدد مبالغ فيه ، وأن الجيش كان حوالى مليون وخمسمائة ألف مقاتل ، .. وأقام جسراً على الدردنيل ليربط آسيا بأوربا التى يزمع إخضاعها ، وعندما هاجت الزوابع وكسرت الجسر أمر بقطع رؤوس المهندسين الذين عملوه ، وجلد البحر ثلثمائه جلدة ، وفى فريجيه توسل إليه بسياس العجوز ( وقد قدم خمسة من أولاده للذهاب إلى الحرب) أن يعفى الأكبر ليبقى مع أبيه ، فما كان منه إلا أن شطر الولد إلى شطرين ، وأمر الجيش أن يمر بين شطرى الجثة !! .. وقد فعل شيئاً آخر يكاد يكون مماثلا لهذا الأمر ، إذ أن صانع السهام ، أراد أن يجرب سهماً ، وكان ابنه ساقى للملك ، ( يقدم الكأس للملك ) ، فجربه فى ابنه بأن أنشبه فى قلبه ، وسر الملك ، وسمح له أن يقبل يديه مكافأة له على ما فعل !! .. هذا هو الرجل االذي يبدو وحشاً ضارياً ، وهو صورة شاء اللّه أن يقدمها لنا ، ويقدم الكثير من أمثالها فى كل العصور ، لكى نعلم أن اللّه متسلط فى مملكة الناس ، … ألم يقتل الإسكندر الأكبر أعظم قواده المحبوبين بارامنو ؟ ، وألم يرسل هيرودس الكبير زوجته الجميلة المحبوبة ماريمينه إلى الموت ؟ وألم ينه نيرون حياة أمه أغربيانا . والفيلسوف سينكا ، وعشيقته بوبيا الجميلة التى ظل يركلها بقدميه حتى لفظت أنفاسها ؟ … وذهب هؤلاء جميعاً ليبقى الحاكـــم العادل الذى هـــــو ديان الأرض كلها ويصنع عدلا !! ..
أحشويرش وزوجاته :
وكان الأحرى أن نقول ” أحشويرش والمرأة ” ، إذ أن هذا الرجل كانت له زوجات عديدات ، كل واحدة فى نوبتها ، كما يشتهى الملك ويشاء ، وكان قصر الحريم عنده صورة رهيبة عجيبة ، يحكمها الأمر وقضيب الذهب فإذا ذهبت واحدة فى غير موعدها، أو دون أن تؤمر ، فأمرها واحد ، هو الموت البشع ، .. ولقد ذكر عنه ذات مرة ، كما تقول رواية تاريخية أو تقليدية ، إنه سمح لواحدة من الزوجات بأن تشوه منافستها أمامه ، فما كان منها إلا أن مزقت صدرها ، وأنفها ، وأذنيها وشفتيها وألقت بها للكلاب ، واجتثت لسانها من الأساس ، وأرسلت الجثة مشوهة المعالم إلى بيتها ..!! قد يجرب المرء عندما يسمع أو يقرأ عن قصر تحول إلى ما يشبه الغابة ، ممتلئاً بالحيات السامة ، والإناث من الوحوش التى تكيد الواحدة للأخرى بالضرر والموت ، إن العناية يمكن أن تبتعد أو ترفض الدخول إلى مثل هذه المجتمعات ولكن العكس صحيح ، إذ أن اللّه يحكم كل شئ بسلطانه الأبدى العظيم ، وهو يسيطر على الخطأ أو الصواب على حد سواء !! .. فإذا كان الملك يقيم حفلا تاريخياً باذخاً ، يجمع إليه جميع الشعوب ، ويقال إنه كان وقتئذ يعد لغزو اليونان ، وهو لذلك يكثر من الخمر والشراب، وأذا هو يشرب ويشرب ، ويشرب معه العظماء والسادة ، وفى لحظة يفقد فيها ميزانه العقلى ، يأمر أن تأتى الملكة فى جمالها البارع ، لكي تظهر فيما يشبه العرض على الحاضرين ، وأذا بالملكة الشجاعة النبيلة ، ترفض أن تظهر أمام العيون المبتذلة المخمورة ، وإذا هو يجرح فى كبريائه ، وييستشير المخمورين معه ، فيما يفعل تجاه الكبرياء الجريحة ، ويأمر بخلع الملكة ، ويصدر قراراً أن الرجل يحكم المرأة فى البيت، .. كأنما الحكم فى البيوت يحتاج إلى قانون ملكى ليسيطر الرجل على المرأة فيه!! .. وإذا بالملك يهدأ بعد الغضب ويحن إلى وشتى ، وهو لا يستطيع أن يرجعها ، … وهو فى حاجة إلى من يملأ الفراغ بمن تكون أجمل وأعظم ، وإذا بمباراة تعقد بين ملكات الجمال ، لتفوز فيها فتاة يتيمة من شعب مغمور ، تستولى على مشاعر الملك ، وتفرض عليه سلطان جمالها الطاغى ، وتقف دون منازع بين مثيلاتها فى القصر الملكى ، … فإذا كانت المؤامرة التى ستقع على الشعب ، كما هو ثابت فى الكلمة الإلهية كانت فى الثانية عشرة من حكم الملك ، فإن خلع وشتى ، لتحل محلها أستير ، كان قبل ذلك بسنوات تقترب من العشر ، وتسبق العناية الخطأ والصواب معاً ، وتجهز سبل النجاة قبل أن يقوم الخطر أو يعرفه أو يدركه إنسان على وجه الإطلاق !! … حقاً إن اللّه يحكم ويسود فى كل العصور والأجيال ، يستوى فى ذلك عصور الديكتاتورية والطغيان ، أو أرقى العصور حيث يسود القانون ، وتأخذ العدالة مجراها بين الناس،… لقد حكم اللّه وساد أيام فرعون ، حيث لا يجد الشعب البائس ملاذاً يلوذ به من التسخير والاستعباد ، وحيث يصدر الأمر بأن يلقى كل ذكر عبرانى فى مياه النيل !! .. وقد حكم اللّه وساد فى أيام نبوخذ ناصر ، حيث يأمر الملك أن يفسر له أحد حلمه الذى ربما نسيه هو ، ويلزم أن يذكره السحرة والعرافون به ، وحيث الأتون المحمى سبعة أضعاف ليلقى فيه من يخالف أمره ، أو يعصى كلمته ، .. ولقد حكم اللّه وساد عندما جعلت روما لعبتها المفضلة أن ترمى بالقديسين لتتسلى بمنظرهم والوحوش الضارية تمزق أجسادهم ، … وقد حكم اللّه وساد عندما حول هتلر أوربا إلى بركة من الدم ، وأطلق الحرب العالمية الثانية من عقالها !! .. وفى كل عصور تنطلق الوحوش الضارية ، يمكن أن نسمع صوتاً يقول : ” إلهى أرسل ملاكه وسد أفواه الأسود فلم تضرنى ” ” دا 6 : 22 ” ..
أحشويرش وهامان الأجاجى :
من الغريب أن الشعوب تذهب – فى العادة – ضحايا تصرف الأفراد ، وأن المشاكل والمؤامرات والحروب كثيراً ما ثارت ، دون أن تكون هناك ضرورة لقيامها ، فحروب تروادة قامت من أجل امرأة ، وحرب البسوس من أجل ناقة ، والحرب العالمية الأولى من أجل مصرع أمير من الأمراء !! .. وهكذا تأتى النار من مستصغر الشرر ، .. وإبادة شعب بأكمله ، جاء من وراء خلاف بين رجلين ، فهامان الأجاجى وصل إلى مركز رئيس الوزراء ، وقد أكرمه الملك ، باعتباره ممثلاً له ، فأمر بأن ينحنى أمامه الجميع ويسجدون ، غير أن مردخاى اليهودى من حقه أن يحترم الرجل ، ولكن لا يمكن أن يسجد لإنسان مثله ، لأن عقيدته الدينية تمنعه من السجود إلا للّه وحده، وهو يقبل الموت دون أن يسجد للإنسان ، حتى ولو كان أحشويرش نفسه وهنا نقف أمام نقطة هامة ، بل هنا نقول مع مارتن لوثر : ” هنا أقف ولا أفعل غير ذلك ، وليعنى اللّه ” !! ..
فى مدينة أفسس طلب من فتاة مسيحية فى عصور الاضطهاد ، ألا تفعل شيئاً سوى أن تقدم قليلا من البخور فى المبخرة للآلهة الوثنية .. ورفضت الفتاة ، وهى تقبل أن تحترق، هى بنفسها ، دون أن تتجاوز الخطر الإلهى فى الولاء للّه !! .. وإذا صح أن ” تل ” السويسرى رفض أن ينحنى بدافع الوطنية أمام قبعة الغاصب المحتل ، وعندما أكره على أن يصوب سهماً إلى تفاحة وضعت على رأس ابنه ، وأى انحراف للسهم قد يقتل الابن فى الحال ، وقبل ، وقد وطن نفسه على أن يجهز سهماً آخر للغاصب لو أن ابنه قتل من السهم الأول … وإذا صح أن الوطنية دفعت ملايين الناس على الأرض إلى أن يمحوا تراب وطنهم بالدم وأن يدفعوا الغاصب أو المستعمر أو العدو ، ولو قدموا حياتهم رخيصة بلا تردد من أجل الوطن ، … فكم يكون الأمر إذا تتعلق بعقيدة الإنسان وضميره ، وهو يعيش تحت شعار الأمانة الدينية منصتاً إلى صوت السيد : ” كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة ” ، … ” رؤ 2 : 10 ” هذا هو السبب الذى دفع مردخاى لأن يقف على النقيض من عبيد الملك جميعاً ، الذين كانوا يجثون ويسجدون لهامان ، كأمر الملك ، … وهذا هو السبب الذي أثار هامان ، وطعن كبرياءه. فى الصميم ، وملأه بالحقد والضغينة والانتقام ، … وهو فى كل الحالات على النقيض من مردخاى ، رجل وصولى نفعى لا يبحث إلا عن مجده وكرامته وعظمته وثروته ، وهو يصل إليها جميعاً بمختلف الوسائل والأسلحة . والإنسان ، فى الكبرياء ، يعمى عن الحقيقة ، إنه لا يختلف عن أى إنسان آخر ، مهما كان حظه ومركزه ونصيبه من الحياة ، وقد رأى أيوب نفسه لا يختلف عن عبده وأمته فقال : ” إن كنت رفضت حق عبدى وأمتى فى دعواهما على ، فماذا كنت أصنع حين يقوم اللّه ، وإذا افتقد فبماذا أجيبه ، أو ليس صانعى فى البطن صانعه ، وقد صورنا واحد فى الرحم ” ” أيوب 31: 13 – 15 ” ..
وقد بلغت كبرياء هامان الحد الذى فيه رأى أن إساءة مردخاى لا يمحوها دمه وحده، بل لابد من أن يكون دم شعبه بأكمله فى كل البلاد هو التعويض عن الكبرياء المجروحة والمساء إليها !! … أية وحشية يمكن أن تكون كهذه الوحشية ؟ وأية قسوة يمكن أن تصل إلى هذه القسوة ؟ … وفى الحقيقة أن أى وحش يلغ فى الدماء لابد أن يتوقف عن التعطش إلى الدم ، مهما كانت وحشيته ، ليعطى المكان الأول لهامان الأجاجى وأمثاله فى كل التاريخ ، الذين لا يشبعون من أنهار الدماء التى تفيض أمامهم دون توقف !! .. وقد كان على هامان ليتمم رغبته الوحشية – أن يقدم رشوة للملك أحشويرش وهو لا يكتفى بأن يبرر أن الشعب اليهودى شعب منعزل بسنين مختلفة عن الشعوب ، وهو لا يعمل سنة الملك ، بل إنه سيعطى عشرة آلاف وزنه تقدم لخزانة الملك مقابل هذا القضاء الذى يلزم إتمامه ، … وما من شك بأن هامان وضع عينيه على ثروة هذا الشعب ، وهى أضعاف مضاعفة لما يقدم لخزانة الملك ، وسيكون له النصيب الوافر من الثروة المحمولة إليه منهم !! .. ومثل هذا الإنسان ليس قاسياً أو راشياً مرتشياً فحسب ، بل هو أكثر من ذلك ، إنسان خرافى يؤمن بالوساوس والخرافات ، ومن ثم فهو يلقى القرعة فى الشهر الأول – أي شهر نيسان – ليقع القضاء فى آخر السنة فى الثالث عشر من الشهر الثانى عشر شهر آزار لإهلاك وقتل وإبادة جميع اليهود من الغلام إلى الشيخ ، والأطفال والنساء فى يوم واحد ، وأن يسلبوا غنيمتهم !! … ومع أن الملك قد ختم الكتاب إلا أن غيظ هامان من مردخاى وبالمشورة مع زوجته ومشيريه ، لم يستطع أن يصبر إلى الزمن المحدد للقضاء عليه ، بل أسرع ليجعله عبرة منفردة للآخرين ، فصنع خشبة طولها خمسون ذراعاً ليصلب عليها عدوه اللدود !! .. ولم يعلم هامان ، وهو يصنع الخشبة الطويلة ، أن يضعها لنهايته وللقضاء عليه هو ، وفقاً لقول الحكيم : ” من يحفر حفرة يسقط فيها ومن يدحرج حجراً يرجع عليه !! .. ” . ” أم 26 : 27 ” وأعتقد أننا فى حاجة إلى مصور بارع يصور لنا هامان الأجاجى ، وهو يلبس مردخاى الذى سر الملك بأن يكرمه ، اللباس الملكى ، ويركبه فرس الملك ، وينادى فى ساحة المدينة : هكذا يصنع للرجل الذى يسر الملك بأن يكرمه !! .. وأعتقد أننا فى حاجة إلى صورة أكبر لذلك الصليب ، وقد أنتزع من فوقه مردخاى ليأخذ هامان مكانه !! إنه اللّه ، صديق البائس والمنكوب والمظلوم ، والبرئ ، يفعل هذا وهو القادر على كل شئ فى كل عصور التاريخ !! ..
أحشويرش وأستير :
تذكرنى أستير بالسؤال الذى وجهته أم كرومويل إلى ابنها ، إذ رأته يقوم بما يشبه الإقدام الجنونى على كثير من الأعمال ، وعندما سألته عن السر فى ذلك ، أجاب : توجد لحظات يا أمى لا يستطيع الإنسان فيها أن يفكر فيما يواجه ، طالما كان أمامه واجب يلزمه بذلك !! .. وكان كرومويل نفسه فى تكريسه حياته للخدمة والواجب ، هو الجواب على سؤال نهض أمامه فى مزرعته عندما أحس أن اللّه يدعوه ، وأن اللّه فى حاجة إلى رجل ، شجاع ، أمين ، بصرف النظر عما يواجه من مشقات ومتاعب وأعوال .. كان السؤال المطـــروح أمام عينيه ، هو ذات السؤال القديم : ” من أرسل ومن يذهب من أجلنا ، ” ” إش 6 : 8 “.. وكان الجواب بدون تردد : ” ها أنذا ارسلنى!! . وإذا كانت هناك امرأة بين النساء قد أجابت بشجاعة على هذا السؤال ، فقد كانت أستير واحدة من البطلات اللواتى أجبن ، بعد عمق دراسة ، غير عابئات بالنتيجة، سواء جاءت فى هذا الاتجاه أو ذاك : ” فقالت أستير أن يجاوب مردخاى : اذهب اجمع جميع اليهود الموجودين فى شوشن وصوموا من جهتى ولا تأكلوا ولا تشربوا ثلاثة أيام ليلا ونهاراً ، وأنا أيضاً وجوارى نصوم كذلك ، وهكذا أدخل إلى الملك خلاف السنة ، فإذا هلكت هلكت ” ” إش 4 : 51 و 61 ” ومن الواضح أن أستير وجدت من مردخاى تشجيعاً على ما يقال إنه مغامرة انتحارية ، ولعل المبدأ الأساسى فى أية مغامرة أو فى أية رسالة هو موازنة النتيجة ، وهل الفائدة أو الضرر أقوى وأكمل فى الإقدام عليها أو الامتناع عنها ، فإذا كان مجد اللّه معلقاً فى الميزان ، أو إذا كان مصير الكثيرين يمكن أن يرتبط بالمغامرة ، فإن أى بذل لا يمكن إلا أن يكون مكسباً أعلى وأعظم ، مهما كان الثمن الذى يدفع فيه ، … هل سمعنا عن ذلك الرجل الذى كان يدعو نفسه : الثالث … وعندما سئل : ومن هو الأول والثانى … كان الجواب: اللّه أولا : الآخرون ثانيا : أنا ثالثاً !! .. وفى ضوء هذا الترتيب رأت أستير نفسها فى المركز الثالث !! .. بل إن مردخاى يؤكد لها هذا المركز من وجهة أخرى ، فهو يؤكد لها أن صاحب المركز الأول له القدرة ، بها أو بدونها ، على أن يحقق النجاج للشعب !! … لكنه يريد أن ينبهها إلى أنه هو الذى وضعها فى المركز الذى لم يكن تحلم به على الإطلاق : ” لأنك إن سكت سكوتاً فى هذا الوقت يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر وأما أنت وبيت أبيك فتبيدون ، ومن يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك ” ” إس 4 : 14 ” .. إن السؤال الذى تطرحه هذه القضية علينا أجمعين ، ليس حول الشعب اليهودى فى ذلك التاريخ .. بل فى أمرنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور : ما هى الحياة !! ؟ ما هى الحياة لأستير !! .. وما هى لى أو لك ، نحن الذين تفصلنا عن القصة القديمة : ما يقرب من ألفين وخمسمائة من الأعوام !! ؟ هل الحياة أن يتحول الإنسان من فقير يتيم إلى مركز الملوك ، وينتقل من كوخ إلى قصر ؟ .. ومن الجوع والمسغبة والمشقة إلى حياة المجد وأبهاء الملوك !! ؟ .. هل هذه هى الحياة ؟ إن الجواب بكل تأكيد : كلا !! لأن الفقير والغنى فى رحلتها الأرضية سيسوى بينهما التراب الذى سيتحولان إليه ، ولا يعود يفصل بينهما فاصل ، أو كما قال ديوجين للاسكندر الأكبر عندما أبصره يمسك بمجموعة من العظام وسأله الإسكندر : أية عظام هذه التى معك ياديوجين !!؟ .. وكان الجواب : لا أعلم ، أهى عظام أبيك أو عظام عبيده !! ؟ … ولو صحت الرواية ، فإن عظام العبيد تختلط بعظام سادتهم ، عندما يعود الناس تراباً إلى الأرض !! ؟ .. ومن ثم فإنها ليست الثروة أو الجاه أو النفوذ أو الأكل أو الشرب الذي يفصل بين إنسان وإنسان !! ؟ … إن الحياة فى مفهوم مردخاى – لا تزيد أو تنقص عن أنها فرصة فى مملكة الإنسان ، سواء اتسعت هذه المملكة لتصبح من الهند إلى كوش ، أو ضاقت لتصبح مملكة الإنسان فى داخل كيانه الشخص .. وكل على أية حال هو ملك على مملكة ، .. وهناك فى هذه المملكة ، الفرصة التى إذا ضاعت فلن تعود ، والمسئولية هى الحياة تجاه هذه الفرصة ، وهى بحق ما ذكره ” دانيال وبستر لما سأله أحدهم عن أهم شئ يواجهه فى الحياة ، فكان جوابه : ” هى مسئوليتى تجاه ابن اللّه فى الأرض ” !! … وليس من واجبى تجاه هذه الفرصة أن أسأل فى وقت الموت أو الخطر ماذا ينبغى أن أفعل !! .. لكن واجبى الوحيد أن أسير فى الطريق دون تراجع عن الشهادة أو الاستشهاد … وهذا هو المعنى النبيل العظيم فى الحياة !! .. كان لأستير المجد العالمى إذ كان لها أعظم ما يمكن أن يصل إليه إنسان فى الأرض من إمتيازات وجوار وخدم وعبيد ، لكن أستير أدركت أن هذه كلها تذهب وتبيد … وتبقى القصة خالدة بما يقدم الإنسان من عمل لمجد اللّه ولخير الآخرين !! … وكم من ملكات عشن فى التاريخ وذهبن ، وذهب كل شئ فى حياتهن طعمة للدود الذى أتى على كل نعيم ، … ولم يبق لهن إلا الخدمة إذا كن قد أدركن رسالتهن ومسئولياتهن فى الحياة !! … والفرصة كالشعرة الدقيقة إذا أفلتت على رأى شكسبير لا يمكن أن نرجعها مرة أخرى ، ونحن نسير فى موكب لا يرجع فيه التاريخ إطلاقاً !! وسعيد ذلك الإنسان الذى يمسك بالفرصة ، مهما كانت المتاعب أو فخاخ الموت المنصوبة عن جانبيه فى الطريق !! .. إن الشعار المسيحى الذي جاء بعد مئات السنين من أستير ، يتركز فى عبارة واحدة خالدة : ” لى الحياة هى المسيح والموت هو ربح ” !! .. ” فى 1 : 21 ” وكيفما كانت الحياة أو الموت فإن لغة المسئولية الدائمة : لأننا إن عشنا فللرب نعيش ، وإن متنا فللرب نموت ، فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن !! ..” رو 14 : 8 ” على أننا نلاحظ أنه إن أهملنا الفرصة – فى عرف مردخاى – فليس معنى ذلك أننا نهرب من الموت ، بل لابد أن يلاحقنا الموت هناك .. فالهاربون من الفرصة مائتون بهذا المعنى أو ذاك : ” وأما أنت وبيت أبيك فتبيدون ” .. وهو موت الإبادة بالمعنى المادى أو الأدبى على حد سواء ، و ” من لم يمت بالسيف مات بغيره … تنوعت الأسباب والموت واحد ” … فإذا نجا الإنسان من الموت المادى ، فإنه قد يموت أضعافاً مضاعفة الموت الأدبى أو الروحى الذى يلحقه فى الدنيا وفى الآخرة معاً ، ويل لمن يموت ويبيد أسمه أدبياً أو روحياً ، حتى ولو رآه الناس إنساناً عظيماً جالساً على عرش فى الأرض !! … على أنه ، بالإضافة إلى هذا كله ، لا يجوز أن نمسك بالفرصة فى استقلال عن اللّه ، أو بالإندفاع الطائش بأية صورة من الصور ، لقد كانت أستير آية فى العظمة والحكمة ، عندما استندت إلى اللّه فى فرصتها، إذ دعت أصدقاءها جميعاً للصوم والصلاة ثلاثة أيام ليلا ونهاراً ، وذهبت إلى الملك ، وبعد أن التقت بملك الملوك ورب الأرباب ، وهذا واجبنا الدائم عندما نقف أمام أية مسئولية صغرت أو كبرت … وليكن اللّه القائد والصديق والسيد والمعين على تحمل المسئوليات ، ومن المناسب أن نذكر أيضاً أنها استخدمت جمالها فى الخدمة المقدسة ، ويحسن أن نشير إلى ما قاله أحد رجال اللّه بهذا الشأن يوم قال : ” لقد بدأ هذا الجمال فى قمة بهائه ، عندما توارى منه كل بحث عن الذات ، واضحى نبيلا بنبل الغاية أو المقصد الذي اتجه إليه ، … والجمال كوزنة أو هبة إلهية ينبغى أن يعطى ويقدم للخير ، وسيبلغ الذروة ، وهو يقدم على مذبح الخدمة والتكريس ، … وهو هناك يصبح كوجه استفانوس عندما شخص إليه جميع الجالسين فى المجمع ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك !! … ” أع 6 : 15 ” ترى هل يستطيع الجمال عند أبناء ووبنات اللّه أن يخدم السيد بهذا المعنى العظيم المرتفع الرائع ؟!!
أحشويرش ومردخاى :
لم يكن مردخاى صاحب عمل عظيم ، فى مطلع الأمر ، وهو لم يكن يدرى وهو أسير منفى ، أن اللّه سيستخدمه على النحو التاريخى العظيم الذى قام به ، لقد بدت رسالته الأولى بسيطة غاية فى البساطة ، لقد عهد إليه بابنة عمه أستير ، وقد مات أبواها ليكلفها ويربيها ، وقد أحسن تربيتها وإعدادها للدور العظيم الذى لعبته فى إنقاذ شعب بأكمله ، من هاوية دبرت له وهو لا يدرى . وقد استخدم مردخاى بعد ذلك فى القصر الملكى فى وظيفة يسيرة محدودة ، من أصغر الوظائف ، وقد شغلها بنبل ووداعة ، وأنقذ الملك من مؤامرة دبرت له ، وقد شاء اللّه أن يبقى فى الوظيفة وتؤجل مكافأته ، حتى يأخذ مكان هامان ويصبح رئيسا للوزراء ، تماماً كما أجلت مكافأة يوسف إذ نسيه رئيس السقاة ، حتى يصبح ثانى رجل فى مصر بعد فرعون ، .. وهكذا نرى خيوط الرواية كلها ، تتحول من نوم يطير من عينى الملك ، إلى وقائع مثيرة خالدة تأخذ بالألباب فى كل العصور والأجيال ، وتؤكد أن عناية اللّه هى التى تشكل قصص الحياة بكامل وقائعها ، على النحو الذى جعل ” يوناثان برا يرلى ” يقول: ” نحن فى عالم رتب لنا ، ولم يرتب بنا ، وقد أعد اللّه أعمالنا فيه قبل أن نصل إليه ” .. ، قال ” نورمان كاكليود ” ، وهو فتى صغير تضغط عليه أحداث الحياة : ليتنى لم أولد ” … وإذ سمعته أمه قالت له : ” يانورمان … ها أنت قد ولدت … ولو أنك كنت ولداً طيباً لسألت اللّه أن يشرح لك لماذا أنت هنا ، ولسألته أن يساعدك لإتمام أغراضه ” .. وقد كان هذا كافياً للفتى الذى وعلى كلمات أمه ، وأصبح واحداً من أعظم الأبطال والرجال !! … عندما كان هنرى دراموند ” يعظ فى إنجلترا فى نهضة من النهضات ، قال أحد الطلاب الجامعيين لزميل له فى الجامعة : هل ستحضر هذا المساء اجتماعات دراموند ؟ .. وفى تلك الليلة وجد الشاب يسوع المسيح .. ليقول فيما بعد : إنه ليس سؤال صديقى هو الذى دعانى للذهاب ، بل صوت اللّه ، .. وهكذا تغير تاريخه بأكمله !! ..
أليس من المثير والعجيب أن سفر أستير هو السفر الوحيد فى الكتاب المقدس الذى لم يذكر فيه لفظ ” اللّه ” ، ولا نقرأ فيه عن معجزة واحدة خارقة للعادة !! ولكن كل سطر فيه خطته العناية الإلهية الخفية التى تسير أحداث الحياة ، ولفظ ” اللّه ” مستتر وراء كل كلمة فيه ، والمعجزة العظيمة ، هى أن اللّه ، الذى يزحزح الأرض وهى لا تدرى، زحزح كارثة عن شعب ، كان لا يمكن أن يتبعثر فى الأرض أو يضيع قبل أن يأتى شيلون الذي هو المسيح مخلص العالم ، والذى جاء فى ملء الزمان ، ” مولوداً من امرأة ، مولودا تحــــت النامــوس ليفتدى الذين تحت الناموس لننال التبنى ” !!! … ” غل 4 : 4 ” .

هل تبحث عن  إنتقال مريم الى السماء وتتويجها سلطانة السماء والأرض (مدينة الله السريّة)

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي