أتاي الوفى
أتاي الوفى
كان أتاي الجتي صورة من أروع صور الوفاء التي كتبت في حياة الناس على هذه الأرض،.. وقد كان وفاؤه أولاً وقبل كل شيء لله، أو في لغة أخرى، إن وفاءه لداود كان نابعاً في الأصل من الوفاء لله،.. كان هذا الرجل كما عرفنا رجلاً جندياً بطبعه وحياته، وكان لهذا السبب صادق النظر، مستقيم المبدأ، لا يعرف الازدواج أو الرياء أو التصنع أو الانحراف، وهو يعرف عندما يدخل المعركة، لماذا دخلها، وما واجبه في أوراها واشتداداها،.. ولا شك أنه سأل نفسه هذا السؤال الواحد: ها هي الثورة تقوم، وها هو الابن ينقلب على أبيه، فأيهما على حق وأيهما على ضلال؟!! وكان الجواب على السؤال هو الذي يحدد موقفه القاطع الحاسم النهائي، وقد أدركه بدون أدنى ريب أو تردد، إذ لم يكن هناك شك في أن الموقف الحق الصحيح إلى جانب داود، وضد ابنه المتمرد الثائر الآثم الشرير!!… ومهما تكن النتيجة فإن واجبه يقتضيه أن يقف في موقع الله، حيث الحق والصدق، والشرف والأمانة،… ومن الملاحظ أن أتاي لم يسأل الأسئلة التي قد تراود الذهن البشري قبل أن يقرر مكانه وموقعه، كمثل من يا ترى سيفوز في الثورة، ومن سينهزم؟!! من سيحيا ومن سيموت؟!! من سينجح ومن يصاب بالهزيمة؟!!.. كل هذه أسئلة لا مكان لها عنده، إذ أن مكانه الوحيد: “حي هو الرب وحي سيدي الملك إنه حينما كان سيدي الملك إن كان للموت أو للحياة فهناك يكون عبدك أيضاً”… أليس هذا عين ما قالته راعوث لنعمى من قبل: “فقالت راعوث لا تلحي علي أن أتركك وأرجع عنك لأنه حيثما ذهبت أذهب وحيثما بت أبيت شعبك شعبي وإلهك إلهي، حيثما مت أموت وهناك أندفن. هكذا يفعل الرب بي وهكذا يزيد إنما الموت يفصل بيني وبينك”… (را 1:16 و 17).
فإذا أضفنا إلى ذلك أن جمال التصميم عند راعوث من قبل، أو عند أتاي فيما بعد، نشأ بعد العرض السخي الكريم من نعمى أو داود أن يعود المصاحب إلى موقعه ومكانه، دون أن يجهد نفسه أو يكلفها بما لا قبل لها من تعب ومشقة وجهد ومعاناة،… وكما رفضت راعوث من قبل، رفض أتاي من بعد في تصميم من وضع يده على المحراث دون أن يفكر لثانية واحدة في النظر إلى الوراء،.. لقد جاء هذا التصميم من نبع الاختيار الحر المطلق الكريم!!.. على أن الجمال الأعظم في هذا الولاء أو الوفاء، أنه جاء في وقت المحنة، والمستقبل الغامض المجهول،… وإذا كانت المحنة قد كشفت الأعماق عند شمعي وأخيتوفل وأبشالوم، وسائر الشعب الذي سار وراءهم، فإنها هي التي أعطت المثل الأعلى في ذلك الذي سار وراء داود وهو مغطى الرأس حافي القدم أعزل من القوة والرجاء بحسب المفهوم البشري ونظرة الناس،.. ومن الغريب أو العجيب أن كلا منا يلزم أن يكون بمعنى ما “أتاي” في التبعية، لابن داود، ابن الله في الأرض،… إذ لا يمكن أن نرى مجده، قبل أن نخرج إليه خارج المحلة حاملين عاره،… وكما وقف أتاي الجتي مع داود ضد من يحاول أن يغتصب عرشه، فإن واجبنا أن نقف مع ابن داود ابن الله، ضد كل المحاولات التي تحاول أن تغتصب مجده وعرشه وجلاله، وتجرده من سلطانه العظيم كملك الملوك ورب الأرباب، ومهما يكن نصيبنا من الاضطهاد والمحن والتشريد والآلام، إلا أن موقعنا الصحيح من المعركة معروف دون أدنى تردد أو تراجع أو إبهام… مع المسيح في الحياة أو الموت على حد سواء!!..
عندما وقف مارتن لوثر في مجمع ورمس، أما تشارلس الخامس الامبراطور، ووجه إليه السؤال: “هل تتراجع أو لا تتراجع عن معتقداتك”؟.. جاء الجواب: “إذا كان “جلالتك” يطلب مني جواباً واضحاً، وبسيطاً، ومضبوطاً، فسأعطي هذا الجواب، وهو أني لا أستطيع أن أخضع إيماني للبابا أو للمجامع، لأنه و اضح وضوح النهار أنها تتعرض للخطأ والتناقض بعضها مع بعض، وما لم أقنع بشهادة الكتاب المقدس، وبالمنطق الواضح، ما لم أقتنع بما ذكرت من أجزاء كتابية، وما لم يربط ضميري بكلمة الله، فإني لا أقدر أن أتراجع، ولا يمكن أن أتراجع، إذ أنه ضار بأي مسيحي أن يتكلم ضد ضميره”.. وحتم دفاعه بالعبارة التي دوت في كل الأجيال: “هنا أقف ولا أفعل غير ذلك، وليعني الله“…
ليس من حق المسيحي أن يسأل أين توجد الأغلبية، أو من يتصور أن يعيش أو يفوز في المعركة إذ أن مكانه دائماً إلى جانب “الملك” في الحياة أو الموت على حد سواء، لأنه إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت، لأنه إن عشنا وإن متنا فللرب نحن،… وإذا كان الاسبرطيون القدامى في معركة ترمبولي قد كتب على نصبهم: “أيها المسافرون اذهبوا وقولوا لاسبرطة إننا متنا هنا طوعاً لقوانينها المقدسة”… وإذا كانت آخر كلمات الشاب الفرنسي بايارد، وهو يصعد إلى المقصلة قائلاً لجلاديه: “أيها السادة لست أنا ممن يرثى له، فأنا أموت إتماماً لواجبي، إنما أنتم أولى بالرثاء، يا من رفعتم سلاحكم ضد مليككم وبلادكم وعهودكم“…
لقد تصرف أتاي الجتي بالروح التي يلزم أن يتصرف بها المسيحي إزاء سيده وملكه وفاديه ومخلصه،.. وإذا كان داود قد أحس في هذا الولاء روح الحب العميق، الذي على استعداد أن يبذل الحياة نفسها دون تحفظ، فإن ابن داود، أو بالحري ابن الله يستحق أضعافاً مضاعفة كل ولاء ووفاء، مهما تعرض هذا الولاء أو الوفاء للامتحان القاسي أو المحنة الجارفة!!…
هل تبحث عن  القديسة ريتا من كاشيا

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي