إن معنى الكلمة «أبيجايل» بهجة أبيها، ويبدو أنه من اللحظة التي ولدت فيها كانت أشبه الكل بالقمر الجميل الذي رآه الأعرابي ذات ليلة وهو يسير في قلب الصحراء وقد استوى بدرا، وقد ألقى نوره الفضي في كل مكان، فأخذ الأعرابي بسحر جماله، وهتف، وهو يتطلع إليه قائلاً: ماذا أقول لك؟ هل أقول لك رفعك الله؟ وها أنت مرتفع!! جملك الله؟ وها أنت جميل وما بعدك من جمال! إذا فكل ما أقول أبقاك الله على ما أنت عليه من رفعة وجمال! وربما قال أبو الصغيرة أبيجايل وهو يتطلع إليها بهذا الإحساس المفرط من البهجة والمسرة، وقد أشرقت العناية على نفسه، وعلى بيته بهذه الجميلة الرائعة البهية، إن جمال هذه المرأة كان على الأغلب من ذلك النوع النادر من الجمال الذي يقع أشد الوقع في نفوس جميع الذين يرونها من أول لحظة، ولهذا خلبت لب نابال عندما رآها، وعزم على أن يقتنيها، مهما بذل من مال أو تكلف من ثمن، ولعل هذا الجمال بعينه هو النسمة النقية الهادئة التي هبت على وجه داود، وهو بركان ثائر في طريقه إلى الانتقام المروع من زوجها الأحمق نابال، هذه النسمة الندية التي أوقفته بغته ليعود إلى وعيه ويستيقظ ويستمع إلى صوتها الساحر وندائها الرقيق، ليفيق ويتراجع عما هو مقدم عليه، مما كان من المتوقع أن يندم عليه طوال عمره لو أنه لم يتوقف عنه في اللحظة الأخيرة.
على أنه من الواضح أن المرأة كانت متفوقة في شيء آخر، في ذكائها اللامع وذهنها المتوقد، وان الكتاب في عرض شخصيتها، وضع فهمها قبل جمالها أمام الأنظار، وذلك لأن هذا الفهم كان في الواقع بمثابة الهالة الرائعة العظيمة لجمالها النادر، فإذا كنت مثلاً توخذ بجمالها قبل أن تتكلم، فإنك ستذهل بما تنطق من در الحديث وجوهر الكلام، ويكفي أن نرى نموذجًا لهذا، في ذلك الحديث البليغ الساحر الذي تكلمت به إلى داود، وضربت على أدق وأرق الأوتار في قلبه، فلم تعترف بالذنب فحسب، بل ذكرته برسالته العظيمة التي وضعها الله على كتفيه، وأنه مهما يصبه من نفي وتشريد وآلام، فانه عزيز على قلب الله، وأنه محفوظ في حزمة الحياة مع الرب، وأما أعداؤه فسيرمون من كفة المقلاع، وكأنما كانت تذكره بقصته مع جليات، وكيف حفظه برعايته، وأسقط الجبار العملاق بضربة واحدة قاضية برمية حجر!! كما أنها بذلك رفعت قلبه ونفسه عن طلب الانتقام، وهي تؤكد له أن النصر قريب، إلى ذلك الحد الذي ترجو فيه معه ألا ينساها عند ما يبلغ مجده وملكه حسب وعد الله الأكيد الصادق، وهل ينسى الله من يخدمه بالأمانة، ويحارب حروبه ولم يوجد فيه شر قط كل الأيام!!.
هذا الحديث أو بالحرى الدفاع لا يمكن أن يصدر إلا عن محام من أبرع وأقدر المحامين ممن يدركون نقط القوة والضعف في القضية التي يمسكون بها، ويعلمون كيف يبدأون، ويسيرون، وينتهون في خط الدفاع الذي رسموه من أول الأمر، ومثل هذه المرأة تصلح في أيامنا هذه أن تقف في أعظم المحافل الدولية وأعلى محاكم الدنيا ليجلجل صوتها بسحر وبلاغة تذهب مذهب المثل والفصاحة والحجة في كل مكان!!
على أن حكمة المرأة وبلاغتها لا تقف عند الحدود النظرية أو فلسفة الكلام، لقد كانت كما هو ظاهر من لغة الكتاب سريعة التصرف أذ أدركت الأثر الوشيك الحدوث لتصرف زوجها الأحمق، ولو أنها لم تسرع وتبادر إلى إنقاذ الموقف، وتوانت ولو إلى ساعات قلائل، لقضى الأمر، وجاء عملها بعد فوات الأوان، أنها من ذلك النوع الذكي الذي ينتهز الفرصة ويحسن التوقيت، ويتصرف بعمق وتأمل ودون جلبة، دون أن تخبر زوجها، الذي لم يكن في وعيه، إذ كان مخمورًا مع صحبه في حفل ماجن كبير، وكان من العسير أن تخبره بشيء حتى يفيق من سكره ويثوب إلى رشده!
ألا ما أجمل أن تتصرف المرأة في بيتها في وقت الكارثة أو الأزمة الطارئة في حنكة وصمت وهدوء، بتوازن مطلوب، وبديهة مجهزة، وعلى وجه الخصوص إذا جاء الأمر نتيجة حماقة زوج، أو شطط أو خطأ من واحد من أهل بيتها لا يحتمل معه تواكل أو جمود أو سكوت!.
ولا يغرب عن البال أن هذه المرأة إلى جانب هذا كله كانت امرأة وديعة، لم يخرجها الجمال أو الفهم أو الثروة إلى نوع من الكبرياء أو الشموخ أو التعظم انظر إليها وهي تقترب من داود، إذ تنزل عن الحمار وتسقط على وجهها، وتسجد، وترى في نفسها أمة، وجارية مذنبة، تحتاج إلى صفح وغفران من سيد تجثو عند قدميه، وليس هذا لمجرد أن تدفع عن نفسها وبيتها شرا يوشك أن يحدث، بل لأنها كما وصفت فيما بعد نفسها لداود: «هوذا أمتك جارية لغسل أرجل عبيد سيدي».. فإذا أضفنا إلى ذلك كرمها الذي ظهر فيما قدمته لداود، ولا يظهر هذا الكرم في تعداد الخبز والخمر والخراف والفريك والزبيب والتين، الذي قدمته بكثرة ووفرة، بل في ذلك الاستحياء الذي قدمته به، إذ هو لا يصلح قط لداود، فإنه أعلى وأسمى من هذا كله بل هو: «للغلمان السائرين وراء سيدي».
وأجمل من كل هذه الصفات إن المرأة كانت تقية، فبينما يقامر زوجها على الفرس الخاسر، إذ يقف إلى جانب شاول المرفوض والمطرود من الله، تقف هي إلى جانب داود المختار من الله، أو في لغة أخرى إنها كامرأة مؤمنة تقف إلى جانب الحق الإلهي، في الجانب الأضعف ظاهريًا، والذي يعاني الكثير من الاضطهاد والآلام والضيقات والمتاعب والتشريد.