الفصل الثالث: يـونـان فـى بـطـن الـحـوت تأملات في سفر يونان النبي البابا شنودة الثالث

الفصل الثالث: يـونـان فـى بـطـن الـحـوت

القى يونان فى البحر، ولكنه لم يُلق للموت… كانت الإرادة الإلهية ما تزال ممسكة به، والله ما يزال عند خطته أن يرسل يونان إلى مدينة نينوى لإنقاذها ‏…

ــ وهل ما يزال هذا الإنسان يا رب يصلح لهذه الخدمة الكبيرة بعد كل ما صدر منه؟

ــ نعم، إن يونان هذا ابنى وحبيبى، ونبيى أيضاً، وسأرسله إلى نينوى. إن كان قد أخطأ فأنى سأصلحه، وأجعله صالحاً للخدمة، وأنقذ نفسه، وأنقذ المدينة به… هذا الحجر غير المصقول سأتعهده بالنحت، حتى أجعله صالحاً للبناء…

حقا أن الله عجيب فى طول أناته. لا يغضب ولا يتخلى بسرعة عن خدامه الذين يخطئون.

لقد قبل بطرس بعد إنكاره وثبته في رسوليته. ولكننا نحن البشر نتميز بسرعة فى الغضب، وسرعة فى العقوبة، وسرعة فى القطع أما الله فليس كذلك.

لقد استبقى يونان فى خدمته، وحفظه سليما ليتمم عمله. وعندما ألقى يونان فى البحر، استقبله إله البحر، ليحفظه من كل سوء.

عندما ألقى يونان في البحر، تلقفته الأيدي الإلهية، وحملته في رفق لكى لا يهلك ولكى لا يغرق، أخذه الله ووضعه في جوف حوت، ليحفظه آمنا هناك…

كان الله قد ((أعد حوتًا عظيمًا ليبتلع يونان)) ((1: 17)). لم يعده للإهلاك، وإنما للحفظ… لم يكن الحوت عقوبة وإنما كان صونا. كان يونان في بطن الحوت أكثر أمنا وراحة مما لو ظل في البحر يكافح الأمواج، ويكافح البحر، ويكافح التعب والبرد والريح…

كان هذا الحوت مرسلاً من الله، لينفذ الإرادة الإلهية التي كلف بها.

لم يكن له سلطان أن يأكله، أو يفرز عليه عصارات ويحلله ويمتصه. كلا، بل ابتلعه ليدخله إلى أحضانه الداخلية، ويحفظه حتى يصل إلى قرب هدفه. كان وسيلة مواصلات مجانية يصل بها يونان إلى مكان قريب من محطة النزول.

كأن يونان كان في غواصة حصينة تمخر به البحر وهو في جوفها تحت الماء… كان هذا الحوت مرسلاً لإنقاذ يونان من البحر وأهواله، انه كالتجارب يبدو مخيفاً من الخارج، بينما تكمن فيه كل المنفعة… كان يونان فى بطن الحوت ثلاثة أيام سليما لا يقوى عليه الحوت، كما كان المسيح في القبر ثلاثة أيام سليماً لا يقوى عليه الموت.

هل تبحث عن  عيد الصليب عيد الصليب البابا شنودة الثالث

هكذا أنت أيها الأخ المبارك، أن أعد لك الله حوتا عظيما ليبتلعك، فلا تخف ولا تتضايق ولا تحزن، بل بارك الرب داخله كما فعل يونان.

ثق أن الحوت قد يبتلعك، ولكنه لا يستطيع أن يؤذيك. أنه لا يستطيع أن يفعل بك شيئا بدون أذن الرب وسماحه… ولابد سيأتى الوقت الذى يأمره فيه الرب أن يقذفك إلى البر كما كنت. أليس الله هو خالق الحوت، وبيده حياته وتوجيهه؟! أن كنت يا أخى فى ضيقة، فاذكر حوت يونان. فتطمئن… إذ تعرف أن الرب هو الذى هيأ هذا الحوت لك ليمنحك فضيلة معينة أو نعمة خاصة…

حاذر من أن تشكو كلما ابتلعك حوت، فالحيتان في بحر هذا العالم كثيرة…

لا تقل: لماذا هذه المعاملة منك يا رب؟ لماذا تعد هذا الحوت العظيم فيبتلعنى؟ وأين كنت يا رب عندما ابتلعنى؟ ولماذا لم تنقذني منه؟ اعرف أن إجابة الله هي واحدة: لا تخف، يكفيك أنك معى. حتى إن كنت فى بطن الحوت، فأنا معك. لا أهملك ولا أتركك. لا تخف يا أخى اذن. تذكر قول البار الأنبا بولا ((من يهرب من الضيقة فقد هرب من الله…)).

كان ذلك الحوت ضخما جدا، كان حوتا عظيما… توجد حيتان كبيرة، كل واحد منها كأنه حجرة واسعة، يستطيع أن يبلع قاربا بمن فيه… وعندما ابتلع الحوت يونان، نظر وإذا به في صالة فسيحة، أو فى بركة ماء. فماذا يعمل؟ رجع إلى عقله، وركع وصلى فى جوف الحوت… ونظر إليه الرب وأبتهج:

آه يا يونان، أنني أريد منك هذه الصلاة من بداية القصة. كل ما حدث كان القصد منه أن أجعلك تركع، ولو في جوف حوت، لنتفاهم…

منذ زمن وأنا أريد أن أكلمك وأتفاهم معك، ولكنك غضبت وهربت ورفضت أن تتفاهم، أما الآن فإنها فرصة مناسبة لنصطلح…

هل تبحث عن  أن هذه الأم الإلهية قد أنتقلت من الأرض الى السماء

وركع يونان وصلى للرب، ورجع مرة أخرى إلى طقسه النبوى. أخذ صورته الأولى كإنسان مطيع محب لله، مؤمن جداً بوعوده. رجع كما كان يثق بالله ويشكره…

لقد تأثرت جدًا من صلاة يونان التى صلاها وهو فى جوف الحوت، والتى تتسم بروح النبوة وبالأيمان العجيب (( والإيقان بأمور لا ترى))…

أنها من أعظم الصلوات التى قرأتها في حياتى… ليته كان قد قدمها، أو قدم صلاة من نوعها قبل أن يفكر في الهروب من الرب… حقاً أن الضيقات هي مدرسة للصلاة…

لقد تأثرت كثيرا بقوله ((دعوت من ضيقى الرب فاستجابى)). وقلت في نفسى: ما هذا يا يونان؟ كيف استجابك وأنت ما تزال فى جوف الحوت؟! أما كان الأجدر أن تقول ((دعوتك يا رب في ضيقى فأستجبنى)). فتطلب هذه الاستجابة لا أن تعلنها؟!

ولكن يونان يرى بعين الأيمان ما سوف يعطيه له الرب. يراه كأنه قائم أمامه، وليس كأنه سيأخذه فيما بعد، فيفرح قائلًا ((دعوت.. فاستجابني)).

ويستمر يونان في صلاته العجيبة، فيقول للرب ((صرخت من جوف الهاوية، فسمعت صوتى… جازت من فوقى جميع تياراتك ولججك. ولكننى أعود أنظر إلى هيكل قدسك))… بهذا الأيمان رأى يونان نفسه خارج الحوت، ينظر إلى هيكل الرب….

وبهذا الإيمان استطاع أن يحول صلاته من طلب إلى شكر، وهو ما يزال بعد في جوف الحوت العظيم. فختم صلاته بقوله ((أما أنا فبصوت الحمد أذبح لك، وأوفى بما نذرته. للرب الخلاص)) ((2: 9)).

ــ كيف تأكدت أيها النبى القديس من أن الرب قد سمع صوتك، وقد استجابك. وقد سمح أن تخرج من بطن الحوت، وتعود مرة أخرى تنظر إلى هيكله؟؟ أين منك هذا الهيكل وهو بعيد فى أورشليم، بينما أنت فى جوف الحوت، فى مكان ما من البحر لا تستطيع تحديده؟! ولكن النبى يجيب:

هل تبحث عن  مزمور 11 - مشورة زائفة

ــ أنا واثق تماما أننى سأخرج من بطن الحوت، وأكمل رسالتى، لأن كلمة الله لا تسقط ولا ترجع فارغة.

ما دام أمر أن أذهب إلى نينوى فسأذهب إلى هناك، وأنفذ مشيئته المقدسة، وأقوم بعملى الكرازى. ثم أرجع إلى هيكل الله وأسجد فيه. وأذبح للرب، وأقدم نذورى… هذا كله، أراه أمام عينى واضحاً جداً لا يقبل الشك. لا يؤثر عليه مطلقاً وضعى الحالى المؤقت فى الحوت وفى البحر…

عجيب جدا هذا الرجل فى ايمانه. انه حقًا رجل الأيمان العميق الذى اختاره الرب… لا ننكر أن ضباباً قد اكتنفه فأخطأ إلى الله، ولكن عنصره ما يزال طيباً.

انه يرى المستقبل الملئ بالرجاء قائما كأنه الحاضر. ويشكر الرب على خلاص لم ينله بعد من جهة الزمن، ولكنه قد ناله فعلا من جهة الكشف الخاص بموهبة النبوة، الخاص بالرجل المفتوح العينين، الذى يرى رؤى الرب كأنها فى كتاب مفتوح، ويتمتع بمواعيده قبل أن تأتى…

وإذ وصل إيمان يونان إلى هذا الحد العجيب، أمر الرب الحوت فقذفه إلى البر…

كان سير هذا الحوت بأحكام عظيم، وفق خطة إلهية مدبرة تدعو إلى الاطمئنان. ظهر فى الوقت المناسب، وفى المكان المناسب لكى يحمل يونان فى داخله كما لو كان هذا النبى يتنقل من سفينة مكشوفة يمكن للأمواج أن تغطيها وتغرقها، إلى سفينة مغلقة محصنة لا تقوى عليها المياه ولا الأمواج. وفى الوقت المناسب قذف يونان إلى البر فى المكان الذى حدده الرب لنزوله. ثم جاز مقابله بعد أن أدى واجبه نحوه على أكمل وجه…

هنيئا لك يا يونان هذه الغواصة البديعة، التى عشت فى أحضانها فترة. أعادتك إلى طقسك وإلى رسالتك…

نقلب هذه الصفحة من قصة يونان، كأنها لم تحدث، وكأن هذين الإصحاحين الأولين من السفر قد نسيهما الرب، فعاد يقول ليونان مرة أخرى ((قم أذهب إلى نينوى المدينة العظيمة، وناد عليها المناداة التي أنا مكلمك بها))…

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي