الأصحاح الحادي والعشرون – طريق النصرة سفر العدد القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الحادي والعشرون – طريق النصرة

إن كان آدوم رفض أن يعبر الشعب في أرضه فاضطر موسى أن يجتاز بشعبه حول أرض آدوم دون أن يدخلها، كأن الرب قدم لهم فهمًا للغلبة على الشر بالهروب منه، ففي هذا الأصحاح قدم عينات للنصرة ليس فقط على الملوك والشعوب بل على الحيات الحارقة والظمأ الداخلي، لقد حدثنا هنا عن:

١ – محاربة ملك عراد ١ – ٣.

٢ – الحية النحاسية ٤ – ٩.

٣ – رحيلهم ١٠ – ١٥.

٤ – نشيد البئر ١٦ – ٢٠.

٥ – النصرة على سيحون ٢١ – ٣٠.

٦ – النصرة على عوج ٣١ – ٣٥.

الأعداد 1-3

١ – محاربة ملك عراد

عراد” كلمة عبرية تعني “حمار وحشي” وهي بلدة في القسم الجنوبي من اليهودية (يش١٢: ١٤؛ قض١: ٦).

إن كان ملك أدوم رفض أن يعبر الشعب في أرضه فلم يقاوم الشعب بل اتخذ طريقه حول أدوم مفضلاً بالحري ألاَّ يقاوم الشر بالشر بل يهرب من الشر. هذا هو الطريق الروحي للمؤمن أنه يقلب مشاعره الطبيعية المحبة للإنتقام مفضلاً بالحري على قلبه ويملك عليه عن أن ينتصر على الآخرين ويملك عليهم. أما الكنعاني ملك عراد الذي تصرف “كحمارٍ وحشي” فقام للهجوم والمحاربة دون أن يطلب منهم ألاَّ يعبروا في أرضه. لقد التقى بهم وهم قادمون في طريق أتاريم وحاربهم وسبى منهم سبيًا. كلمة أتاريم تعني “الأثر”، وكأن ملك عراد قد اقتفى أثارهم لكي يلحق بهم ويهلكهم حتى لا يتمتعوا بأرض الموعد.

لماذا سمح الله لهم بالهزيمة؟ لقد أراد أن يدرك الشعب ضعفه الذاتي وعجزه بشريًا عن الخلاص والنصرة حتى إذا ما طلب يد الله ونذر ألاَّ يأخذ شيئًا لنفسه بل يحرم المدن ويسمي حرمة، أي منطقة محرمة، تصبح هذه شهادة دائمة وتذكار أن كل خلاص ونصرة يتحققان في المستقبل إنما هو بقوة الله. هكذا أحيانًا يسمح الله حتى للقديسين أن يُغلبوا ربنا في أقل الخطايا وأتفهها لكي تصير بالنسبة لهم تذكارًا لضعفهم، وإذ يغلبون في الحرب الروحية وينمون في المواهب وتثمر حياتهم وخدمتهم لا يسقطون في الكبرياء.

يقول الأب ثيئوفان الناسك أنه إذ يسقط أحيانًا الإنسان في خطية لم يسقط فيها منذ زمنٍ طويل بل انتصر عليها يتعب للغاية، هذه علامة الكبرياء في القلب، إذ يحسب الإنسان في نفسه أن غالب على الدوام. لهذا من التداريب الجميلة التي تقدم للمؤمنين الذين يعيشون زمانًا طويلاً في حالة نصرة ثم يسقطون في خطية تافهة حسب نظرتهم البشرية يمزجون توبتهم ودموعهم بحياة الشكر لله الذي يكشف لهم ضعفاتهم. فعوض أن يتحطم الإنسان لأنه سقط فيما لا يتوقع يشكر الله الذي فضحه أمام عيني نفسه سائلاً إياه أن يرفع عنه التجربة.

الأعداد 4-9

٢ – الحية النحاسية

بالرغم من نصرتهم على ملك عراد الذي ثار عليهم كحمارٍ وحشي، وقد شهدوا لعمل الله معهم بدعوة الموضع “حُرْمَة”، لكنهم سرعان ما تذمروا على الرب لأنهم لم يعبروا طريقهم وسط أدوم، بل ساروا طريقًا أطول. فضاقت أنفسهم في الطريق قائلين: “لِمَاذَا أَصْعَدْتُمَانَا مِنْ مِصْرَ لِنَمُوتَ فِي البَرِّيَّةِ! لأَنَّهُ لا خُبْزَ وَلا مَاءَ وَقَدْ كَرِهَتْ أَنْفُسُنَا الطَّعَامَ السَّخِيفَ؟!” (ع٥). حين تذمروا بسبب العطش احتملهم الله ولم يعاتبهم بكلمة واحدة وإنما أمر موسى وهرون أن يفجرا ماءً من الصخرة، أما الآن إذ هبهم نصرة وغلبة بعد أن رواهم من الصخرة لهذا بتكرار التذمر قام بتأديبهم. أرسل عليهم الحيات المحرقة في البرية تلدغهم وتميتهم، وفي نفس الوقت إذ صرخ موسى إليه لم ينزع الحيات بل أمره أن يقيم حية نحاسية على راية حتى كل من لُدغ من الحيات ونظر إليها يحيا (ع٨). إنه لم ينزع التجربة لكنه فتح باب الخلاص منها. بهذا حوّل الله شرهم إلى بركة، مخرجًا من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة، مقدمًا من هذا العمل رمزًا لصليبه، إذ قال: “وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (يو٣: ١٤، ١٥). يقول القديس أغسطينوس: [ذبح المسيح حتى يوجد على الصليب ذاك الذي يتطلع إليه كل من لدغتهم الحية[147]]. كما يقول: [ما هي الحية المرفوعة؟ إنها موت المسيح على الصليب، لأنه كما جاء الموت بواسطة الحية، صار رمزه هو صورة الحية. كانت لدغة الحية مميتة، أما موت الرب فواهب الحياة… إذ يتطلع الإنسان إلى الحية تصير الحية بلا سلطان، ومن ينظر إلى الموت يصير الموت بلا سلطان! [148]].

يقول القديس أغسطينوس: [عندما ارتفع جسد الكلمة كما رفعت الحية في البرية، اجتذب إليه البشرية لأجل خلاصهم الأبدي[149]]. وجاء في رسالة برناباس: [صنع موسى رسمًا ليسوع وآلامه الضرورية، وعندما كان الإسرائيليون يسقطون كانو يتطلعون إليه وكان يحييهم. إن الرب لكي يعلم إسرائيل بأن عصيانه أسلمه إلى حزن الموت سلط عليهم أنواعًا من الحيات لتلسعهم وكانوا يموتون. ومع أن موسى قال: لن يكون لكم تمثالاً منحوتًا أو مسكوبًا للرب (تث٢٧: ١٥)، فإنه يفعل عكس ما كتب. إنه اصطنع حية نحاسية ورفعها بمجدٍ ودعا الشعب. ولما إجتمع الشعب طلبوا من موسى أن يرفع الصلاة من أجل شفائهم فقال لهم موسى عندما يُلسع أحدكم فليتقدم من الحية المرفوعة على الخشبة وليترك نفسه للرجاء معتقدًا أن الحية التي لا حياة فيها يمكنها أن تعيد إليه الحياة ويخلص لتوه، وهكذا فعلوا. إن مجد يسوع يقوم على هذا. إن كل الأشياء هي فيه وله[150]].

يعلق القديس غريغوريوس أسقف نيصص على هذا الأمر بقوله: [أنجب الشهوات المتمردة حياتٍ تنفث سمًا يميت من تلدغهم، لكن مستلم الشريعة جعل الحيات الحقيقية بلا قوة خلال صورة الحية… الصليب هو الألم، من يتطلع إليه كما يقول الكتاب لا يؤذيه ألم الشهوات. التطلع إلى الصليب إنما يعني أن الإنسان يجعل حياته كلها ميتة ومصلوبة عن العالم (غل٦: ١٤) لا يحركها الشر. حقًا بهذا تكون كما يقول النبي: سمرو جسدهم بخوف الله. أما المسمار فهو ضبط النفس الذي يضبط الجسد… هذا الشكل يشبه الحية، لكنه ليس بحية في ذاته، وكما يقول العظيم بولس: “في شبه جسد الخطية” (رو٨: ٣). الخطية هي الحية الحقيقية، والذي يهرب إلى الخطية يحمل طبيعة الحية… إذ يتحرر الإنسان من الخطية خلال ذاك الذي أخذ شكل الخطية وصار مثلنا فحمل شكل الحية. لم يقتل الوحوش (الحيات) لكنه جعل لدغاتها غير مميتة… في الواقع إن لدغات الشهوة تعمل حتى في المؤمنين لكن من يتطلع إلى المعلق على الصليب يحتقر الألم، فيخفف السم بخوف الوصية[151]].

يرى القديس أغسطينوس في الحية النحاسية قبولنا لشركة آلام المسيح والموت معه، إذ يقول: [كل من نظر إلى الحية المرفوعة يُشفى من السم ويتحرر من الموت، والآن من يصر إلى شبه موت المسيح بالإيمان به وبمعموديته يتحرر من الخطية متبررًا ومن الموت بالقيامة. هذا ما يعنيه بقوله “من آمن بي لا يهلك بل تكون له الحياة الأبدية” (يو٣: ١٥). إذن لم تكن هناك ضرورة للطفل أن يتشبه بموت المسيح في المعمودية لو لم يكن قد تسرب سم لدغة الحية إليه؟! [152]]. كأنه ما دامت الحيات قد انطلقت إلى الجميع تلدغهم وتبث سمومها فيهم لهذا يحتاج الجميع – ناضجين وأطفالاً – إلى مياه المعمودية المقدسة لكي يشفوا من موت سم الحية خلال الصليب.

الأعداد 10-15

٣ – رحيلهم

إن كان الصليب هو طريق الغلبة والنصرة فلا يمنع حرب الشيطان – الحية القديمة – إنما يبدد سمه القاتل، فإن علامة النصرة الحقيقية هي الرحيل أو العبور المستمر من موقع إلى موقع للتمتع بأمجادٍ جديدة خلال الضيقات المستمرة بقصد العبور إلى كنعان الجديدة. أما أسماء المواقع التي رحلوا إليها فهي أوبوت ثم عيي عباريم فوادي زاراد ثم عبر أرنون. يرى العلامة أوريجينوس أن أوبوت في العبرية إنما تعني تتابع النمو وكأن المؤمن إذ يدخل إلى خبرة الصليب يلزمه أن يحيا في حالة نمو دائم بغير إنقطاع. أما “عيي عباريم” عند العلامة أوريجينوس فتعني “عمق العبور” وكأنه خلال النمو المستمر يلزم ألاَّ ننسى هدفنا وهو العبور العميق الداخلي من الحياة الأرضية إلى السماوية.

الأعداد 16-20

٤ – نشيد البئر

إذ عبر الشعب حاملاً آثار اللدغات في جسده دون أن يحمل موتها، عبر وفي جسده علامة النصرة والغلبة على لدغات الحيات، فأمر الرب موسى أن يجمع الشعب ليقدم له ماءً من بئر ليشرب. هنا يندهش العلامة أوريجينوس[153]: ما الحاجة أن يصرّ الله أن يجمع موسى بنفسه الشعب ليعطيه ماءً من بئر ليشرب؟ أليس الشعب يأتي من نفسه إذ يشعر بالعطش ويشرب من الماء؟! لهذا يؤكد العلامة أوريجينوس أن القصة لو فهمت بالمعنى الحرفي لبدت ليست ذات قيمة كبيرة، لكنها تحوي أسرارًا عميقة.

“يقول روح الله على لسان سليمان في سفر الأمثال:” اشرب مياهًا من أوعيتك ومياهًا جارية من آبارك، لا تفض من ينبوعك إلى الخارج سواقي مياه في الشوارع “(أم٥: ١٥، ١٦) [154]. هذا يعني أن مياهك هي لك وحدك، ليس لآخر نصيب فيها. لكل واحدٍ منا رمزيًا بئر في داخله… ليس بئر واحدة بل هي أكثر من بئر، ليس له وعاء واحد بل أوعية كثيرة، إذ لم يقل الكتاب” إشرب مياهًا من وعائك “بل” من أوعيتك “، لم يقل الكتاب” مياهًا جارية من بئرك “، بل” من آبارك “، وقد سبق فرأينا أن للآباء آبارًا، فكان إبراهيم آبار وأيضًا لإسحق وأظن ليعقوب[155]].

في اختصار لكل إنسانٍ آبار داخلية عميقة في النفس تشير إلى معرفة الله في القلب، في الإنسان الداخلي. لهذا عندما جلس السيد المسيح على البئر في وقت الساعة السادسة التي هي لحظات الصلب تحدث مع المرأة السامرية أي مع جماعة الأمم عن البئر الداخلية، قائلاً لها: “لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لكِ أعطيني لأشرب لطلبت أنتِ منه فأعطاك ماءً حيًا” (يو٤: ١٠). كانت المرأة بفكرها المادي لا تقدر أن تتعدى حدود البئر المنظورة معتزة بالبئر التي ورثوها عن أبيهم يعقوب، أما السيد المسيح فسحب قلبها إلى البئر الداخلية حتى تركت المرأة جرتها عند البئر ومضت إلى المدينة تحمل بئرًا حيًا في أعماق نفسها في الداخل. هذا هو عمل السيد المسيح أن يهب في المؤمنين ينابيع مياه حية، إذ يقول: “من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ” (يو٧: ٣٨).

هل تبحث عن  ألِيشَاماع | أليشامع | ألِيشَمَع ابن عميهود

وكما يقول العلامة أوريجينوس أن الله لم يهبنا بئرًا بل آبارًا وأنهار مياه حية في داخلنا، هذه تشير إلى معرفة الثالوث القدوس وعمله في داخلنا: [في رأيي يمكننا أن نفهم معرفة الآب غير المولود كبئر، وأيضًا معرفة الابن الوحيد كبئرٍ آخر، إذ الآب مميز عن الابن، والابن ذاتيًا ليس الآب إذ يقول الإنجيل: “(آخر) يشهد لي” (يو٨: ١٨). يبدو لي أننا نستطيع أن نرى بئرًا ثالثًا في معرفة الروح القدس، إذ هو مميز عن الآب والابن كما يؤكد الإنجيل: “يعطيكم الآب معزيًا آخر… روح الحق” (يو١٤: ١٦، ١٧). إذًا التمييز في الثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس هو الذي يفسر الجمع في الآبار. لكن من هذه الآبار يوجد ينبوع واحد[156] حيث الوحدانية في الجوهر وطبيعة الثالوث[157]].

لقد صار لنا خلال الإيمان بالسيد المسيح المخلص معرفة داخلية خلال خبرة عملية تعيشها النفس مع الثالوث القدوس، تتعرف على الآب بكونه أباها السماوي مدبر حياتها وعلى الابن الوحيد بكونه العريس الأبدي والمخلص الله يحملها فيه ليدخل بها إلى حضن الآب، وعلى الروح القدس بكونه واهب البنوة والشركة يدخل بنا إلى الإتحاد مع السيد المسيح لننعم بما له ونتمتع بإمكانياته كأنها إمكانياتها. هذه هي الآبار التي يحفرها الروح القدس عميقة فينا فتتفجر فينا ينابيع مياه حية. يقول العلامة أوريجينوس: [أعتقد أن كلام المخلص لتلاميذه “من آمن بي” (يو٧: ٣٨) عني به أن من شرب من ماء تعاليمه، لا يكون له بئر ولا ينبوع بل أنهار ماء حية تتولد فيه. فمن كلام الله، أي البئر الوحيد، تتولد آبار ينابيع وأنهارٍ لا تحصى. هكذا يمكن لنفس الإنسان التي خُلقت على صورة الله أن تحصل في داخلها على آبار وينابيع وأنهار[158]].

هذه الأنهار المقدسة التي تنبع في قلب المؤمن، لما يقول المرتل “لتصفق بالأيادي” (مز٨٩: ٨). إنها أنهار المعرفة الإلهية العملية التي تفيض بالروح القدس في القلب فتسبح الله وشهد له مصفقة بالأيادي أي تحول المعرفة إلى “عمل”. يقول القديس أغسطينوس: [لتصفق هذه الأنهار بالأيادي، لتفرح بالأعمال، وتطوّب الله[159]]. كما يعلق القديس چيروم على هذه العبارة قائلاً: [لتصفق بالأيادي، فإن أعمال القديسين هي التسبيح لله، إذ لا يُسبح السيد المسيح بالكلمات بل بالأعمال. إنه لا يهتم بالصوت بل بالعمل[160]].

في داخلنا آبار معرفة الثالوث القدوس، لكنه للأسف كثيرًا ما يردمها عدو الخير باهتمامات الحياة الزمنية والشهوات الأرضية فتحتاج إلى الروح القدس نفسه لكي يحفرها من جديد ويزيل عنها التراب الدخيل إليها. يقول العلامة أوريجينوس: [في الحقيقة تحتاج آبار نفوسنا إلى من يحفرها وينظفها ويزيل عنها كل ما هو ترابي لكي تظهر الأفكار العقلية التي خبأها الله، فتقدم شبكات مياه نقية وطاهرة ما دام التراب يغطي الماء ويختفي المجرى الداخلي ولا يمكن للماء الداخلي أن يجري. لهذا كُتب “جميع الآبار التي حفرها عبيد أبيه في أيام إبراهيم طمها الفلسطينيون وملأوها ترابًا” (تك٢٦: ١٥)، لكن إسحق الذي أخذ البركة من أبيه حفر الآبار مرة أخرى ونبش آبار الماء (تك٢٦: ١٨) هذه التي طمها الفلسطينيون بسبب كراهيتهم وردموها بالتراب[161]].

العجيب أنه قد تمت زيجات مقدسة ومباركة حول الآبار، وكأن آبار المعرفة الإلهية غايتها دخول النفس إلى الإتحاد مع العريس السماوي السيد المسيح والتمتع بسماته. يقول العلامة أوريجينوس: [حول البئر وليس موضع آخر وجد عبد إبراهيم “رفقة” التي تعني “ترفق أو إحتمال” فصارت لإسحق إمرأة (تك٢٤: ١٦). وعندما جاء يعقوب إلى بلاد ما بين النهرين في طاعة لأبيه وجد راحيل (تك٢٩: ٢)، كما وجد موسى صفورة حول البئر (خر٢: ١٥). إذن حول الآبار فهمت الزيجات المقدسة. فإن أردت أن تتزوج الترفق والحكمة والفضائل الأخرى التي تتمثل في قول الحكمة: لقد بحثت عنه لكي أتزوجه، فتردد بمواظبة وحاصر هذه الآبار بغير إنقطاع فستجد لك زوجة هناك بجانب المياه الحية، بمعنى أنه بجانب مجاري الكلام الحيّ تسكن كل الفضائل بك تأكيد[162]].

فإن كان الحكيم ينصحنا “اشرب مياهًا من أوعيتك ومياهًا جارية من آبارك، لا تفض ينبوعك إلى الخارج سواقي مياه في الشوارع” (أم٥: ١٥، ١٦)، إنما يدعونا أن نتمتع بالزيجة الداخلية حيث تلتقي النفس مع عريسها خلال معرفة الثالوث القدوس الداخلية. هناك تتعرف على أعمال الله الخلاصية وتتقبل الشركة معه فتنعم بسمات السيد لا كفضائل خارجية إنما كثمر الروح القدس، داخل النفس. لهذا يقول السيد المسيح “أما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك وصل إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية” (مت٦: ٦). إنه ينصحنا أن يفتح قلبنا للعريس سريًا فلا يعرف شمالنا ما تفعله يميننا (مت٦: ٣)، لكن العالم يكتشف آثار هذه الشركة في تصرفاتنا وملامحنا أما أعماقها فتبقى سرّ حب عميق تدركه النفس وحدها.

إن عدنا إلى النص الذي بين أيدينا نجد الله يصر أن يقوم موسى بدعوة الجماعة للشرب من البئر، وكأن هذا العمل يحمل بطريقة رمزية دعوة الناموس (موسى) لرجال العهد القديم أن نتعرف على شخص المخلص. يقول العلامة أوريجينوس: [تدعوك شريعة الله أن تأتي إلى البئر… أي إلى الإيمان بالمسيح. لقد قال بنفسه “موسى كتب عني”. بأي هدف يجمعنا؟ لكي نشرب من الماء وننشد له بتسبحة، بمعنى أن القلب يؤمن به للبر وفمنا يعترف به للخلاص “(رؤ١٠: ١٠) [163]].

إذ شربت الجماعة من البئر، أي تعرفت على شخص السيد المسيح خلال موسى والأنبياء أنشدت “أنشودة البئر” قائلة:

“ابتدأوا أن تنشدوا للبئر،.

الرؤساء حفروها،.

ملوك الأمم في مملكتهم وفي رئاستهم نقروها في الصخرة “[164].

ويعلق العلامة أوريجينوس على هذا النشيد قائلاً: [الرؤساء (الشرفاء) هم الأنبياء الذين خبأوا البئر وغطوها بنبواتهم عن المسيح في أعماق الحرف، لهذا يقول أحد الأنبياء “وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة” (ار١٣: ١٧) ويقول نبي آخر للسيد الرب “تسترهم بستر وجهك من مكايد الناس، تخفيهم في مظلة من مخاصمة الألسن” (مز٣١: ٢٠). إذن الرؤساء هم الذين حفروا البئر، أما الملوك الذين نقبوها أي قطعوها في الحجر. إذن الشرفاء أقل من الملوك يحفرون الآبار أي يعمقون في الأرض لكن إلى حد معين أما الذين دُعوا ملوكًا فهم أكثر قوة وعلوًا، لم يحفروا فقط في الأرض بل نقبوا في صلابة الصخر ليصلوا إلى أعماق أكثر وفحص أدق… هؤلاء هم الرسل. يقول أحدهم “فأعلنه الله لنا نحن بروحه، لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله” (١كو٢: ١٠). إنهم بفضل الروح القدس يفحصون أعماق الله ويخترقون أسرار البئر، بهذا يكونون قد نقبوا البئر في الصخر، واخترقوا أسرار المعرفة الصلبة والصعبة. أما دعوة الرسل ملوكًا فيمكن إستنتاجه مما قيل عن المؤمنين “وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة” (١بط٢: ٩)… لهذا السبب دُعي السيد الرب “ملك الملوك” (رؤ١٩: ١٦) [165]].

إذن البئر الحقيقية التي هي السيد المسيح مخلص البشرية، أعلنها الشرفاء خلال الناموس والنبوات، وفي أكثر وضوح تحدث عنها التلاميذ والرسل خلال الأناجيل والكتابات الرسولية. يقول العلامة أوريجينوس: [الكتاب المقدس كله: الشريعة والأنبياء والكتابات الإنجيلية والرسولية تكون بئرًا واحدًا لا يمكن حفرها ولا فحصها إلاَّ إذا وُجد ملوك وشرفاء… كملوك حقيقيين وشرفاء حقيقيين يمكنهم أن ينظفوا أرض البئر، يرفعوا سطح الحرف وينزعوا سطحية الصخرة الداخلية حيث يوجد المسيح فيتدفق المعنى الروحي[166]].

يميز العلامة أوريجينوس بين البئر الحقيقية التي حفرها الشرفاء والملوك وتلك التي يحفرها الهراطقة التي تعطي ماءً ملحًا لا يصلح للشرب، إذ يقول: [أتريدون أن تروا من الكتاب المقدس إلى أي بئر يأتي (الهراطقة)؟ إنهم يأتون إلى وادي من الملح حيث توجد “آبار حمر كثيرة” (تك١٤: ١)… إنها في وادي، ووادي من الملح. فحيث الخطية والإثم لا يرتفع إلى العلو بل يحدث نزول دائم إلى الأماكن الدنيئة السفلية. كل فكر هرطوقي وكل خطيئة إنما يوجدان في وادي، وادي من الملح ومرّ. أية عذوبة أو حلاوة يمكن أن تقدمها الخطيئة؟ لا يوجد أسوأ من أن يسقط الإنسان في أفكار الهراطقة، أو يسقط في مرارة الخطيئة، فإنه يسقط في آبار حمر كثيرة. الإحمرار هو طقام النار، فإن شربنا ماءً من هذه الآبار، وقبلنا آراء الهراطقة، إن قبلنا مرارة الخطيئة، إنما نهييء في أنفسنا مادة للنار وحطبًا لجهنم. الذين لا يريدون أن يشربوا من ماء البئر التي حفرها الشرفاء والملوك إنما يريدون أن يشربوا من البئر الذي في وادي الخطيئة، التي تغذي النار، يقال لهم “اسلكوا بنور ناركم والشرار الذي أوقدتموه” (إش٥٠: ١١) [167]].

أخيرًا إذ شربت الجماعة من البئر الحقيقية، التي حفرها الشرفاء والملوك، قيل أنهم رحلوا “مِنَ البَرِّيَّةِ إِلى مَتَّانَةَ وَمِنْ مَتَّانَةَ إِلى نَحْلِيئِيل وَمِنْ نَحْلِيئِيل إِلى بَامُوتَ وَمِنْ بَامُوتَ إِلى الجِوَاءِ التِي فِي صَحْرَاءِ مُوآبَ عِنْدَ رَأْسِ الفِسْجَةِ التِي تُشْرِفُ عَلى وَجْهِ البَرِّيَّةِ” (ع١٨ – ٢٠).

هل تبحث عن  كلمات ترنيمة في قمات الروح قومي يا أجواق اللحم والدم *

يعلق العلامة أوريجينوس على ذلك بقوله: [تبدو هذه الأسماء أنها لمواضع معينة، لكننا إذا رجعنا إلى اللغة الأصلية لمعانيها لقدمت لنا مجموعة من الحقائق السرية أكثر منها أسماء أماكن[168]].

أولاً: الإنطلاق إلى متانة، إن كانت كلمة متانة كما يقول العلامة أوريجينوس تعني “عطاياهم”، فإن النفس التي ترتوي من البئر، أي تتعرف على شخص السيد المسيح الذي قادنا إليه موسى خلال الشريعة والنبوات وأعلنه لنا التلاميذ والرسل، يليق بنا أن نقدم عطايانا له وتقدماتنا التي هي في الحقيقة عطاياه هو وتقدماته، إذ يقول الرب “قرباني طعامي مع وقائدي رائحة سرور تحرصون أن تقدموه لي في وقته” (عد٢٨: ١). شربنا من البئر هو قبول عطية الله، إذ يعرفنا عن نفسه، ويقدم حياته لنا، فنقابل الحب بالحب لنقدم له حياتنا، وكما يقول الكتاب “ماذا يطلب منك الرب إلهك إلاَّ أن تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك” (تث١٠ – ١٢). إذن نقدم له هذه العطايا من قلبنا بعد أن نكون عرفناه، أي بعد أن نكون قد شربنا معرفة لطفه من أعماق بئره[169]].

ثانيًا: من متانة إلى نحليئيل، فإن كلمة “نحنيئيل” تعني “من الله” [170]. إذ يقدم الإنسان حبًا عمليًا لله وعطايا وتقدمات، يرد له الله عطايا إلهية. لقد قدم إبراهيم ابنه الوحيد، فرد إليه حيًا وقدم له الكبش الفدية! بقدر ما يتسع قلبنا بالحب العملي يملأ الله بروحه القدوس القلب من ثماره الخفية المشبعة للنفس.

ثالثًا: من نحليئيل إلى ياموت التي تعني مجيء الموت، حيث يشتهي الإنسان العبور بقوة منتصرًا على الموت، متطلعًا إليه كإنطلاقة نحو السمويات. [يقول الله أنا أميت وأحيي (تث٣٢: ٣٩). حقًا إنه يميت لكي نحيا مع المسيح، وهو يحيي لكي نحيا معه. إذًا يجب علينا أن نشتهي البلوغ إلى ياموت ونترجى أن يحل هذا الموت الطوباوي بأقصى سرعة حتى نستحق أن نحيا مع المسيح[171]].

رابعًا: من ياموت إلى الجواء التي تعني “صعود أو قمة الجبل”. هذه هي غاية رحلتنا أن نرتفع إلى الفردوس، لنتمتع بإقامة جميلة على قمة جبل الكمال ونتمتع بالبهجة الروحية، قائلين “أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات في المسيح يسوع” (أف٢: ٦).

هذه هي المرحلة: من بئر المعرفة الإلهية في المسيح يسوع المخلص، إلى تقديم عطية حبنا، وقبول عطاياه الإلهية، لنرتفع إلى جبال كماله.

الأعداد 21-30

٥ – النصرة على سيحون

أرسل موسى إلى سيحون ملك الأموريين قائلاً: “دَعْنِي أَمُرَّ فِي أَرْضِكَ. لا نَمِيلُ إِلى حَقْلٍ وَلا إِلى كَرْمٍ وَلا نَشْرَبُ مَاءَ بِئْرٍ. فِي طَرِيقِ المَلِكِ نَمْشِي حَتَّى نَتَجَاوَزَ تُخُومَكَ” (ع٢٢). لكن سيحون عوض أن يسمح لهم بالمرور جاء إلى باهص وحارب إسرائيل، فغلب إسرائيل سيحون وأقاموا في مدن الأموريين وحفى حشبون العاصمة.

يرى العلامة أوريجينوس أن “سيحون” تعني “متشامخ” و “شجرة عقيمة”، وأن الأموريين جاءت عن “المرارة”. وكأن سيحون يشير إلى الشيطان المتشامخ الذي بلا ثمر، رجاله هم “المرارة بعينها”.

يقول: [الملك سيحون يمثل الشيطان لأنه متكبر وعقيم. أظن أنه يجب ألاَّ ندهش أن أدعوه ملكًا، إذ قال عنه سيدنا ومخلصنا في الإنجيل “رئيس هذا العالم” (يو١٤: ٣٠)، يأتي وليس له فيّ شيء، كما قال “الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا” (يو١٢: ٣١). فإن كان قد دُعي في الإنجيل رئيس هذا العالم كله فلا ينظر أنه غير لائق أن نقارنه بسيحون ملك الأموريين… ليس لأنه خلق العالم وإنما لأن الخطاة كثيرون في العالم. إذ هو رئيس الخطاة دعي رئيس العالم، بمعنى رئيس الذين لم يتركوا بعد العالم ليتجهوا نحو الآب. بنفس المعنى قيل “العالم كله قد وضع في الشرير” (١يو٥: ١٩). ماذا يفيدنا أن نقول عن المسيح أنه رئيسنا إن كنا نؤكد بأعمالنا وتصرفاتنا أننا تحت سلطان الشيطان؟! ألا تعرف بوضوح إلى أي رئيس ينتمي الإنسان الفاجر والفاسق والظالم؟! هل يستطيع إنسان كهذا أن يقول بأنه تحت سلطان المسيح حتى وإن كان حسب الظاهر محصي تحت إسم المسيح؟! متى كان المسيح رئيسًا لنا لا نرتكب قط نجاسة ولا بغيًا ولا يكون لشهوة الظلم موضع فينا. بهذا المعنى يليق بنا أن نقول أن المسيح هو رئيس الفضائل والشيطان رئيس الشر وكل ظلم[172]].

أما كون سيحون “متشامخ” رمزًا للشيطان، فواضح من كلمات الكتاب المقدس نفسه، إذ يقول العلامة أوريجينوس: [إنه ذاك الذي قال “بقدرة يدي وبحكمتي لأني فهيم. ونقلت تخوم شعوب ونهبت ذخائرهم وحططت الملوك كبطل، فأصابت يدي ثروة الشعوب كعش” (إش١٠: ١٣، ١٤). بروح متشامخة يقول “أصعد إلى السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الإجتماع في أقاصي الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العلي” (إش١٤: ١٣، ١٤). هل لا زلت تسأل إن كان متشامخًا ومتكبرًا؟ نعم إنه متشامخ ومتكبر مثل ابنه الوحيد الذي كتب عنه “لا يخدعكم أحد على طريقة ما، لأنه لا يأتي إن لم يأت الإرتداد أولاً ويستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك، المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه إنه إله” (٢تس٢: ٣، ٤). كل من يكون متشامخًا أو متكبرًا إنما يكون إبنًا لهذا الروح المتكبر أو تلميذًا له وممتثلاً به. لهذا السبب يتحدث الرسول عن البعض قائلاً: “لئلا يتصلف فيسقط في دينونة إبليس” (١تي٣: ٦)، مظهرًا أن كل تصلف يُحاكم بدينونة تماثل دينونة إبليس “[173]].

بماذا أرسل الشعب إلى سيحون؟ لقد طلب أن يمر في أرضه ولا يتأخر معه، أي لا يبقى عنده، بل يسلك في طريق الملك حتى يتجاوز تخومه دون أن يميل إلى حقلٍ أو كرمٍ أو يشرب من بئرٍ له. هذا هو العهد الذي تعهدنا به عند المعمودية، حين جحدنا الشيطان وكل أعماله الشريرة وإغراءاته وعبوديته. كأننا نقول له: لن نميل إلى حقلٍ من حقولك ولا إلى كرمٍ لك ولا نشرب قطرة ماء من آبارك. يقول العلامة أوريجينوس: [لا يأخذ المؤمن قطرة من علم الشيطان، الفلك والسحر وغير ذلك من العلوم المقاومة للتقوى في الله، إنما له ينابيعه، يشرب من ينابيع إسرائيل، ينابيع الخلاص، لا من بئر سيحون. إنه لا يترك ينبوع الحياة ليكنز في الآبار المشققة (ار٢: ١٣). إنه يعلن أن يسير في الطريق الملوكي، طريق ذاك الذي قال: “أنا هو الطريق والحق والحياه” (يو١٤: ٦). إنه طريق ملوكي إذ قال عنه النبي “اللهم اعط أحكامك للملك” (مز٧٢: ١). يليق بنا أن نتبع طريق الملك دون أن نميل من أي ناحية، لا إلى حقل ولا إلى الأعمال والأفكار الشيطانية[174]].

سبق فرأينا أن المؤمن لا يميل عن الطريق الملوكي يمينًا أو يسارًا، فلا ينحرف بضربة يمينية (البرّ الذاتي) ولا بضربة شمالية (الخطيئة). كما رأينا أن السلوك في الطريق الملوكي إنما يعني السلوك متجهين نحو الله لا عن خوفٍ كالعبيد ولا من أجل المكافأة كالأجراء بل من أجل الله نفسه كأبناء، بهذا لا ننحرف يمينًا ولا يسارًا[175]. لهذا يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [ليتك تسير في الطريق الملوكي، لا تنحرف يمينًا ولا يسارًا بل يقودك الروح في الممر المستقيم[176].].

ويتحدث القديس غريغوريوس أسقف نيصص عن هذا الطريق الملوكي قائلاً: [يتطلب الناموس من الإنسان الذي يسلك فيه ألاَّ ينحرف شمالاً ولا يمينًا عن الطريق الذي هو ضيق وكرب كما يقول الرب (مت٧: ١٤). هذا التعليم يوضح أن الفضيلة تتميز بالإعتدال. فإن كل شر يعمل بطريقة طبيعية خلال نقص الفضيلة أو المبالغة فيها. ففي فضيلة الشجاعة، الجبن هو نقص للفضيلة والتهور هو مبالغة فيها. أما الأمر النقي لكل منهما فيرى خلال الطريق الوسط بين الشرين المتقاربين، فيحسب ذلك فضيلة، وهكذا كل الأمور الأخرى التي تصارع لأجل الحالة الأفضل إنما تكون بإتخاذ الطريق المعتدل بين الشرين المتقاربين. الحكمة تأخذ الطريق الوسطى بين المكر والبساطة، فلا تمدح حكمة الحيات ولا بساطة الحمامة إن إختار إنسان ما إحداها وحدها دون الأخرى. بالأحرى يحسب التدبير فضيلة إذا اتحدت الإثنان معًا في إعتدال. الإنسان الذي يفقد العفة يحسب فاسقًا، أما الذي يتعدى العفة فيحسب ضميره موسومًا كقول الرسول (١تي٤: ٢). فإن الواحد يسلم نفسه للشهوات بلا ضابط والآخر ينجس الزواج كأنه زنى. إذ يكون التدبير معتدلاً بين الإثنين يحسب ذلك إعتدالاً[177]].

يطلب المؤمنون أن يعبروا هذا العالم بسلام، لكن سيحون الحقيقي، أي الشيطان المتكبر يغضب بالأكثر لأنهم لا يريدون أن يمكثوا معه ولا أن ينشغلوا بشيء من أموره أو يلمسوا شيئًا من ممتلكاته أو يشربوا قطرة من بئره، إذ تزداد كراهيته لهم ويثور كبرياؤه بالغضب عليهم ويهيج عليهم خلال جنوده، أي الأرواح الشريرة، الذين هم الأموريين ليبثوا كل مرارة ضد المؤمنين. لهذا يقول الكتاب: “جَمَعَ سِيحُونُ جَمِيعَ قَوْمِهِ وَخَرَجَ لِلِقَاءِ إِسْرَائِيل” (ع٢٣). إنها الحرب الروحية التي يثيرها الشيطان ضد مملكة الله!

أما موقع الحرب أو ميدانها فهو “ياهص” التي في رأي العلامة أوريجينوس تعني إتمام الوصايا. فإننا حيث ندخل إلى تحقيق الوصايا الإلهية لا يحتمل الشيطان ذلك بل يشرع في قتالنا بأرواحه الشريرة، لكن المعركة تنتهي بنصرة المؤمن على الشيطان كقول الرسول: “وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا” (رو١٦: ٢٠)، إذ أكد لنا السيد: “هذا أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء” (لو١٠: ١٩). فإن هذه جميعها لن تضرنا إن دخلنا إلى “ياهص” أي حفظنا الوصايا الإلهية.

هل تبحث عن  العظة‏ ‏علي‏ ‏الجبل‏ ‏ .. تأملوا‏ ‏طيور‏ ‏السماء‏..‏تأملوا‏ ‏زنابق‏ ‏الحقل " مت‏ 26 , 28 "

ويرى البعض أن “ياهص” تعني موضعًا مطروقًا بالأقدام أو مفتوحًا[178]، وكأن المؤمنين ينبغي أن يسلكوا بروح آبائهم، الطريق الذي سبق فسلكوه، الطريق المفتوح قبلاً يدخلون في حربٍ مع الشيطان لكنهم يغلبون. جاء في سفر ارميا “هكذا قال الرب: قفوا على الطرق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة أين هو الطريق الصالح وسيروا فيه فتجدوا راحة لنفوسكم” (ار٦: ١٦).

إنتهت حياة سيحون، الذي يمثل الشيطان المتكبر بضربه بالسيف، الذي هو كلمة الله، إذ يقول الرسول: “سيف الروح الذي هو كلمة الله” (أف٦: ١٧). هكذا إذ يختص المؤمن في كلمة الله ووصيته يهلك إبليس وتتبدد كل حيله.

قُتل سيحون بالسيف واستولى المؤمنون على أرضه كلها من أرنون إلى يبوق، على جميع المدن خاصة العاصمة حشبون.

أرنون هو نهر كان يفصل بين حدود الأموريين شمالاً والموآبيين جنوبًا، فيما بعد صار الفاصل بين سبط رأوبين شمالاً وموآب جنوبًا (تث٣: ٨؛ يش١٣: ١٦). وكان لأرنون معابر (إش١٦: ٢).

“يبوق” هو فرع شرقي لنهر الأردن، في ذلك الموضع صارع يعقوب مع الرب حتى الفجر بعد أن أجاز زوجتيه وأولاده (تك٣٢: ٢٢). يعرف الآن بنهر الزرقاء، وكان يمثل الحد الغربي لبني ويفصلهم عن الأموريين، وفيما بعد يفصلهم عن سبط جاد. وهو يشطر جلعاد إلى قسمين: القسم الجنوبي كان تبعًا لسيحون والذي صار لجاد، أما الجزء الشمالي فكان يملك عوج الذي أخذه منه نصف سبط منسى (تث٢: ٣٦، ٣: ١٢ – ١٣؛ يش١٢: ٢ – ٦).

أما حشبون، مدينة سيحون ملك الأموريين، والتي هي في الأصل أخذت من الموآبيين. لقد عينها موسى لتكون من نصيب سبط رأوبين، وقد أعاد هذا السبط بناءها (عد٣٢: ٣٧؛ يش١٣: ١٧)، وقد صارت حدًا بين رأوبين وجاد (يش١٣: ٢٦)، إمتلكها بعد ذلك جاد وقد عينت كمدينة لجاد وهبت للاويين (يش٢١: ٣٩؛ ١أي٦: ٨١). استولى عليها بنو موآب في أيام إشعياء النبي وارميا النبي (إش٦٥: ٤، ١٦: ٨ – ٩؛ ار٤٨: ٢، ٣٣ – ٣٤). إستولى عليها فيما بعد اسكندريانيوس وهيرودس الكبير[179]. لا تزال تعرف باسم حسبان مدينة مهدمة على التلاميذ معزول بين أرنون ويبوق، على بعد حوالي ٦ أميال شمال مدبة.

يرى العلامة أوريجينوس أن أرنون تعني “لعنات”، أما يبوق فتعني “صراع” حيث فيها صارع يعقوب مع الله. وكأن حدود مملكة الشيطان تبدأ باللعنات وتنتهي بالصراع. إذ يدخل الإنسان أرضه يمتليء لعنات ويبقى هكذا حتى يخرج منها خلال صراعه كيعقوب لتحل عليه البركة ويتحرر من مملكة إبليس، إنه يقول: [مملكة سيحون المتكبر والعقيم تبدأ باللعنات وتنتهي في يبوق أي الصراع. كل من يريد أن يخرج من مملكة الشيطان ويهرب منها يجد الصراع… فإن صارع وغلب تكف يبوق عن أن تكون مدينة لسيحون، وتتحول إلى إسرائيل… [180]].

أما عاصمة مملكته فيه حشبون أي “حساب”، فمن يفكر بحسابٍ مادي زمني يصير فكره هذا هو مركز مملكة إبليس في حياته، أما إن تحررت بالرب وصارت حساباته روحية، يحمل فكرًا إيمانيًا، حاسبًا حساب النفقة فيصير فكره هذا هو مركز حياته الجديدة في المسيح يسوع. يتحول الفكر من مملكة إبليس إلى مملكة المسيح. لعل هذا هو ما جعل العلامة أوريجينوس يقول أن حشبون تشير إلى “التفكير”. يقول: [لماذا تُدعى عاصمة مملكة سيحون حشبون؟ لأن حشبون تعني “التفكير”، وهو الجزء الأكثر أهمية في مملكة الشيطان، هو أساس قدرته. وقد قال السيد المسيح “لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة: زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء هجل، وجميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان” (مر٧: ٢١ – ٢٣). لهذا لابد من إضرام النار في هذه المدينة وحرقها بالنار، بالتأكيد النار التي قال عنها المخلص “جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟!” (لو١٢: ٤٩) [181]].

جاء بعد هذا: “يَقُولُ أَصْحَابُ الأَمْثَالِ: اِيتُوا إِلى حَشْبُونَ فَتُبْنَى وَتُصْلحَ مَدِينَةُ سِيحُونَ. لأَنَّ نَاراً خَرَجَتْ مِنْ حَشْبُونَ. لهِيباً مِنْ قَرْيَةِ سِيحُونَ. أَكَلتْ عَارَ مُوآبَ. أَهْل مُرْتَفَعَاتِ أَرْنُونَ. وَيْلٌ لكَ يَا مُوآبُ. هَلكْتِ يَا أُمَّةَ كَمُوشَ” (ع٢٧ – ٢٩). من هم أصحاب الأمثال الذين يرون نار الروح القدس التي أضرمها السيد المسيح على الأرض التي ملكها سيحون زمانًا، مشتهين أن يعاد بنائها وإصلاحها؟ أصحاب الأمثال بلا شك هم الشريعة وجماعة الأنبياء الذين رأوا خلال الرموز كيف تهدم مملكة إبليس لكي تقوم مملكة المسيح بروحه القدوس الناري، أما الذين يفهمون هذه الأمثال فهم رجال العهد الجديد الذين أدركوا الحق وتكشف لهم ما كان قبلاً رمزًا ولغزًا. يقول العلامة أوريجينوس: [من الذي تحدث بالأمثال إلاَّ الناموس والأنبياء؟ اسمع كيف يعبر داود النبي عن ذلك قائلاً: “أفتح بمثل فمي، أذيع ألغازًا من القدم” (مز٧٨: ٢). بألغازٍ يعلن أيضًا كاتب آخر هو إشعياء: “وصارت لكم رؤيا الكل مثل كلام السفر المختوم الذي يدفعونه لعارف الكتابة قائلين: إقرأ هذا، فيقول لا أستطيع لأنه مختوم، أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له: إقرأ هذا، فيقول لا أعرف الكتابة” (إش٢٩: ١١، ١٢). إنه كتاب مختوم لأنه مملوء بالأمثال ومغلف بالألغاز.

أصحاب الأمثال هؤلاء يقولون: “اِيتُوا إِلى حَشْبُونَ فَتُبْنَى”. لقد سقطت حشبون الأولى. ماذا أقول؟ إنها ضُربت واحترقت، لذا يجب أن تبنى من جديد، لتبنى حشبون أخرى. كيف يتحقق ذلك؟ أوضح هذا بمثال: إن رأيت وثنيًا يعيش في عارٍ وضلال ديني تقول عنه بغير تردد أنه مدينة حشبون الواقعة في مملكة سيحون، إذ يتسلط عليها الملك العقيم والمتكبر في أفكاره. فإن اقترب هذا الرجل إلى إسرائيل (الجديد) وصار إبنًا للكنيسة، فيلقى عنه كل مقاومة لكلام الله، حاملاً ضد ذلك سيف الروح (أف٦: ١٦)، تنهدم فيه كل المتاريس أي العقائد الوثنية، ويحترق كبرياء إدراكه بنار الحق. بهذا يُقال أن حشبون مدينة الملك سيحون قد دُمرت، لكنها لا تترك كصحراء مجهورة هذه التي نزعت عنها عقائد الوثنيين… إنما لتبن في قلبه الأفكار الصالحة والشعور بالتقوى وتوضع فيه مباديء الحق ويتعلم الطقوس الدينية وأسس الحياة وتقام فيه العادات التي تطابق الشريعة. حينئذ يقول بحق أصحاب الأمثال الواحد للآخر: “إيتوا إلى حشبون فتبنى، التي هي مدينة سيحون”. لقد دعى أبناء الكنيسة أيضًا أصحاب الأمثال لأنهم يفهمون بالروح رموز الشريعة والألغاز. هذا ما عناه ارميا النبي في حديث رمزي عندما قال له السيد الرب: “ها قد جعلت كلامي في فمك. انظر، قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى المالك لتقلع وتهدم وتنقض وتبني وتغرس” (ار١: ٩، ١٠). ماذا يقلع؟ وماذا يهدم؟ مدينة حشبون التي كان يملكها ملك سيحون. أي شيء يقلعه أو يهدمه؟ أفكار الكفر والنجاسة! ماذا يبني فيها من جديد؟ أو يغرس فيها؟ أفكار التقوى والعفاف. يجب أن تكف حشبون عن أن تكون مدينة الأموريين لتصبح مدينة أبناء إسرائيل (الروحي) [182]].

الأعداد 31-35

٦ – النصرة على عوج ملك باشان

يعلق على هذا العلامة أوريجينوس قائلاً: [إذ تسلطوا على مدن الأموريين “تحولوا وصعدوا في طريق باشان” لكنهم لم ينزلوا إليها ولا بعثوا رسلاً كما لم يطلبوا المرور في أرضها، إنما شرعوا في الحال في محاربته (عوج) حيث هزموه هو وبنيه. ما هي باشان؟ باشان تعني “عار”. إنه بحق لم يبعث برسل إلى هذا القوم ولا طلب المرور على أرضه، لأنه يجب ألاَّ يكون لنا هناك أي ممر أو طريق يدخل بنا إلى العار. يلزمنا أن نهاجمها ونحترس منها دائمًا. من نايحة أخرى فإن “عوج” الذي هو ملك باشان يعني “إعوجاج” أو “عائق”، فهو يمثل الأمور الجسدية، هذه التي محبتها تعوق النفس وتبعدها عن الله. لهذا يجب إشهار الحرب ضد أي عوج (أي ضد أي محبة الزمنيات) [183]].

كما يقول: [بخصوص مملكة حشبون لم يكتب “لمْ يَبْقَ لهُ شَارِدٌ” (ع٣٥)، ولا أيضًا بخصوص مملكة موآب، لأنه ربما نحتاج إلى بعض سكانها، ربما يلزم وجود بعضهم لكفاحنا وتدريبنا، “وإلاَّ فيلزمكم أن تخرجوا من العالم” (١كو٥: ١٠). أما عن باشان، أي العار، فلا حاجة لنا بشيء منها. لا يترك فيها شيء يعيش بل يجب إبادة كل أعمال العار، فإنه لا يُحسب العار صالحًا عند أحد[184]].

الباب الثالث – حادثة بلعام.

(ص٢٢ – ص٢٥).


[147] On ps. , 74.

[148] On Joan, tr. 12: 11.

[149] Ad. Smyrneans 2.

[150] رسالة برناباس ١٢: ٥ – ٧ (ترجمة المطران إلياس معوض).

[151] Life of Moses 2: 272, 277.

[152] : On Forigiueness of sins and Baptism 1: 61.

[153] In Num. , hom 12.

[154] الترجمة السبعينية.

[155] In Num. , hom 12.

[156] من أمثال ٥: ١٥، ١٦ (الترجمة السبعينية).

[157] In Num. , hom 12.

[158] Ibid.

[159] On Ps. 98.

[160] On Ps. , hom 25.

[161] In Num. , hom 12.

[162] Ibid.

[163] Ibid.

[164] الترجمة السبعينية.

[165] In Num. , hom 12.

[166] Ibid.

[167] Ibid.

[168] Ibid.

[169] Ibid.

[170] Ibid.

[171] Ibid.

[172] Ibid.

[173] Ibid.

[174] Ibid.

[175] راجع تفسير الأصحاح السابق.

[176] Panegyric on , Or. 6: 8.

[177] Life of Moses 2: 287 – 289.

[178] New Westminsiter Dict. of Bible, p. 442.

[179] Joseph. Antiq. 13: 15: 8, 5.

[180] In Num. , hom 13.

[181] In Num. , hom 13.

[182] Ibid.

[183] Ibid.

[184] Ibid.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي