الأصحاح السابع
محاصرة بيتَ فَلْوى.
ما أن تأكد أليفانا بأن أحيور صار في وسط الشعب اليهودي، حتى أصدر أمره للجيش بالتحرك السريع حتى يلَّقن أحيور درسًا ثمنه حياته كلها. أشار بنو عمون وموآب على أليفانا ألا يحاربهم بالقتال، فإن بني إسرائيل رجال جبال وتلال، لكن يقيم حراسة على الينابيع حتى يستسلموا بسبب العطش. وبالفعل تمّ ذلك فارتجف الشعب، وثاروا على عزيا لأنه لم يستسلم لأليفانا، وها هم يموتون عطشًا. بكى عزيا وطلب منهم أن ينتظروا رحمة الله، سائلاً أن لا يستسلموا لمدة خمسة أيام، فإن لم يقدم الله لهم معونة يفعلون ما يريدون.
1. حملة على إسرائيل 1 – 5.
2. مشورة قُوَّادِ بَني عيسو وموآب والسَّاحِلِ 6 – 15.
3. احتلال عُيونَ ماءِ بَني إِسْرائيلَ وينابيعَهم 16 – 18.
4. صَراَخ بَني إِسْرائيل إلى الرَّبِّ إلهِهم 19 – 22.
5. يأس الشعب 23 – 29.
6. عزيا يطالبهم بأن يعطوا الرب مهلة 5 أيام 30 – 32.
الأعداد 1-5
1. حملة على إسرائيل
وفي الغَدِ أَمَرَ أَليفانا جَميعَ جيشه،.
وكُلَّ حلفائه الَّذين انضِمّواَ إِليه،.
بِالرَّحيلِ والزًّحْفِ على بَيتَ فَلْوى،.
وباحتِلالِ مُنحَدَراتِ النَّاحِيَةِ الجَبَلِيَّة،.
وبِشَنِّ المَعركَةِ على الإِسْرائيليين [1].
شتان ما بين نظرة أحيور العموني الإيمانية وبين نظرة بني إسرائيل أنفسهم. الأول كان ينظر إلى الله نفسه أنه هو سلاح شعبه الذي لا يُغلب، أما هم فكانوا يتطلعون إلى ضخامة العدو وإلى العدة الحربية والأسلحة.
وفي ذلك اليَومِ نَفسِه، رَحَلَ مِنهُم كُلُّ رَجُلِ حَرْب.
وكانَ جَيشُ رِجالِ الحَرْبِ مِائةً وسبعينَ أَلفًا مِنَ المُشاة،.
واثَني عَشَرَ أَلفًا مِنَ الفُرْسان،.
ماعَدا الأَمتِعةَ والرِّجالَ المُتَرَجِّلينَ المُنضمِّينَ إِلَيهم،.
فكانوا جَمْعًا غَفيرًا جِدًّا [2].
خرج أليفانا للحملة ومعه ١7٠ ألف جندي و١٢ ألف فارسًا، ويبدو أن عدة آلاف من المشاة انضمت إلى جيشه من الأمم التي طلبت منه العفو. بينما كان عدد الجنود لبيت فَلْوى لا يتعدى الألف، إن اعتبرنا أن تعداد سكان بيت فَلْوى كله لا يتعدى عشرات الألوف. فليس من تكافؤ بين الجيشين. فقد أراد الله تأكيد أنه “لا بالقدرة ولا بالقوة، بل بروحي قال رب الجنود. من أنت أيها الجبل العظيم، أمام زربابل، تصير سهلاً” (زك ٤: ٧).
يقصد بالرجال المترجلين، الرجال الذين كانوا جنودًا لا للدخول في المعارك مع زملائهم، وإنما كانوا متفرغين لقيادة الحيوانات الحاملة المئونة للجيش.
فعَسكَروا في الوَادي المُجاوِرِ لِبَيتَ فَلْوى عِندَ عَينِ الماء،.
وانتَشَروا في العُمْقِ مِن دوثانَ Dothan إلى بَلْما Belbaim،.
وفي الطُّولِ مِن بَيتَ فَلْوى إلى قليمون Cyanon الَّتي قُبالةَ يِزْرَعيل Esdraelon [3].
استعد المشاة والفرسان للحرب معًا ضد بني إسرائيل، وعسكروا في الوادي بالقرب من بيت فَلْوى بجوار الينبوع، وانتشروا في دوثان Dothan حتى بلبيم Balbaim، على امتداد من بيت فَلْوى إلى قليمون Caymon التي في مواجهة يزرعيل.
بلما أو بلبيم Belmaim, Belbaim: مدينة تقع بالقرب من تل دوثان (دوثائين) على طريق للقوافل وبالقرب من السامرة. ربما هي المدينة المذكورة في ٨: ٣، وتدعى بلمون، والتي كان يقع بالقرب منها الحقل الذي مات فيه منسى زوج يهوديت. وربما كانت هي أيضًا بيباي المذكورة في ١٥: ٤ من بين البلاد التي أرسل إليها عزيا لمطاردة الأعداء.
يظن البعض أنها أبل بيت معكة المذكورة في ٢ صم ٢٠: ١٤، تقع في شمال فلسطين التي طارد إليها يوآب شبع بن بكري. ويرى آخرون أنها كانت مملكة صغيرة ذُكرت في سجلات تحتمس الثالث للمدن التي غزاها[125].
قليمون Cyamon، الاسم اليوناني للكلمة Okneam، وردت في ١ مل ٤: ١٢؛ ١ أي ٦: ٦٨، تحت يقمعام، وهي كلمة عبرية معناها “يقيم الشعب”، وتحت اسم قرتان (يش٢١: ٣٢). وقد أخذت هذا الاسم “قليمون” في العصر الهيليني، وتقع على مسافة ١٢ كم شمال غرب مجدو، أمام وادي يزرعيل، وبالقرب من سهل شارون في طرف مرج بن عامر على طريق عكا، ومكانها اليوم كفر كاما. وقد وردت قليمون في قائمة المدن التي استولى عليها تحتمس الثالث، حيث ترد في اللغة العبرية يقنعام، وتُسمى حاليًا تل قليمون أو يوكنيم بجانب عين كيمون.
فلَمَّا رَأَى بنو إِسْرائيل كَثرَتَهم،.
اِرتَعَدوا ارتِعادًا شَديدًا.
وقالَ كُلُّ واحِدٍ لِقَريبِه: “والآن سيَنهب هؤلاءَ الأَرضِ كُلِّها،.
فلا الجِبالُ العالِية ولا الوِديان ولا التلال تَقِفُ أَمامَ قُوَّتِهم “[4].
يليق بنا في معركتنا الروحية ألا نخشى عدو الخير وكل حيله وكل قواته الشريرة، لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم (2 مل 6: 16).
- صعد فرعون على خيله، وغرق في سُبات وهلك.
كان للمصريين خيلهم، لكنهم هلكوا.
هذا هو السبب الذي لأجله جاء في الناموس ألا يملك يهودي حصانًا (تث 17: 16). تذكرون أن سليمان لم يكن له خيل من أورشليم أو اليهودية، وإنما اشتراها من مصر (1 مل 10: 28)؛ الخيل دائمًا معروضة للبيع في مصر.
“البعض أقوياء بالمركبات، والبعض بالخيل، أما نحن فأقوياء باسم الرب إلهنا” (مز 20: 7). هؤلاء بالحقيقة، الذين يمتطون الخيل ينامون ويهلكون.
للرب أيضًا خيل، كما له أيضا جبال مشرقة.
بينما جبال الشيطان مملوءة ظلامًا. الآن كما توجد جبال متلألئة وجبال مظلمة، هكذا توجد خيول صالحة وخيول رديئة.
لقد قدمنا ملاحظات قليلة عن الخيول الرديئة، فلنقل شيئًا عن الخيول الصالحة. عندما جاء الفرسان إلى اليشع للقبض عليه وخرج الخادم الصبي ورأى جيش الأشوريين حول المدينة، قال اليشع: “لا تخف، فإن الذين معنا أكثر من الذين معهم”. بعد قليل قيل في الملوك: “افتح يا رب عينيْ الغلام ليرى”. وإذ انفتحت عيناه رأى مركبات وخيول. هذه جاءت للمعونة. لاحظوا إنه قيل: “مركبات وخيول “. لم يوجد رجال على الخيل، بمعني آخر كانوا جموع الملائكة. كانوا مركبات وكانوا خيلاً. قائد المركبة هو الرب. لهذا يتغنى حبقوق النبي:” مركباتك هي الخلاص “(حب 3: 8). هذا قيل لله. آه، لو كنا نحن أيضا خيول الله ويعيننا الله ليمتطينا! [126].
ثُمَّ أَخَذَ كُلُّ واحِدٍ عُدَّتَه الحَربِيَّة،.
وأَشعَلوا النِّيرانَ على أَبْراجِهم،.
وظَلُّوا يَحرِسونَ طَوالَ تلكَ اللَّيلة [5].
إشعالهم النار فوق الأبراج يعني يقظتهم وسهرهم ومراقبتهم للموقف.
يليق بالمؤمن أن يكون ملتهبًا بنار الروح القدس، الذي ينير البصيرة الداخلية، ويجعل منه خادمًا لله ناريًا، لا يعرف الرخاوة. فقد قيل في المزامير: “خدامه لهيب نار” (مز 104: 4). وأن يكون يقظًا حتى في نومه الجسدي: “أنا نائمة، وقلبي مستيقظ” (نش 5: 2).
- هذه هي النار التي اضطرمت في قلوب التلاميذ، فألزمتهم بالقول: “ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا، إذ كان يكلمنا في الطريق، ويوضح لنا الكتب!” (لو 24: 32) [127].
- هذه النار الإلهية أشعلتْ عظام الأنبياء، كما قال إرميا: “كان في قلبي كنارٍ محرقة محصورة في عظامي، فمللت من الإمساك، ولم أستطع” (إر 20: 9) [128].
- “الصانع ملائكته أروحًا، وخدامه لهيب نار” (مز 104: 4). فبولس يُقَدِّم لكم المشهد عينه. فهو كالروح والنار، يطوف الأرض كلها ويُطَهِّرها، حين لم يكن بعد قد اقتنى السماء، وفي ذلك أعجب العجب، من كونه وهو لا يزال حيًا في هذا العالم ولابسًا جسدًا مائتًا، قد ماثل القوات المُجرَدة عن الجسد[129].
القديس يوحنا الذهبي الفم.
الأعداد 6-15
2. مشورة قُوَّادِ بَني عيسو وموآب والسَّاحِلِ
وفي اليَوم الثَّاني أَخرَجَ أَليفانا جَميعِ فُرسانِه في وَجهِ بَني إِسرائيلَ،.
الَّذينَ كانوا في بَيت فَلْوى [6].
لم تكن بيت فَلْوى تحتاج إلى خروج كل فرسان أليفانا، لكنه قام بهذا العمل كنوعٍ من الاستعراض، ولبث روح الرعب في الإسرائيليين[130].
وفَحَصَ المُنحدَرَاتِ المُؤَدِّيةَ إلى مَدينتِهم،.
وتفَقَّدَ كُلَّ عَينِ ماء واحتَلَّها، وجَعَلَ فيها مَواقِعَ مُقاتِلين،.
ورَجَعَ هو إلى جَيشِه [7].
جاء في الفولجاتا: [الآن إذ سار أليفانا وجد ينبوعًا كان يمدهم بالماء، يجري خلال قناة خارج المدينة في الجانب الجنوبي، فأمر باغلاق القناة. إلا أنه كان يوجد ينابيع ليست بعيدة عن الأسوار، كانوا يسحبون منها الماء خفية، ويشربون منها القليل، لا تكفي لإروائهم تمامًا (7: 6 – 7).].
تشير المياه إلى الروح القدس، لهذا وقف السيد المسيح في اليوم الأخير العظيم من العيد ونادى، قائلاً: “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي” (يو 7: 37 – 38). ويعلق القديس يوحنا الإنجيلي: “قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد ُأعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد” (يو 7 39).
كان دور الوثنيين عند موت إبراهيم أن يطمسوا الآبار بالتراب، وقام اسحق بإزالة التراب. هكذا عمل عدو الخير الأول أن يحرمنا من مياه الروح القدس الذي نلناه في سرّ المسحة، وعمل الكنيسة الدائم أن تحثنا على قبول عمل الروح فينا.
- قبلما صار الكلمة إنسانًا منح القديسين الروح بكونه روحه، كما قال لتلاميذه: “اقبلوا الروح القدس” (يو 20: 22). أعطى الروح لموسى وللسبعين الآخرين، كما صلى داود خلال الكلمة طالبًا من الآب: “روحك القدوس لا تنزعه مني”. وإذ صار إنسانًا قال: “أرسل لكم الباركليت، روح الحق”، وقد أرسله كلمة الله بكونه أمينًا (في وعده) [131].
القديس أثناسيوس الرسولي.
- حينما تمتلئ النفس من ثمر الروح تتعرّى تمامًا من الكآبة والضيق والضجر، وتلبس الاتساع والسلام والفرح بالله، وتفتح في قلبها باب الحب لسائر الناس.
القديس مار اسحق السرياني.
- يسمى (الروح القدس) المعزي، لأنه يعزي ويفرح الذين في الشدائد[132].
القديس مقاريوس الكبير.
- يستحيل أن ينال أحد نعمة الله ما لم يكن له الروح القدس، الذي فيه كل عطايا الله[133].
فدَنا إِلَيه جَميعُ رُؤَساءِ بَني أدوم،.
وجَميعُ قُوَّادِ شَعبِ موآب وقُوَّادُ السَّاحِلِ، وقالوا: [8].
يبرز هنا رؤساء أدوم وموآب وقواد الساحل ليظهروا حقدهم على إسرائيل. كانوا أعداءً تقليديين لليهود استمرت عداوتهم لقرونٍ طويلة، يقول عنهم يوسيفوس: “إنهم يكرهوننا جدًا”.
بقدر ما كان لبيت فَلْوى من امتيازات بسبب الجبال التي تحيط بها وتحميها، فإن نقطة الضعف هناك قلة المياه وصعوبة الحصول عليها داخل المدينة.
كثير من المدن سقطت بعد حصارها متى حُرمت من مصادر المياه، خاصة إن كانت لا تتمتع بسقوط أمطارٍ عليها. على سبيل المثال: سقطت السامرة سنة ٧٢٢ ق. م. عندما حاصرها الأشوريين، وكانت تعتمد على الينابيع وماء الأنهار. ظن الأراميون قديمًا أن إله اليهود إله الجبال، وأن آلهة المياه أقوى من آلهة الجبال.
“لِيَسمَعْ سَيِّدُنا كَلِمتنا،.
حتى لا تَقَعَ خَسائِرُ في جَيشِكَ [9].
شتان ما بين مشورة أحيور السابقة ومشورة هؤلاء الرؤساء والقواد، فإن أحيور ركز على قدرة إلههم على إنقاذهم، أما هؤلاء فتحدثوا عن طبيعة جغرافية الموقع، وأنه يمكن الانتصار عليهم دون فقدان جندي واحد. لهذا ثار على أحيور وأراد الانتقام منه حاسبًا مشورته استخفاف وإهانة له، أما هؤلاء ففي عينيه قدموا حكمة يقبلها العقل والمنطق ولا تخدش كبرياءه.
فإِنَّ شَعبَ بَني إِسْرائيلَ هذا لا يتَّكِلُ على رِماحِه،.
بل على عُلُوِّ الجبالِ الَّتي يُقيمُ فيها.
ولَيسَ مِنَ السَّهْلِ الصُّعودُ إلى رُؤُوسِ جِبالِه [10].
جاء ملخص مشورة أحيور أن شعب بني إسرائيل يتكل على إلهه الذي لا يُغلب، أما مشورة هؤلاء القادة فتتلخص في اتكال إسرائيل على علو جبال بلادهم التي يقيمون فيها، وليس لأحد غيرهم الخبرة في تسلقها في أمان.
والآن، يا سيِّد، لا تُقاتِلْهم كما يُقاتَلُ في مَعرَكةٍ مُنَظَّمة،.
فلا يَسقُطَ مِن جَيشِكَ رَجُلٌ واحِد [11].
أِبْقَِ في مُعَسكَرِكَ مُحافِظًا على جَميعِ رِجالِ جَيشِكَ،.
ولْيَستَولِ خدامكَ على عَينِ الماء الخارِجِ مِن سَفْحِ الجَبَل [12].
هنا تدخل القادة المحليون من أدوم وموآب لينصحوا أليفانا أنه ليس من حاجة للمخاطرة بجنديٍ واحدٍ بينما يستطيع أن يخضع مقاوميه بقطع مئونة المياه عنهم.
يفهم من النص أن العين الرئيسية هي التي شُق لها مجرى إلى داخل المدينة، بينما لم تكن كمية الماء التي تدرها الينابيع الصغيرة بكافية لتوصلها إلى داخل المدينة. وكان الماء في المجرى يجري ليجتمع في جب بئر عميق يقوم السكان برفعه عن طريق الشادوف أو السواقي. وكانوا يخزنون الماء في أحواضٍ معدة لذلك.
فمِن هُناكَ يَستَقي سُكَّانِ بَيتَ فَلْوى.
والعَطَشُ يُهلِكُهم، فيُسلِمون مَدينَتَهم.
عندئذٍ نَحنُ وجَيشُنا نَصعَدُ إلى رُؤُوسِ الجِبالِ القَريبة،.
ونُعَسكِرُ فيها كما في مَوقِعٍ أَماميّ،.
لِئَلاَّ يَخرُجَ أَيُّ رَجُلٍ مِنَ المَدينة. [13].
طلب قادة الجيوش الخاضعة لأليفانا أن يصعدوا هم إلى رؤوس الجبال القريبة ويعسكروا، ليقتنصوا كل من يخرج من المدينة لطلب الماء. وقد كانت عادة الملوك القدماء استخدام جنود الحلفاء أو الخاضعين لهم من أممٍ أخرى ضد العدو، خاصة إن وجدت عداوة بينهم. وذلك كما استخدم بيلاطس بنطس فرقًا من الجنود السامريين في إخماد ثورات اليهود. من هنا فقد استعان أليفانا بجنود العمونيين وهم كثيرون (٧: ١٧ – ١٨) لحراسة عيون الماء، واشترك معهم الأدوميون، واحتلوا المنطقة جميعها فيما يشبه الحصار الكامل.
فيَذوبونَ جوعًا هُم ونِساؤُهم وأَولادُهم،.
وقَبلَ أَن يُدرِكَهُمُ السَّيفُ يُصرَعونَ في شَوارعِ مدينَتِهم [14].
نجح هؤلاء القادة في كسب ودّ أليفانا، إذ لم يقللوا من قدراته، بل أكدوا أنه يمكنه بالسيف أن يبيدهم، لكن لماذا يستخدم السيف وهم أقل من أن يُمتد سيف جيش أليفانا لقتلهم، إنهم يموتون بالجوع والعطش، وهذا الموت أردأ من القتل بالسيف وفيه مهانة لهم.
فتُكافِئُهم شَرَّ مُكافأَةٍ على تمردهم،.
وعلى عَدَمِ الذَّهابِ للقاء معكَ في سَلام “[15].
أظهر القادة استياءهم لعدم مجيء إسرائيل خاضعًا لأليفانا، وهذا يشبع غروره.
الأعداد 16-18
3. احتلال عُيونَ ماءِ بَني إِسْرائيلَ وينابيعَهم
فحَسُنَ كلامُهم عِندَ أَليفانا، وعِندَ جَميعِ خدامه،.
وأَمَرَ بِالعَمَلِ بحَسَبِ قَولهم [16].
أدرك القائد أنه يصعب اقتحام المدينة بسبب العوامل الجغرافية، فعوض المغامرة باقتحام المدينة التجأ إلى محاصرتها، وقطع موارد الماء عنها، وذلك لتحقيق الأهداف التالية:
أولاً: تعرض الشعب للجوع والعطش يدفعهم إلى الضغط على قادتهم بتسليم المدينة.
ثانيًا: خلال الحصار وحرمان الشعب من الماء يتذمرون، فيفقدوا العون الإلهي.
رابعًا: نتيجة العطش الشديد والجوع يجد الشعب ضرورة استخدام العشور والبكور بدلاً من تقديمها للهيكل، فيحل عليهم غضب الله.
وقد حدث فعلاً أن نفذ الماء، وحلت المجاعة، وبعد خمسة أسابيع تذمر الشعب على قادتهم، قائلين بأنه كان أفضل لهم أن يستسلموا للعدو ويعيشوا عبيدًا عن أن يموتوا جوعًا.
فتَحَرَّكَ جَيشٌ مِن بَني عَمُّوَن،.
ومَعَهم خَمْسَةُ آلافٍ مِن بَني أشور،.
وعَسكَروا في الوَادي،.
واحتَلُّوا عُيونَ ماءِ الإسْرائيليين وينابيعَهم [17].
إذ حسُن في عيني أليفانا ورجاله مشورة قادة أدوم وموآب، أصدر أمره بالتنفيذ. فتحرك من جيش العمونيين ومعهم 5000 جندي من الأشوريين، وعسكروا في الوادي، ووضعوا أياديهم على مصدر المياه وينابيع الإسرائيليين.
يرى البعض أن خمسة آلاف جندي هو عدد كبير بالنسبة لمهمة بسيطة مثل هذه، لكن هذا العدد ليس بكثيرٍ بالنسبة لتعداد الأشوريين مع حلفائهم. وقد ورد في الترجمة اللاتينية أن أليفانا وضع على كل عين فرقة تتكون من مائة جندي.
وصَعِدَ بَنو أدوم وبَنو عَمُّون،.
وعَسكَروا في النَّاحيةِ الجَبَلِيَّة قُبالةَ دوثان،.
وأَرسَلوا أُناسًا مِنهُم نَحوَ الجَنوبِ والشَّرقِ،.
قُبالةَ أَغرَبيلَ Egrebeh الَّتي بِالقُربِ مِن خُوس Chusi عِندَ وادي مُخْمور Mochmur.
وعَسكَرَت بَقِيَّةُ قُوَّاتِ الأشوريينَ في السَّهْل،.
فغَطَّت وَجهَ الريف كلَّه،.
وعَسكَرَت خِياَمُهم وأَمتِعَتُهم في كُتلَةٍ ضَخْمة،.
فقد كانوا جَمعًا غفيرًا جِدًّا [18].
صعد الأدوميون والعمونيون وعسكروا على المرتفعات التي في مقابل دوثان، وأرسلوا بعض رجالهم نحو الجنوب والشرق تجاه أغريبا Egrebeh بجوار Chusi بالقرب من وادي مخمور Mochmur. أما بقية الأشوريين فبقوا في السهل، وغطوا وجه الأرض.
أغربيل Ekrebel, Egrebel , Aqrabeh: موقع في جنوب شرقي دوثان بجوار خوس يصل بينهما جدول مخمور، وقد رفض أهلها وهم عمونيون وموآبيون أن يمدوا بني إسرائيل بالخبز والماء عند عبورهم من هناك، وتحالفت فيما بعد مع أشور ضد إسرائيل، وربما كانت هي Akrabeh الواقعة على بعد ٤٠ كم شمال أورشليم.
خوس Chusi أو Chous: تقع غرب أغربيل، وبالقرب من شكيم، جنوب نابلس الحديثة. يرى بعض الدارسين أنها قرية Quezh الحالية، تبعد حوالي ستة أميال من نابلس Nablus[134].
مخمور Mochmur: يرى البعض أنه وادٍ يقع جنوب شرقي دوثان، وربما هو وادي مخفولية Makhfrlyeh جنوب نابلس، تدعى باللاتينية Machur. يرىAvi – yanoh وأهارون Aharon أنه وادي كانا Wadi Qana[135]، يبعد حوالي 15 ميلاً من أغربيل.
الأعداد 19-22
4. صَراَخ بَني إِسْرائيل إلى الرَّبِّ إلهِهم
وخارَت عَزيمَةُ بَني إِسْرائيل،.
فصَرَخوا إلى الرَّبِّ إلهِهم،.
لأنَّ جَميعَ أَعْدائِهم طَوَّقوهم،.
ولم يكُن هُناكَ سَبيلٌ إلى الإفْلاتِ مِن وَسْطِهم [19].
يمكننا أن ندرك مدى تأثير الحصار على مدينة تُحرم من الطعام والشراب مما حدث أثناء حصار أورشليم عام ٧٠م، فقد روى يوسيفوس أن إحدى النساء ذبحت طفلها وأكلته. فلا نعجب من قول الكاتب: “خارت عزيمة بني إسرائيل“، فقد لاح الموت لسكان بني فلوى، وبدأ اليأس يتطرق إلى قلوبهم، خاصةً وهم يرون أطفالهم كادوا أن يموتوا بسبب العطش. لقد خارت عزيمتهم بسبب الضعف البشري.
وظَلَّ حَولَهم كُلُّ مُعَسكَرِ أشور،.
مِنِ مُشاةٍ ومَركَباتٍ وفُرْسان،.
مُدَّةَ أَربَعةٍ وثَلاثين يَومًا.
فنَفِدَت لدى جَميعِ سُكَّانِ بَيتَ فَلْوى آنِيَةُ الماءَ جَميعُها [20].
وجَفَّتِ الآبار ولم يكُنْ عِندَهم مِنَ الماءِ ما يُرْويهِم يَومًا واحِدًا،.
لأنَّ ماءَ الشّرْبِ كانَ يُقَنَّنُ علَيهم [21].
لا تزال توجد جباب على قمة جبل تابور حتى الآن.
وكانَ أَطفالُهم خائِرِي القِوى،.
وكانَ النِّساءُ والشُّبَّانُ مَنْهوكينَ مِنَ العَطَش،.
وكانوا يَسقُطونَ في شَوارِعِ المَدينة وفي مَمَرَّاتِ الأَبْواب،.
فلم تَعُدْ فيهِم أَيَّةُ قوة [22].
الأعداد 23-29
5. يأس الشعب
فاجتَمَعَ كُلُّ الشَّعبِ، مِن شُبَّان ونِساءٍ وأَولاد،.
على عُزيَّا وعلى رُؤَساءَ المَدينة،.
وصَرَخوا بِصَوتٍ عَظيمٍ،.
فقالوا أَمامَ جَميعِ الشُّيوخ [23].
“لِيَحكُمِ اللهُ بَينَكم وبَينَنا!
فقد أَلْحَقْتُم بِنا ضَرَرًا جَسيمًا،.
إِذ لِم تُكَلِّموا بَني أشور كَلامَ سَلام [24].
طلبوا تسليم المدينة لأليفانا، إذ كانوا يعلمون أن العمل كعبيدٍ للأشوريين أفضل بكثيرٍ من مصيرهم إن اقتحم أليفانا المدينة واستولى عليها. فقد كان من عادة الغزاة التنكيل بسكان المدن المقاومة متى هزموها والانتقام منهم. فلا يكتفون بقتلهم، إنما يذيقونهم العذاب. على سبيل المثال عندما غزا الإسكندر الأكبر صور وغزة صلب منهم آلافًا على طول الطريق هناك، كما قام بتعذيب قائد غزة الفارسي عذابًا مروعًا.
صار عزيا في موقف شبيه بما حدث مع موسى النبي حين تذمر الشعب عليه بسبب العطش (عد 20: 2 – 13).
والآن، فإِنَّه لَيسَ لَنا مِن معين،.
بل باعَنا اللهُ إلى أَيديهِم،.
لِنُصرَعَ أَمامَهم في عَطَشٍ وهَلاكٍ عَظيم [25].
ورد هذا التعبير في أستير 4: 7، وهو يفهم بالمعنى الوارد في إشعياء 50: 1؛ 52: 3، حيث يؤكد الله أن إسرائيل لم يُبع بمالٍ، بل بالحري جاء تعبير “بيع” هنا مجازًا ليعبر عن دخولهم في العبودية أو سقوطهم في الأسر. وكما جاء في سفر اللاويين: “وإذا افتقر أخوك عندك وبيع لك، فلا تستعبده استعباد عبدٍ” (لا 25: 39). ويقول الرسول بولس: “وأما أنا فجسدي، مبيع تحت الخطية” (رو 7: 14).
والآن فادْعوهم،.
وأَسلِموا المَدينةَ كُلَّها لِلنَّهْبِ إلى جَيش أَليفانا وكُلِّ قواته [26].
فخَيرٌ لَنا أَن نَكونَ غنيمَتَهم،.
لأَنَّنا نَصيرُ عَبيدًا وتَحْيا نُفوسُنا،.
ولا نَرى بِأَعيُننا أَطْفالَنا يَموتون،.
ونِساءَنا وأَولادَنا يَلفِظونَ أَرْواحَهم [27].
إن كنا نحيي هذا الشعب في جوانب كثيرة منها شعورهم بأن ما حلّ بهم هو بسبب خطاياهم وخطايا آبائهم [28]، وأنهم لجأوا إلى الله بروح الجماعة ينوحون كرجلٍ واحدًا [29]، وصرخوا إليه بصوت عظيم، غير أنهم تعجلوا في القرار، وأرادوا التدخل السريع، قائلين: “خير لنا أن نكون غنيمتهم لأننا نصير عبيدًا وتحيا نفوسنا، ولا نرى بأعيننا أطفالنا يموتون، ونساءنا وأولادنا يلفظون أرواحهم”. وأنهم استحلفوا القادة أن يتحركوا فورًا لتسليم المدينة!
نَستَحلِفُكم بِالسَّماءِ والأَرضِ وبإِلهِنا ورَبِّ آبائِنا،.
الَّذي يُعاقِبُنا بِسَبَبِ خطايانا وخطايا آبائِنا،.
أَن تَعمَلوا بِهذا الكَلامِ في هذا اليَومِ نَفسِه “[28].
كانت العقيدة الراسخة لدى اليهود بين الضيقات التي تحل بهم، سواء على مستوى الأشخاص أو الجماعة، علتها الخطية، خطية الشخص وخطايا آبائه. وكما جاء في سفر الخروج ٢٠: ٥ ومراثي ٥: ٧ أن الله يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء الذين يصرون على السلوك على منوال آبائهم في شرورهم.
وارتَفَعَ في وَسْطِ الجَماعَةِ كُلِّها نَحيبٌ شَديدٌ كنَحيبِ رَجُلٍ واحِد،.
وصَرَخوا إلى الرَّبِّ الإِلهِ بِصوتٍ عَظيم [29].
مع ما للشعب هنا من ضعفٍ، لكن التوبة الجماعية والالتجاء إلى الله بروحٍ واحد له تقديره الخاص عند الله.
الأعداد 30-32
6. عزيا يطالبهم بأن يعطوا الرب مهلة خمسة أيام
فقالَ لَهم عُزيَّا: “تَشَجَّعوا، يا إِخوَتي،.
لِنَصمُدْ خَمسةَ أَيَّامٍ أَيضًا يُحَوِّلُ فيها الرَّبُّ إِلهُنا رَحمَتَه إِلَينا،.
فإِنَّه لن يَترُكَنا حتَّى النَهاية [30].
أخطأ عزيا حيث حدد زمنًا معينًا (خمسة أيام) لعمل الله، وإلاَّ يستسلم للأعداء، وقد وبخته يهوديت على هذا القول، لأن فيه عدم إيمان وعدم تسليم حقيقي لله أن يعمل كيفما يشاء، وفي الوقت اللائق. غير أننا لا نتجاهل الجانب الإيماني وثقة عزيا الحتمية، إذ يقول: “فإنه لن يتركنا حتى النهاية”.
لماذا حدد الموعد بخمسة أيام؟
- ربما لم تكن في نية عزيا تسليم المدينة نهائيًا، وإنما قال هذا لتهدئة مشاعر الشعب المضطربة. وقد حدد الزمن ربما لأن المئونة والماء الذين بالمدينة لم يكونا يكفيان إلاَّ لمدة خمسة أيام.
- لعله تحدث معهم في يوم الاثنين، فأقنعهم بالانتظار حتى ينتهي يوم السبت بكونه يوم الراحة الذي تقدم فيه ذبائح وتقدمات وعبادة بصورة خاصة.
وإِن مَضَت تِلكَ الأَيَّامُ ولم تأتِنا الإِغاثة،.
عَمِلتُ بِقَولِكم “[31].
وصرف الشَّعبَ كُلَّ واحِدٍ إلى مَركَزِه،.
فذهبوا إلى أَسْوارِ مَدينَتِهم وأَبراجِها،.
وأَرسَلوا النِّساءَ والأَولادَ إلى بُيوتهم.
وكانوا بالمَدينةِ في انهِيارٍ شديدٍ [32].
يرى البعض أن هذا الوعد يكشف عن قيادة عُزيَّا الحكيمة، إذ لم يضطرب من اتهامهم له، أو يغضب عليهم، إنما شاركهم مشاعرهم وصلواتهم وصراخهم ودموعهم، وشعر بمسئوليته، فوقف يطمئنهم إلى وجود الله معهم. وأن القرار الذي اتخذه بالانتظار خمسة أيام في صلوات حتى يروا تدخل الله وإنقاذه لهم عوض تسليم المدينة في الحال كطلبهم هو قرار روحي. غير أن يهوديت رأت في تحديد زمن معين لله بعده يقوم عُزيَّا بتسليم المدينة فيه ضعف إيمان. فليس من حق البشر تحديد أزمنة لله. إنما يلزم التسليم الكامل والتأكيد بأن الله سيحل المشكلة بالطريقة التي يراها هو.
من وحي يهوديت 7.
بدد يا رب مشورة الأشرار.
- استعرض أليفانا قدراته العسكرية الجبارة.
وأراد الزحف على المؤمنين ليرعبهم،.
ويهز إيمانهم فيك.
وضع في قلبه أن يأسرهم ويذلهم.
وجاءت مشورة القادة الأشرار أن يقطع مصادر المياه عنهم.
هكذا يحارب العدو تارة علانية ليرعبنا،.
وتارة خفية ليسلبنا الارتواء بمياه الروح القدس.
وثالثة يبث روح اليأس فينا، ليحطمنا!
- لتبدد يا رب كل حيلة الشريرة.
ولتحطم كل مشوراته الرديئة.
لتنزع عنا روح اليأس.
افتح لنا أبواب الرجاء،.
فتطمئن قلوبنا.
نرى الذين معنا أكثر من الذين معهم.
نراك يا رب القوات تحرك السماء لحساب شعبك.
نراك تفيض بنعمتك الغنية فينا،.
ويتسلم روحك القدوس قيادة حياتنا.
- لنثق فيك: تسمح بالضيقات،.
فتنسكب مراحمك علينا.
وتفيض تعزياتك السماوية في قلوبنا!
- انزع عنا روح الاستسلام،.
وهب لنا ثقة كاملة في عملك معنا.
- أعطنا روح التوبة الصادقة،.
والالتجاء الجماعي إليك.
فنطلب مجدك، ونثق في وعودك الإلهية.
أنت هو المخلص العجيب!
أسماؤنا منقوشة على كفك!
خلاصنا هو موضع اهتمامك!
حياتنا هي عطية من لدنك!
لك المجد يا مخلص البشرية!
الباب الثالث.
الله واهب النصرة.
يهوديت 8 – 14.
[125] Interpreter Dictionary of the Bible, Abel Maacha.
[126] Homilies on Psalms 9.
[127] Epistle 52: 3.
[128] In luke 12: 49 – 50.
[129] الأب الياس، ص 268.
[130] Orthodox Bible Study, Judith 7: 6.
[131] Four Discourses against the Arians, 1: 12.
[132] عظة 1: 17.
[133] De Spir. Sanc. 9.
[134] Carey Moore, p. 173.
[135] Macmillan Bible Atlas, Map 211.