الأصحاح الخامس عشر سفر إرميا القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الخامس عشر

الشفاعة المرفوضة.

يكمل هذا الأصحاح الحديث عن التأديب بالقحط، حيث يؤكد الرب حتمية هذا التأديب بسبب إصرار الشعب مع القادة على الشر، رافضًا كل شفاعة عنهم، حتى إن قدمها موسى وصموئيل النبيين.

  • القحط والتطلع إلى العصر المسياني.

1. الشفاعة المرفوضة [1].

2. التأديب [2 – 9].

3. انهيار نفسية إرميا إلى حين [10].

4. الله يسند نبيه [11].

5. سبي الشعب [12 – 14].

6. تعزيات وسط الآلام [15 – 18].

7. الله يشدد إرميا النبي [19 – 21].

العدد 1

1. الشفاعة المرفوضة:

“ثم قال الرب لي:

وإن وقف موسى وصموئيل أمامي لا تكون نفسي نحو هذا الشعب.

اطرحهم أمامي فيخرجوا “[1].

نحن نعلم أن شفاعة النبي لدى الله من أجل الشعب كانت عملاً أساسيًا في حياته، لذا أراد الله تأكيد صدق نبوة إرميا بالرغم من عدم قبول شفاعته في أمر رفع التأديب، لأنه وإن تشفع موسى وصموئيل النبيين لن تُقبل شفاعتهما في ذلك الحين، ولن يُسمح للشعب أن يقف أمامه. كأن عدم قبول شفاعة إرميا ليس علتها ضعف في شخصه أو في عمله، وإنما في إصرار الشعب على عدم التوبة.

ذكر المزمور (99: 6) موسى وهرون وصموئيل كشفعاء عظماء يستجيب الله صلواتهم.

قدم لنا العهد القديم موسى شفيعًا في (خر 32: 11 – 14؛ 20: 34؛ 32: 30؛

عد 10: 13 – 19؛ 14: 13 – 19؛ تث 9: 26 – 29). كما قدم لنا صموئيل النبي شفيعًا في (1 صم 7: 5 – 11؛ 12: 19 – 25). قيل: “فدعا صموئيل الرب فأعطى رعودًا ومطرًا في ذلك اليوم، وخاف جميع الشعب الرب وصموئيل جدًا. وقال جميع الشعب لصموئيل: صلِ عن عبيدك إلى الرب إلهك حتى لا نموت… فقال صموئيل للشعب: لا تخافوا… وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أُعلمكم الطريق الصالح المستقيم” (1 صم 12). هكذا امتزجت صلواته وشفاعاته بتعليمه لهم ليعيشوا حسب العهد الإلهي.

لم يكن هذان النبيان شفيعين فحسب، بل كانا أيضًا وسيطين في أقامة عهد بين الله والشعب[264].

ذِكر هذين النبيين له معنى خاص بالنسبة لإرميا النبي، إذ كان يُنظر إليهما كنموذجين حيين لخدمته، حاسبًا نفسه خلفًا في سلسلة الأنبياء[265].

ُوصف إرميا في سفر المكابيين الثاني كشفيعٍ دائم: “فأخبرهم أيضًا برؤيا قد رآها وهي موثوق بها، فتشجعوا جميعًا. وهذه هي الرؤيا أن أحد رؤساء الكهنة، وهو شريف كريم صالح وفصيح، ومنذ حداثته منكب على كل فضيلة، وقد ظهر يمدّ يديه مستشفعًا لأجل الشعب. ثم ظهر شخص آخر بثياب فاخرة وبهيئة جميلة. فقال رئيس الكهنة إن هذا هو إرميا نبي الله، وهو محب لإخوته يشفع دائمًا لأجل الشعب والمدينة المقدسة” (2 مك 15).

من محبة الله لهم أنه لا يشفق عليهم إلى حين، ولا يقبل شفاعة الأنبياء عنهم حتى يرد غضبه، لأنه يريد خلاصهم الأبدي بالرجوع إليه أولاً. إنه لا يطلب أن يرفع التأديب المؤقت مهما بدا قاسيًا، إنما يُريد مجدهم الأبدي.

الله الذي يُسر بوحدتنا وصلاتنا لبعضنا البعض يرفض أحيانًا حتى شفاعة قديسيه متى رأى فينا تهاونًا بخلاصنا، فإنه لا يستطيع إنسان ما أن يفدينا. وكما يقول المرتل: “الأخ لن يفتدى، فهل يُفتدى إنسان؟” (مز 49: 7). حقًا إننا نُصلي لأجل بعضنا البعض، ونطلب صلوات القديسين عنا، لكن بروح الالتقاء مع المخلص نفسه كفادٍ وحيدٍ وفريدٍ.

  • يوجد بعض الناس يتكلون على أصدقائهم، وآخرون على فضائلهم (قوّتهم)، وآخرون على غناهم. هذه هي عجرفة البشرية التي لا تتكل على الله… “الأخ لن يفتدى، فهل يخلص إنسان؟” هل تتوقع إنسانًا يفتديك من الغضب القادم؟! [266].

القديس أغسطينوس.

  • لا تتطلع إلى أخٍ لخلاصك… بل إلى الإله المتأنس يسوع المسيح، هو وحده قادر أن يقدم فدية لله عنا جميعًا… دم ربنا يسوع المسيح المقدس والثمين جدًا، الذي سفكه لأجلنا جميعًا…

ليس لأنه سكن بيننا “في شبه جسد الخطية” (رو 8: 3)، تظن أن ربنا إنسان مجرد؛ وتفشل في ملاحظة قوة لاهوته. إنه لا يحتاج إلى تقديم فدية لله عن نفسه،… فإنه “لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه غش” (1 بط 2: 21) [267].

القديس باسيليوس الكبير.

  • وكما قال أيضًا النبي معلنًا ذات الشيء: “الأخ لن يفتدى، فهل يُفتدى إنسان؟ كلا، حتى وإن كان موسى أو صموئيل أو إرميا. اسمع كمثالٍ ما يقوله الله في هذا الأمر الأخير:” لا تصلِ لأجل هذا الشعب، فإنني لا اسمع لك “. ولماذا تتعجب إنني لا أسمع لك،” وإن وقف موسى وصموئيل أمامي “[1] لا أقبل طلباتهم عن هؤلاء الناس. نعم، إن توسل حزقيال يُقال له:” وإن وقف نوح ودانيال وأيوب فإنهم لا يخلّصون… “وإن توسل البطريرك إبراهيم لأجل المصابين بمرض مُستعصى شفائه ولا يمكن تغيرهم فإن الله يتركه ويذهب في طريقه (تك 18: 33) حتى لا يقبل صرخته لأجلهم. مرة أخرى إن فعل صموئيل ذلك ُيقال له:” لا تنح على شاول “(راجع 1 صم 16: 1). وإن توسل أحد من أجل أخته وكان الأمر غير مناسب يسمع ذات الإجابة التي قيلت لموسى:” ولو بصق أبوها بصقًا في وجهها “(عد 12: 14) [268].
  • أوضحنا بإسهاب إننا بحسب رآفات الله ومحبته يلزمنا أن يكون لنا رجاء الخلاص في أعمالنا البارة (بنعمة الله) دون حسبان لآبائنا وأجدادنا وآباء أجدادنا، أو أقربائنا وأصدقائنا وعائلاتنا وجيراننا، لأن “الأخ لا يفتدى، فهل يُفتدى إنسان؟”… لقد استجْدَت الخمس عذارى زيتًا من رفيقاتهن ولم يحصلن على شيء. فالإنسان الذي دفن وزنته في الأرض يبدى أعذارًا لكنه يُدان[269].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

سبق أن تحدثنا عن طلب صلوات أو شفاعات الغير بدون التوبة في تعليقنا على (7: 16؛ 11: 14).

إذ يتحدث العلامة أوريجينوس[270] عن قوة الصلاة، يرى في ارتباط شخص صموئيل النبي بموسى النبي هنا يحمل معه ذات الرتبة، هذا الذي أدركت والدته أنها عاقر والتجأت إلى الله بالصلاة فوهبها إيّاه.

يعلن هذا الحديث الإلهي عن عجز البشرية في التشفع في الخطاة حتى يأتي السيد المسيح. جاء في سفر حزقيال: “وطلبت من بينهم رجلاً يبني جدارًا ويقف في الثغر أمامي عن الأرض لكيلا أخربها فلم أجد” (حز 22: 30). لقد جاء ربنا يسوع المسيح، الإنسان الكامل، الذي وقف في الثغرة يشفع في البشرية، وكما جاء في إشعياء: “فرأى أنه ليس شفيع، فخلصت ذراعه لنفسه وبره هو عضده” (إش 54: 16). يقول الرسول بولس: “وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء” (رو 15: 8).

الآن إذ يرفض الله شفاعة أنبيائه عن الشعب يقول: “أطرحهم أمامي فيخرجوا” [1]. إنها تقابل قول إيليا النبي وتلميذه إليشع: “حيّ هو الرب الذي أنا واقف أمامه” (1 مل 17: 1؛ 18: 15؛ 2 مل 3: 14؛ 5: 16)، حيث يعني وجودهما أمام الله الذي يهبهما حضرته كسّر قوتهما؛ يثبتهما ويهبهما حالة القيام بغير انطراح أو سقوط. أما هذا الشعب وقد ارتبط بآلهة غريبة، ووضع ثقته فيها، ومسرته في الشهوات الجسدية والرجاسات، فلا يستحق الوقوف بل يبقى مطروحًا بلا عون، ويُطرد من الحضرة الإلهية… “لأنه أية خلطة للبر والإثم؟! وأيّة شركة للنور مع الظلمة؟! وأى اتفاق للمسيح مع بليعال؟!” (2 كو 6: 14 – 15).

في القديم وهب الله شعبه الخروج exodus، لكي يخرجوا من عبودية فرعون منطلقين إلى الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا، حيث الشبع والحرية. الآن يطردهم من أمامه فيخرجوا exodus، لكنه خروج من حالة الحرية والشبع إلى العبودية لإبليس وشروره وإلى الفراغ.

الأعداد 2-9

2. التأديب:

“ويكون إذا قالوا لك: إلى أين نخرج؟

أنك تقول لهم:

هكذا قال الرب:

الذين للموت فإلى الموت،.

والذين للسيف فإلى السيف،.

والذين للجوع فإلى الجوع،.

والذين للسبي فإلى السبي “[2].

يتساءل الشعب: “إلى أين نخرج؟”، لا في انتظارٍ إلى إجابة، ولا رغبة في تصحيح الموقف، إنما في نوع من التذمر.

يتم التأديب في إحدى الصور الأربع التالية: الموت أو السيف أو القحط أو السبي [2]. هذه الصور تكشف عن عمل الخطية:

أ. أجرة الخطية موت (رو 6: 23؛ تك 2: 17؛ يع 1: 15)، “كما أن البر يؤول إلى الحياة، كذلك من يتبع الشر فإلى موته” (أم 11: 19). بارتكابنا الخطية نعزل أنفسنا عن القدوس مصدر حياتنا، فندخل إلى الموت، الذي أبطله السيد المسيح بصليبه واهب القيامة (1 كو 15: 26).

ب. نسقط تحت سيف كلمة الله (عب 4: 12) الذي يضرب قلب المؤمن ليحطم الخطية ويجرح القلب بجراحات الحب. أما غير المؤمن فتصير كلمة الله التي للحياة هي بعينها للموت، يحطمه السيف، فيفقد سلامه الداخلي.

ج. بالخطية تدخل النفس في مجاعةٍ وقحطٍ لا إلى الخبز المادي، بل إلى كلمة الله، فلا تجد شبعًا في الكلمة ولا عذوبة، وكما قيل: “هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أُرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء، بل لاستماع كلمات الرب؛ فيجولون من بحرٍ إلى بحرٍ، ومن الشمال إلى المشرق يتطَوَّحون ليطلبوا كلمة الرب فلا يجدونها؛ في ذلك اليوم تذبل بالعطش العذارى الجميلات والفتيان” (عا 8: 11 – 13). هكذا تفقد النفس جمالها ونضرة شبابها لتدخل في قبحٍ وعجزٍ دائمٍ!

د. أخيرًا بالخطية نسقط تحت سبي إبليس، نفقد حرية مجد أولاد الله. لهذا جاء السيد المسيح ليُنادي للمسبيين بالعتق، ويقتنيهم لنفسه مسبيين لا للعبودية، بل لحبه الفائق، وكما يقول الرسول: “سبي سبيًا وأعطى الناس كرامات” (أف 4: 8)، واهبًا إياهم شركة الأمجاد الأبدية، حرية مجد أولاد الله (رو 8: 21).

اختيار رقم 4 للتأديب يحمل معنى رمزيًا، إذ يشير إلى التراب أو إلى الأرض بكونها ذات أربع اتجاهات (شرق وغرب وشمال وجنوب)، وكأن ثمر الخطية هو أن يصير الإنسان أرضًا، لا يقدر أن يختبر السمويات.

“وأوكل عليهم أربعة أنواعٍ يقول الرب:

السيف للقتل،.

والكلاب للسحب،.

وطيور السماء ووحوش البرية للأكل والإهلاك.

وأدفعهم للقلق في كل ممالك الأرض “[3 – 4].

كأن الإنسان الذي يقبل الخطية في حياته يصير فريسة لأربعة أمور:

فريسة للموت مع بشاعة الألم حيث تضربه الخطية كما بالسيف.

فريسة للمهانة والخزي، حيث تسحبه الكلاب على التراب، إذ يلتصق القلب بالتراب ويصير ترابًا عوض تمتعه بالملكوت السماوي. وكما قيل: “عار الشعوب الخطية” (أم 14: 34).

فريسة لطيور السماء، أي تفترسه الشياطين، خاصة شيطان الكبرياء.

أخيرًا يصير فريسة لحيوانات البرية التي تشير إلى شهوات الجسد، فتحطمه الشهوات ولا يقدر أن يقاومها.

إذ يسقط فريسة للموت الروحي، ويفقد الكرامة الحقيقية، وتنهشه الشياطين، وتحطمه شهوات الجسد لا يجد راحة أو استقرارًا، بل يصير في قلقٍ في كل ممالك الأرض! يصير مثل قايين الذي بسبب خطيته صار تائهًا على وجه الأرض.

هذه الأنواع من التأديب تشير إلى معاناة جسدية واجتماعية ونفسية. فالسيف يشير إلى المعاناة الجسدية، حيث يُقتل الجسد، أما سحب أجسادهم الميتة بواسطة الكلاب ونهشها بواسطة طيور السماء وحيوانات البرية فيشير إلى المهانة الاجتماعية، حيث تشترك الطيور والوحوش في تحطيم كل ذكرى لهم! كان الدفن في مقابر الأسرة فيه تكريم للميت، أما أن يُترك الميت للكلاب والطيور والوحوش ففيه مهانة بالغة. وأخيرًا المتاعب النفسية إذ يُدفعون للقلق في كل ممالك الأرض.

شعر القديس أغسطينوس بالجوع والعطش، فلجأ إلى الله واهب الشبع والسلام، مناجيًا إيّاه:

[إلهي… لقد جعلت نفسي قادرة على أن تسع جلالك غير المحدود، لئلا يكون لها شيء يقدر أن يملأها سواك!…

إلهي… إنك صنعتنا لأجلك… لذلك يبقى قلبنا مضطربًا، قلقًا، عديم الراحة على الدوام حتى يستريح بك[271]].

ربما يتساءل البعض: لماذا يسلمهم الله للهلاك؟ فيجيب:

“من أجل منسى بن حزقيا ملك يهوذا،.

من أجل ما صنع في أورشليم “[4].

كان حزقيا رجلاً صالحًا، طهّر الهيكل من الرجاسات الوثنية، لكن تبوأ ابنه عرش يهوذا سنة 693 ق. م وهو ابن اثنتى عشرة سنة، واشتهر في أول ملكه بنشر العبادة الوثنية والرجاسات مع العنف وسفك الدماء، فصار الشعب أشر من الأمم (2 مل 21: 2 – 9). ذُكر على وجه الخصوص لأنه كان أشر ملوكهم، أو لأنه مَلَكَ أكثر من غيره، فلم يُنسَ بعد في أيام إرميا (2 مل 21: 10 – 15).

هنا تظهر خطورة القائد، متى تنجس قلبه أفسد المجتمع، فتصير الصلوات (بغير التوبة) مرفوضة، حتى إن قدمها موسى أو صموئيل أو إرميا. لقد حلَّ غضب الله على الجماعة التي أفسدتها القيادة الشريرة.

إن كان النبي قد ألقى بالضوء على خطايا الملوك وعائلاتهم لكنه أكد مشاركة الشعب لهم في خطاياهم، ومسئوليتهم المشتركة معهم، لم يُوجد إنسان واحد بار في يهوذا (5: 1)، فلا يستطيع أحد أن يحتج بأنه هو شخصيًا لا يستحق التأديب. اشترك الكل في الرجاسات والارتداد عن الإيمان بقبولهم العبادة الوثنية جنبًا إلى جنب مع عبادة الله الحيّ. اشترك الكل في عار الأمة، إذ هم وارثون لأمة قاومت الله منذ بدايتها (2: 5 الخ) [272].

“فمن يشفق عليكِ يا أورشليم؟

ومن يعزيكِ؟

ومن يميل ليسأل عن سلامتكِ؟ “[5].

هذا هو عمل الخطية الذي نراه واضحًا في حياة البشرية، الشعور بالعزلة والوحدة. ليس من يقدر أن يشارك الإنسان مشاعره الحقيقية ولا من يعزيه، حتى وإن اجتمع حوله المئات أو الألوف وربما الملايين؛ حتى وإن نال شهوة عالمية أو كرامة فائقة… ففي أعماقه لا يجد من يعزيه ويسأل عن سلامته أو يحييه. هذا ما دفع بعض الممثلين المشهورين الذين نالوا شعبية تقدر بالملايين إلى الانتحار. لأنهم إذ يفقدون الله مصدر تعزيتهم وسلامهم يدركون أن كل من هم حولهم لا يستطيعون أن يهبوهم شبعًا داخليًا، أو سلامًا حقيقيًا أو يحبونهم بإخلاص.

هذا هو علة تزايد نسبة المرضى نفسيًا حتى في البلاد المتقدمة، بالرغم من تكاتف كثير من القوى لإشباع كل احتياجات الإنسان اقتصاديًا وعلميًا واجتماعيًا ونفسيًا… لكن يبقى أمر واحد وهو الاتحاد مع القدوس واهب السلام.

يتساءل إرميا النبي: “من يشفق عليكِ يا أورشليم؟ [5]. إن كنتِ لا تشفقين على نفسكِ، بل سلمتي أعماقك للسيف والجوع والسبي… قبلتي الموت والعار والمذلة، فمن يشفق عليكِ؟ من يقدر أن يعزيكِ؟ من يهتم بكِ ويسأل عن سلامتكِ؟ تأتى الإجابة كما في أغلب الأسئلة الواردة في هذا السفر:” المسيا المخلص! “، هو وحده يشفق على الخاطى، ويهتم به ويعزيه، ويرد له سلامه بعمل صليبه. لم يعد أحد يشفق على أورشليم، أعداؤها يشمتون فيها، وأبناؤها يهلكون، وأصدقاؤها يهربون أمام فادحة الخطر الذي لحق بها.

لا تنتظر يا عزيزي أحدًا يشفق على أورشليمك الداخلية، إلا الله الآب الذي أحبك وأسلم ابنه الوحيد للصليب لأجل خلاص نفسك، فتترنم مع الرسول قائلاً: “الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟!” (رو 8: 32).

من يشفق عليك إلا السيد المسيح مخلصك، وكما يقول الرسول: “من هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالأحرى قام أيضًا، الذي هو أيضًا عن يمين الله الذي أيضًا يشفع فينا” (رو 8: 34). إن التقيت معه الآن بالتوبة تشفق على نفسك. لا تتنظر أبًا أو أمًا أو أخًا أو صديقًا يهتم بخلاصك، بل التقِ به، لأن نفسك ثمينة في عينيه، أعظم من كل العالم! من يعزيك ويهبك السلام الداخلي إلا الروح القدس المعزى، يبكتك على خطية ويقدم لك الغفران، يصالحك مع الآب في استحقاقات دم المسيح!

يعلق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة قائلاً:

[نريد أن نفهم جميع تلك الكلمات المملوءة وعيدًا لأورشليم:

“فمن يشفق عليك يا أورشليم؟!

ومن يعزِّيك؟!

ومن يميل ليسأل عن سلامتك؟!

أنتِ تركتِني يقول الرب.

إلى الوراء سرتِ، فأمد يدي عليكِ، وأهلككِ.

مللتُ من الندامةِ.

وأذريهم بمذراة في أبواب الأرض.

أثكل وأبيد شعبي “.

لقد وَضَعَتْني هذه الكلمات في مأزق، وهو محاولة التوفيق بين صلاح الله ورفضه الرحمة لشعبه.

أقدم مثالاً: لو أن ملكًا حكم على إنسانٍ في مملكته بأنه عدو له، فإنه لا يليق بأي شخص أن يُظهر تعاطفًا مع ذلك العدو أو يبدى أية شفقة عليه، وإذا فعل ذلك حُسب هذا إساءة إلى الملك وإلى أحكامه.

إذا فهمت هذا المثل، أنظر إذن إلى الإنسان المحكوم عليه من قِبل الله من أجل خطاياه الكثيرة، ولاحظ أنه لا يحصل على أية شفقة من الملائكة، رغم أن وظيفة هؤلاء الملائكة هي خدمة الطبيعة البشرية ونجدتها وإنقاذها. لأنه ليس أحد من الملائكة حين يرى أن الله هو القاضي، وأن الذي حمى غضبه هو الخالق، وأن الخطايا وصلت إلى درجة ألزمت الله – إن صح هذا التعبير – الصالح على توقيع الحكم ضد الخاطئ… أن يشفق ولا أن يحزن ولا أن يطلب الرحمة أو السلام من أجل إنسانٍ مثل هذا.

نفترض فعلاً أن أورشليم هذه – لأنها هي المقصودة بالمعنى الحرفي – هي التي أخطأت تجاه السيد المسيح، وعظمت خطاياها أمامه، حتى قال لها: “يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا” (مت 23: 37). وأن أورشليم هذه، هي التي أُهمِلَت وتُرِكَت من الله. وأن الملائكة الذين لم يتوقفوا عن مساعدة أورشليم، والذين من خلالهم سُلِّمت الشريعة لموسى، تركوا أورشليم وقالوا: إن خطاياها أصبحت عظيمة؛ لأن شعبها قتلوا السيد المسيح ووضعوا عليه الأيادي. وحينما كانت خطاياهم قليلة كان في إمكاننا أن نتشفع وأن نطلب من أجلهم، وكان في استطاعتنا أن نشفق على أورشليم، لكن الآن وبعد هذه الجريمة “من يشفق عليكِ يا أورشليم؟” قد أخطأت أورشليم خطية، من أجل ذلك صارت رجسة “(مرا 1: 8).

نعم لنفترض أن أورشليم هذه هي التي قيل لها: “فمن يشفق عليكِ يا أورشليم ومن يعزيكِ؟” يجب علينا نحن أيضًا ألا نشفق على أورشليم ومصائبها، ولا نحزن على ما أصاب شعبها، لأنه: “بزلتهم صار الخلاص للأمم (لنا) لإغارتهم” (رو 11: 11).

انتقل من التفسير الحرفي إلى التفسير الروحي، مُطَبّقًا ما قيل لأورشليم على النفس البشرية. بعدما أخذت التعاليم الإلهية أصبحت أورشليم، التي كانت قبلاً تُدعى “يبوس”… ثم تغير اسمها فيما بعد إلى أورشليم. يقال أن “يبوس” ترجمتها “مَدُوسة بالأَقدام”. إذن، يبوس “النفس المدوسة بالأقدام” من قوات العدو، تغيرت وأصبحت أورشليم “رؤية السلام”. بعدما صارت يبوس أورشليم[273] أخطأت. إن “دست بأقدامك” دم السيد المسيح الذي للعهد الجديد، وإن سقطت في خطايا عظيمة، يقال عنك: “من يشفق عليكِ يا أورشليم ومن يعزيكِ”، طالما وَصَلْتَ إلى حد خيانة مسيحك. كل واحدٍ فينا حينما يخطئ، خاصة الخطايا الجسيمة، يخطئ ضد السيد المسيح نفسه. “فكم عقابًا أشرّ تظنون أنه يحسب مستحقًا من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قُدِّسَ به دنسًا وازدرى بروح النعمة؟ (عب 10: 29). فإن دست ابن الله واستهنت بروح النعمة، من يشفق عليكِ ومن يعزيكِ؟” ومن يميل ليسأل عن سلامتك “؟ إنه ابن الله، الذي خانه الخطاة، هو نفسه الذي سأل عن سلامنا؛ فمَن مِن بعده يستطيع أن يتشفع من أجل سلامنا؟ لندرك جيدًا أن” الذين استنيروا مرة، وذاقوا الموهبة السماوية، وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة، وقوات الدهر الآتي، وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه “(عب 6: 4 – 6). متى أدركنا تلك الكلمات وفهمنا معناها، يلزمنا أن نعمل كل ما في وسعنا لئلا يُقال عنا نحن أيضًا:” من يشفق عليكِ يا أورشليم؟ ومن يعزيكِ؟ ومن يميل ليسأل عن سلامتكِ؟ “[274]].

“أنتِ تركتيني يقول الرب.

إلى الوراء سرتِ،.

فأمد يدي عليكِ وأهلككِ.

مللت من الندامةِ “[6].

إن كان الله قد أخرجها من حضرته لتتقبل ثمر فعلها: الموت أو السيف أو الجوع أو السبي، فإنه لم يفعل هذا من عنده، إنما هي تركته وسارت متراجعة عنه، وقد طال انتظاره لرجوعها وأخيرًا سلمها لرغبتها، فسقطت تحت المرّ.

لئلا يظن أحد أن الله يعاقب الشعب كله من أجل خطايا منسى الشخصية يوجه حديثه إليهم كعروسٍ له، قائلاً: “أنتِ تركتيني” [6]. لقد تحالفتي مع منسى وشاركتيه شره… وانتظرت عودتكِ لكنكِ تشبثتي بترككِ إيّاي.

يترجم البعض “أنتِ تركتيني” هكذا “أعطيتني القفا” [10]، حيث تحمل معنى رفض سلطان الله عليها.

بتركها الرب سارت كالعروس الخائنة التي تسير وراء رجلها متراجعة عنه، لا تريد الالتقاء أو الاتحاد معه. يُستخدم تعبير “الرجوع إلى الوراء” عن العدو المنهزم (مز 9: 4؛ 56: 10)، وكأنها دخلت في عداوة ضد الله فتركته، وأصابتها الهزيمة، وتقهقرت إلى الوراء.

يمد الرب يده أو يبسطها لكي يحتضن النفوس الساقطة الراجعة إليه، يبسطها على الصليب ليضم العالم كله إليه، ويحمله إلى حضن أبيه كشعبٍ مقدسٍ وأمةٍ ملوكية تنعم بشركة المجد الأبدي. أما إن أصرت النفس على عنادها فيصير مدّ يد الرب لهلاكها عوض خلاصها، لأنها ترد الحب بالبغضة وطول أناة الله بالاستهانة.

يقول العلامة أوريجينوس:

[ “أنتِ تركتِني يقول الرب، إلى الوراء سِرتِ”.

لأن مدينة أورشليم – التي تجعلنا نتذكر كل اليهود – تركت الرب، فقد قيل لها: “إلى الوراء سرتِ”.

كان هناك وقت فيه سارت أورشليم إلى الأمام وليس إلى الخلف، أما حاليًا فهي تسير إلى الوراء: “ورجعوا بقلوبهم إلى مصر”. أما بالنسبة لمعنى السير إلى الوراء أو الامتداد إلى ما هو قدام، فنشرحه كالآتي:

الإنسان البار ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام؛ أما الذي يُوجد في وضع مضاد للإنسان البار فإنه يتذكر ما هو وراء ولن يمتد إلى ما هو قدام. وبتذكره لما هو وراء يرفض سماع السيد المسيح القائل لنا: “فلا يرجع إلى الوراء ليأخذ ثوبه”. يرفض سماع السيد المسيح حين يقول: “تذكروا امرأة لوط“. يرفض سماع السيد المسيح القائل: “الذي يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء لا يصلح لملكوت الله”. وفي العهد القديم مكتوب أيضًا أن الملائكة قالوا للوط بعد خروجه من سدوم: “لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك” (تك 19: 17). “لا تنظر إلى ورائك” امتد دائمًا إلى ما هو قدام؛ لقد تركت سدوم، فلا تنظر إذن إليها؛ لقد تركت الشر والخطية فلا تعود بنظرك إليهما؛ “ولا تقف في كل الدائرة”. حتى إذا أطعت الأمر الأول “لا تنظر إلى ورائك”، هذا غير كافٍ لإنقاذك إن لم تطع الأمر الثاني أيضًا: “لا تقف في كل الدائرة”.

إن بدأنا التقدم والنمو الروحي، يجب علينا ألاّ نتوقف في حدود دائرة سدوم، بل نتخطى تلك الحدود ونهرب إلى الجبل. إن أردت ألا تهلك مع أهل سدوم فلا تنظر أبدًا إلى ما هو وراء، ولا تقف في دائرة سدوم، ولا تذهب إلى أي مكانٍ آخر سوى الجبل، لأنه هناك فقط يمكننا أن نخلص؛ الجبل هو ربنا يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين. آمين[275]].

يرى العلامة أوريجينوس في مدّ يد الرب إشارة إلى تجسد الكلمة، حيث مد الآب يده، أي أعلن عن ذاته بتجسد ابنه، مدّها بالحب ليحتضن العالم كله بذبيحته الفريدة.

هل تبحث عن  اليد الممتدة للسماء

هكذا بالتجسد يمد الله يده لنا، فنقول مع القديس يوحنا: “فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا” (1 يو 1: 2). بيده المبسوطة ينال المؤمنون الخلاص بينما يهلك الآشرار المصممون على عدم الإيمان، إذ قيل: “لهؤلاء رائحة موتٍ لموتٍ، ولأولئك رائحة حياة لحياة” (2 كو 2: 16). وكما قال السيد المسيح لغير المؤمنين: “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم” (يو 15: 22).

أخيرًا إذ رفضوا يده الممدودة قال: “مللت من الندامة” [6]. وقد جاءت كلمة “مللت” بمعنى “تعبت”، كأن الله قد انتظر طويلاً لعلهم يرجعون، مشبهًا نفسه بالعريس الذي يمد يده لعروسه الخائنة مترقبًا عودتها، وقد طال انتظاره جدًا.

لعل تعبه يشير إلى أنه في انتظاره لم يكن في موقفٍ سلبي، بل بذل كل الجهد لردها إليه كمن تعب، لأنه يرى هلاكها القادم حيث تلقي نفسها بنفسها فيه. فهو وإن سمح بتأديبها لكنه يتعب إذ يريد راحتها وفرحها وسلامها ومجدها وخلاصها الأبدي.

يرى البعض أن بقوله “مللت من الندامة” [6]، يعني أن الله قد ملَّ من ندامة الشعب الباطلة، إذ يترددون متذبذبين بين الانغماس في الشر والدعاء لله.

تأكيده “أمدّ يدي عليكِ” [6] يوضح أن ما سيحل عليها من أسر البابليين لها لا يرجع إلى قوة بابل وإنما إلى سماح الله لهم بذلك لتأديبها. فالسبي ليس ثمرة معركة بين بابل ويهوذا، إنما هو ثمرة سقوط وانحلال مملكة يهوذا واعتزالها إلهها رب الجنود، مصدر قوتها.

وصفها كعروس خائنة متراجعة أو كمن جعل من نفسه عدوًا لله فتقهقر، ومع ذلك يعمل الله لرجوعها، قائلاً:

“وأذريهم بمذراةٍ في أبواب الأرض.

أثكل وأُبيد شعبي.

لم يرجعوا عن ُطرقهم.

كثرت لي أراملهم أكثر من رمل البحار.

جلبت عليهم على أم الشبان ناهبًا في الظهيرة.

أوقعت عليها بغتة رعدة ورُعبات.

ذبلت والدة السبعة،.

أسلمت نفسها.

غربت شمسها إذ بعد نهار.

خزيت وخجلت.

أما بقيتهم فللسيف أوقعها أمام أعدائهم يقول الرب “[7 – 9].

لا يستبعد أن تكون عبارة “أبواب الأرض” إشارة إلى مجدون بكونها الزاوية الشمالية الغربية من البلاد، دخل فيها وخرج منها جيوش كثيرة عبر التاريخ.

أ. يشبههم بالمحصول الذي ليس فيه حنطة بل كالقش، متى قام المزارع بتذريتهم يحملهم الريح ويبددهم العاصف، هكذا تبددوا إلى بابل في السبي. لا يذريهم في الحقول بل “في أبواب الأرض”، ماذا يعني هذا؟ من كان حنطة يستحق الدخول إلى أبواب صهيون الحقيقية، ليكون في بيت الرب، أما من كان قشًا فيدخل في أبواب الهاوية (إش 38: 10).

ب. يشبّه مملكة يهوذا بسيدة رفضت أن تكون ابنة لله، ففقدها وصار كمن هو محروم من ابنته. تفقد هي أيضًا رجلها وبنيها وُتحرم منهم، فتصير أرملة وثكلى.

في الميثاق المبرم مع إبراهيم ويعقوب كان الوعد أن نسلهما يكون كرمل البحر (تك 22: 17؛ 32: 13)، الآن وقد حقق لهما الوعد كسَر الشعب الميثاق وتعرض الشباب للموت فصارت أراملهم أكثر من رمل البحر.

ج. لا يحدث ذلك تدريجيًا إنما دفعة واحدة في وقت الظهيرة، حتى تصير الأم التي لها سبعة شباب أرملة، تفقدهم معًا فتشتهي الموت، تصير لها الظهيرة ظلامًا، وكأن النور يفارق عينيها.

إذ يشير رقم 7 إلى الكمال، هذا يعني أنها أنجبت كل ما يمكن من الأولاد ولم تعد لديها قدرة بعد على الإنجاب، ومات الكل معًا، خاصة وأنها فقدت رجلها وترملت. هذا ما حوّل ظهيرتها إلى ظلمة!

جاء في تسبحة حنة أم صموئيل: “حتى أن العاقر ولدت سبعة، وكثيرة البنين ذبلت” (1 صم 2: 5). وكأن إنجاب سبعة بنين يحمل علامات البركة (4: 15)، وبالتالي فقدانهم في وقت الظهيرة يحمل معنى اللعنة.

لعله يقصد أيضًا بالظهيرة أن الأرملة تفقد أولادها وهم في ظهيرة عمرهم، أي وهم شباب ناضرون، أو لأن نبوخذنصر سبي يهوذا وهو شاب في ظهيرة عمره. هذا وقد سباها بقوة كما في الظهيرة ولم يأتِ كلصٍ خائفٍ في الليل.

بقوله: “غربت شمسها إذ بعد نهار” [9] تشير إلى حالة الحداد التي صارت فيها مملكة يهوذا، فقد لبست النساء الملابس السوداء بعد قتل الرجال والأولاد، حيث صار الكل أرامل، فصارت المدن في وسط النهار كأنها ليل دامس، لا يُرى فيها غير السواد.

العدد 10

3. انهيار نفسية إرميا إلى حين:

شعر إرميا النبي بالضعف الشديد، فمن جهة كانت كلمة الله كنارٍ في قلبه، لم يحتمل برقة مشاعره ما سيحل بشعبه من قحطٍ ودمارٍ، وحين التزم أن ينطق بها ظنه الشعب أنه قاسى القلب، عنيف، غير وطني. هنا اشتهى إرميا لو لم يُولد.

“ويل لي يا أمي،.

لأنكِ ولدتني إنسان خصام،.

وإنسان نزاع لكل الأرض.

لم أقرض ولا أقرضوني،.

وكل واحدٍ يلعنني “[10].

يعلق العلامة أوريجينوس على العبارات السابقة، قائلاً:

[أما بالنسبة للكلمات: “ويل لي يا أمي…”، فإنني أعتقد أن تلك الكلمات لا تناسب أي نبي آخر ولا توافقه مثلما تناسب إرميا. لم تبدأ نبوة معظم الأنبياء إلا بعد زمنٍ معينٍ، فبعدما تابوا ورجعوا عن خطيتهم أقامهم الله ليتنبأوا، أما إرميا فكان يتنبأ منذ طفولته. ويمكننا أن نستعين بمثال من الكتاب المقدس؛ إن إشعياء لم يسمع من الله تلك الكلمات: “قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيًا للشعوب” (1: 5)، كما لم يقل إشعياء للرب: “إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد” (1: 6). بل حينما رأى الرؤية التي يقول عنها في نبوته، نظر وقال: “ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود” (إش 6: 5)، ثم يقول بعد ذلك: “فطار إليّ واحد من السرافيم وبيده جمرة… ومس بها فمي وقال إن هذه قد مست شفتيك فانتُزِع إثمك وكُفِّر عن خطيتك”. إذن بعدما ارتكب إشعياء الخطايا ثم تاب عنها أصبح مستحقًا أن يأخذ الروح القدس ويتنبأ. تجد أشياء مشابهة بالنسبة لأنبياء آخرين. أما إرميا فلم يكن مثلهم: كان لا يزال في المهد حينما أخذ روح النبوة وتنبأ منذ الطفولة. لذلك عنه قيل: “ويل لي يا أمي لأنكِ ولدتني إنسان خصام وإنسان نزاع لكل الأرض”.

لكن يقول أحد المفسرين الذين سبقوني في تفسير هذا النص كان إرميا يوجه هذه الكلمات ليس لأمه حسب الجسد، وإنما للأم التي ولدت الأنبياء. من هي التي ولدت الأنبياء إلا حكمة الرب؟ ذكر الإنجيل كذلك أبناء للحكمة: “والحكمة تبررت من جميع بنيها” (لو 7: 35).

إذًا مكتوب: “ويل لي يا أمي (الحكمة) لأنكِ ولدتني إنسان خصام (محكوم عليه)”. فمن أنا حتى لا أولد إلا ليكون محكومًا عليّ وأكون مُخاصمًا من الناس بسبب عتابي ولومي لهم، وبسبب تعاليمي التي أعلمها لكل سكان الأرض؟ [276]].

ويل لي يا أمي.

حديثه هنا لا يستلزم أن والدته كانت على قيد الحياة، وأنه يخاطبها، إنما يعلن بطريقة مجازية كيف أنه إن كان قد دُعي للخدمة وهو بعد في الأحشاء (1: 5) رُفض أيضًا منذ البداية. إنها صرخة ليست موجهة إلى أمه بل إلى الله الذي دعاه للخدمة.

يصور لنا إرميا النبي كيف عاش في جوٍ رهيبٍ، فقد تحالف الأنبياء الكذبة مع الكهنة ضده، وأثاروا الملك وكل القيادات حتى الشعب ضده، فضاقت نفسه فيه، وحسب يوم ميلاده كأنه يوم ويلٍ.

إنسان نزاع لكل الأرض.

صار إرميا موضع نزاع العالم الذي حوله، ليس من يسنده ولا من يقبل كلمات الرب التي ينطق بها إلا تلميذه وكاتبه باروخ وربما قلة قليلة جدًا تكاد تضيع وسط التيارات المضادة. شعر أن الكل يلعنوه بدلاً من أن يباركوه، ليس من ينطق بكلمة بركة لأجل اخلاصه! دخلوا معه في خصومة، وقدموا ضده اتهامات لمحاكمته. كان إرميا رجل سلام لكنه إذ نطق بالحق تحول إلى رجل خصام، لأنه لم يكن ممكنًا أن يداهنهم على حساب خلاص نفوسهم وشركتهم مع الله.

هذا هو إحساس الكثيرين عندما يخدمون الرب، فيجدوا عدو الخير قد هيّج العالم الذي حولهم ضدهم! ما حدث لإرميا رجل السلام يحدث لمن يكرز بإنجيل السلام، وكما يقول السيد المسيح: “لا تظنوا إني جئت لألقى سلامًا على الأرض؛ ما جئت لألقى سلامًا بل سيفًا. فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنّة شد حماتها. وأعداء الإنسان أهل بيته” (مت 10: 34، 36؛ لو 12: 49، 51).

إن كان إرميا قد هدد بالتأديبات الإلهية، لم يتكلم من واقع إنسان يعيش في حياة مترفة مدللة، وإنما كرجل آلامٍ وأتعاب، إنه مُجرب يعرف مرارة الألم.

غير أننا نجد في هذه العبارة ظلاً لموقف السيد المسيح الذي وُلد كإنسانٍ وهو ابن العلي، فهاجت الممالك ضده، وتآمر الملوك والرؤساء معًا، وتحالفت قوى القيادات على قتله وأثاروا الشعب طالبين صلبه… حيث “اللعنة” (تث 21: 23؛ غل 3: 13). رأي المرتل بعين النبوة ثورة العالم ضد السيد المسيح، فقال: “لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب في الباطل. قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا، على الرب وعلى مسيحه” (مز 2: 1 – 2). في هذا يحمل إرميا ظل السيد المسيح الذي قيل عنه: “لأنه في ما هو قد تألم مُجربًا يقدر أن يعين المجربين” (عب 2: 18).

يقول العلامة أوريجينوس:

[يذهب أطباء الأجساد إلى المرضى حتى إلى فراشهم ولا يَكُفون عن بذل كل جهدهم، كما تتطلب منهم مهنة الطب، ليشفوا المرضى. وهم في ذلك يرون مناظر فظيعة ويلمسون أشياءً تثير الاشمئزاز؛ وأمام أوجاع الآخرين لا يحصدون لأنفسهم سوى الأحزان؛ حياتهم غير مستقرة أبدًا. لا يوجَدون أبدًا مع أناسٍ أصحاءٍ، وإنما دائمًا مع المجروحين والمفلوجين والمصابين بالقروح والصديد والحميات وكل أنواع الأمراض. إن أردنا أن نمارس الطب، علينا أن نقوم بكل ما تتطلبه منا هذه المهنة التي اخترناها، نقوم بها بدون اشمئزاز ولا إهمال عندما نلتقي بأي نوع من أنواع المرضى الذين ذكرناهم…

الأنبياء مثل أطباء الأرواح، يقضون كل وقتهم حيث يوجد المحتاجون إلى الشفاء، لأنه “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى” (لو 5: 31). ما يقاسيه الأطباء من المرضى المعاندين، يقاسيه أيضًا الأنبياء والمعلمون من الذين لا يريدون أن يُشفوا. يرجع سبب كراهية الناس لهم إلى فرضهم علاجًا يخالف ما يتمناه المرضى، يمنعون عنهم اللذات والشهوات التي يريدونها، لذلك يُصّر هؤلاء المرضى في عنادهم على عدم أخذ الأدوية المناسبة لمرضهم. يهرب المعاندون من الأطباء، بل وكثيرًا ما يسيئون إليهم ويهينوهم ويشتمونهم ويفعلون بهم كل ما يمكن أن يفعله الأعداء. يغيب عن ذهنهم أن الطبيب يأتي كصديقٍ وليس كعدوٍ. لا يرون سوى الجانب المؤلم من نظام العلاج واستخدام المشرط، دون أن يروا النتيجة التي تعقب الألم. يكرهون الأطباء كما لو كانوا لا يحملون إليهم سوى الآلام، ولا ينظرون إلى هذه الآلام كمرحلة من مراحل الشفاء.

كان ذلك الشعب الذي يسمى نفسه شعب الله مريضًا، مصابًا بكل أنواع الأمراض. أرسل الله إليهم الأنبياء مثل الأطباء، أحدهم إرميا. وجه إرميا عتابه للخطاة راغبًا في رجوعهم عن طرقهم. كان ينبغي أن ينصتوا إلى هذه الكلمات، لكنهم اتهموا النبي أمام القضاة والحكام، فكان متورطًا في قضايا مستمرة، اتهمه هؤلاء الذين كان يقوم برعايتهم، أي الذين كان يوجه لهم كلمات نبوته، لكنهم لم يُشفوا بسبب عنادهم. أمام كل هذا كان إرميا يقول: “فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه، فكان في قلبي كنارٍ محرقةٍ محصورة في عظامي” (20: 9).

مرة أخرى يقول حينما يرى نفسه دائم التعرض للقضايا وللاهانات والشكاوى وشهادات الزور: “ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان خصام”. يريد أن يقول عن نفسه، أنه بدلاً من أن يدين الناس على خطاياهم، إذا به يُدان ويُحكم عليه، وبدلاً من أن يقاوم وينازع صار هو نفسه “إنسان نزاع لكل الأرض” [277]].

[لا أستطيع أن أجد تفسيرًا لكلمتي: “لكل الأرض”. لم يصر إرميا إنسان نزاع بالنسبة لكل الأرض، إلا إذا قلنا أن “كل الأرض” يقصد بها كل أرض اليهودية، لأن نبوة إرميا لم تصل إلى كل الأرض حينما كان يتنبأ. لكن أليس من الأفضل أن نفعل كما فعلنا في أجزاء سابقة، فنطبق هذا الكلام على السيد المسيح بدلاً من إرميا؟ توقفت في البداية عند الكلمات التي تقول: “أنظر. قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم، وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس”، لم يفعل إرميا شيئًا من هذا كله، وإنما السيد المسيح هو الذي قلع ممالك الخطية وهدم أعمال الشر، وأقام بدلاً منها مملكة الحق والعدل في نفوسنا. هكذا أيضًا تصلح هذه العبارة لتطبيقها على السيد المسيح أكثر منها على إرميا، ففي نظري يوجد العديد من العبارات التي يمكن تطبيقها على المخلص، لاسيما تلك العبارة التي نحن بصددها “إنسان نزاع لكل الأرض” [278]].

لم أقرض ولا أقرضوني.

أراد السيد المسيح أن يقرض البشرية حياته ويقترض حياتهم، يدخل معهم في ميثاق حب، يقبلونه ميراثًا لهم، ويقبلهم نصيبًا له، لكنهم رفضوا هذا الميثاق، وعوض الحب صار “كل واحدٍ يلعنني” [10].

ربما يقصد بقوله “لم أقرض ولا أقرضوني” [10]، أنه لم يدخل معهم في معاملات مادية، التي غالبًا ما تسبب نزاعات حتى بين الأقرباء والأصدقاء، لكنهم خاصموه بلا سبب. ليس لديه زوجة ولا أولاد لكي يترك لهم ميراثًا، إنما يزهد كل شيء، مع هذا كانوا يلعنوه!

يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة: “لم أقرض ولا أقرضوني” أو “لم اصنع صلاحًا ولم يفعل لي أحد صلاحًا”، قائلاً:

[بما أن المرضى لم ينصتوا إليه حينما نصحهم كطبيبٍ، قال: “لم أفعل صلاحًا”، وبما أنه كان يقرض أمواله الروحية، ولم يريد الذين كان يتوجه إليهم ليعمل معهم الخير وليجعلهم مدينين له بما يسمعونه منه الإصغاء إليه، قال: “لم أُقرض ولا أقرضوني” [279]].

[يوجد في الواقع نصَّان مختلفان لتلك الآية: ففي النسخ التي تتطابق مع النص العبري: “لم أُقرض ولا أقرضوني”…

كان إرميا يكرز بالكلمة، لكن لم ينصت أحد إلى كلامه. كان مثل طبيب يبدد أدويته بسبب عناد مرضاه الذين لا يريدون اتباع علاجه ولا أخذ أدويته.

كطبيبٍ يقول: “لم أفعل صلاحًا ولم يفعل لي أحد صلاحًا”. ربما يرجع سبب التناقض في هذه الآية (لأن إرميا فعل صلاحًا) إلى شعور الحب والوِدّ الذي يحمله الإنسان الذي عُمِلَ معه الصلاح تجاه الإنسان الذي عَمَل له هذا الصلاح. ينتج عن هذا أن الذي يَكرز بالكلمة يأخذ هو أيضًا صلاحًا من كلمته (أي يحصل على حب السامعين له). وكما هو مكتوب: “طوبى لمن يتكلم مع أذنٍ تسمع”. أعظم صلاح يمكن أن يجنيه المعلم من السامعين له هو أنهم ينمون ويتقدمون حتى يكون له ثمر فيهم (رو 1: 13). إذ لم يحصل إرميا على ذلك الثمر (الصلاح) من اليهود، قال: “لم يفعل لي أحد صلاحًا”.

يوجد أيضًا صلاح آخر يمكن أن يحصل عليه كل معلمٍ متى كان تلاميذه أذكياء. إذ يمكن للمعلمين أن يصبحوا أكثر قوة وتتناقل تعاليمهم بواسطة الناس إذا كان السامعون أذكياء ولا يكتفون بمجرد سماع التعاليم إنما يتفاعلون معها ويسألون أسئلة ويستفسرون عن كل جوانب التعاليم التي يسمعونها.

لنفسر نفس الآية من النسخ الأكثر صحة “لم أصر مدينًا لأحد ولا صار أحد مدينًا لي”. الإنسان الذي يعطي الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، الخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام (رو 13: 7)، والذي يؤدى جميع واجباته بصورة لا تجعله مدينًا لأحدٍ، والذي يكرم والديه كما يليق، ويكرم إخوته كما يليق بهم، ويكرم أولاده والأساقفة والكهنة والشامسة والأصدقاء ويعطي لكل إنسانٍ كرامته، مثل هذا الإنسان يمكنه أن يقول “لم أصر مدينًا لأحدٍ”. أما عبارة “ولا صار أحد لي مدينًا” أفسرها كالآتي:

يقول إرميا: كنت أبحث عن مصلحتهم، كنت أحاول أن أعطيهم الغنى الروحي، أما هم فلم يقبلوا كلامي، بل رفضوه حتى لا يصيروا مدينين لي، بذلك “ولا صار أحد لي مدينًا”.

بذلك يكون من الأفضل للسامع أن يقبل المال الروحي المُقَدَّم من المعلم وأن يكون مدينًا، عن ألا يكون مدينًا ولا يستفيد من التعاليم[280]].

العدد 11

4. الله يسند نبيه:

شدد الرب إرميا، مؤكدًا له أنه تكفيه نعمته، ففي الضعف يتبين قوة الله. إنه فتيلة مدخنة يحولها الله إلى نار ملتهبة، وقناة صغيرة يجعل منها ينابيع مياه حية. بهذا يجعل منه الحديد الذي من الشمال، والنحاس الذي لا يقوى إنسان على كسره [11 – 14].

“إن قال الرب: إني أحِلَّك للخير.

إني أجعل العدو يتضرع إليك في وقت الشر وفي وقت الضيق “[11].

يترجمها البعض: “قال الرب:” إني أقسم، إني أسلِّحك حسنًا “، أي أقدم لك سلاحًا تغلب به في المعركة التي أقامها الشعب ضدك، وصاروا كأعداء يطلبون نفسك. لا يعني هنا سلاحًا ماديًا، إنما هو سلاح رمزي، حيث يشعر الشعب بحاجته إلى إرميا الذي طالما أرادوا التخلص منه. ويترجمها آخرون:” إني خدمتك حسنًا “.

ربما تساءل إرميا: إن كان شعبي الذي لأجله أسكب كل حياتي ذبيحة حب، ومن أجله أبكى نهارًا وليلاً ويتوجع قلبي وتئن أحشائي قد دخل معي في خصام وصار يلعنني، فماذا يفعل بي العدو (بابل)؟ جاءت الإجابة من قبل الرب أن العدو سيتضرع إليه وقت السبي ويعامله بكل لطف أثناء الضيق. هذا ما حدث إذ طلب نبوخذنصر من القائد أن يعامل النبي بكل لطفٍ، ويترك له حرية الاختيار إن كان يبقى في بلده أو يذهب مع المسبيين.

إذ تتحقق النبوة ويدرك الشعب الذي دخل في عداوة مع إرميا خطأهم، يلجأون إليه، طالبين صلواته عنهم.

هل يقول السيد المسيح: “ويل لي…”؟

يقول العلامة أوريجينوس:

[ “ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض”. لا يستطيع أي نبي أن يقول “لكل الأرض”. مع ذلك أعرف أناسًا يحبون ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، ويشفقون عليه من الكلمات السابقة ولا يقبلون أن تكون هذه كلمات الرب ينطق بهذا. من أجل ذلك رأيت من اللازم توضيح أنه ليس بالأمر الغريب أن يقول ابن الله “ويل لي” [281]].

[يجب أن نتحدث أولاً بشأن القول “ويل لي”، لأنها تبدو في نظر البعض غير ملائمة للسيد المسيح: أيمكن للمخلص الذي يشفق على الآخرين أن يقول “ويل لي”؟ نوضح ذلك بشواهد من الإنجيل لا يمكن أن تنطبق على أحدٍ سوى السيد المسيح.

كلمات الرثاء “ويل لي” ما هي إلا لإنسان يبكى، وقد بكى المخلص على أورشليم… قائلاً: “يا أورشليم يا أورشليم… الخ.”.

من الواضح أن نفس الشيء قاله المخلص في هذه الفقرة: “ويل لي لأني صرت كجنىَ الصيف، كخصاصة القطاف، لا عنقود للأكل، ولا باكورة تينة اشتهتها نفسي. قد باد التقي من الأرض وليس مستقيم بين الناس، جميعهم يكمنون للدماء” (ميخا 7: 1 – 2)، جاء في وقت الحصاد ليحصد قمحًا، فلم يجد سوى مجموعة من الخطاة الذين نموا وكثروا.

نطق السيد المسيح بكلمات مشابهة حينما تحدث مع الآب قائلاً: “ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة (إلى الجحيم)” (مز 30: 9)، لماذا فعلت كل هذا الصلاح مع بني الشر؟

ما الذي فعلوه ليستحقوا دمي الذي سُفك من أجلهم؟

ما الفائدة من دمي ومن نزولي؟!

لقد نزلت من السماء وجئت إلى الأرض وسلمت نفسي للفساد فلبست جسدًا بشريًا، فما هي الأعمال الصالحة التي عملها الإنسان حتى يستحق كل ذلك؟

“ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة؟! هل يحمدك التراب؟! هل يخبر بحقك؟!”.

في جميع هذه الأقوال نجد تشابهًا بينها وبين ما قاله المخلص: “ويل لي يا أمي لأنكِ ولدتني”، لا يقول ذلك بوصفه الإله أو المخلص، بل يقوله كإنسان.

نفس الشيء حينما يقول: “ويل لي يا نفسي، قد باد التقي من الأرض”. كانت نفسه نفسًا بشرية، لهذا اضطربت (يو 12: 27)، وحزنت (مت 26: 38)، لكن الكلمة الذي كان في البدء عند الله لم يضطرب، ولا يمكن أن يقول عن نفسه: “ويل لي”. لأن كلمة الله لا يموت أبدًا، الذي يموت هو الجسد الذي أخذه[282]].

لماذا قال النبي: ويل لي يا أمي؟

يرى العلامة أوريجينوس إنها دعوة لكي نتألم مع الأنبياء فنطوَّب معهم!

[الذين يطوبون الأنبياء ويتمنون أن يكون لهم نصيب معهم يلزمهم أن يتأملوا في الاعلانات النبوية ليكتشفوا سمو النبوات والأنبياء. عندما يتأملون في ذلك يقتنعون أنهم لو عاشوا حياتهم بنفس المقاييس التي اتبعها الأنبياء – رغم قسوتها بالنسبة لهم في هذه الحياة – ينعمون بالراحة والتطويب مع هؤلاء الأنبياء.

توجد في الكتاب المقدس مواضع كثيرة يمكننا أن نجد فيها ما يدل ويشهد على سمو مكانة الأنبياء وقوتهم وحريتهم ويقظتهم وروحهم النشطة، ونرى أنهم لا يضطربون حينما يقعون في تجارب أو متاعب وذلك بسبب حريتهم واستقلالهم الداخلي، فبوصفهم أنبياء يقولون كلمة الله، ويوبخون الناس ويلومون الخطاة بكل صراحةٍ وبكل حزمٍ، حتى إن بدى هؤلاء الخطاة أقوياء وعنفاء جدًا. يمكننا أن نجد هذه الدلائل والشهادات في مواضعٍ عديدة، فإننا نجد في آيات هذا اليوم أيضًا بعضًا من تلك الدلائل.

عاش إرميا النبي في وسط خطاة كثيرين جدًا، والدليل على ذلك حدوث السبي في عهده. لقد أنذر كثيرين ووبخ كثيرين ووجه كلامه إلى كثيرين وبسبب هذا كل حُكِمَ عليه من كثيرين، مما جعل كلماته تأخذ هذه النغمة.

لنبدأ إذن بكلمات النبي نفسه لنرَى هل يوجد عنده القوة والنشاط والحرية واليقظة والجرأة وغيرها من الصفات التي ينبغي أن تتوفر في النبي.

“ويل لي يا أمي، لأنك ولدتني إنسانًا محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض”: يقول النبي: آه يا أمي، لماذا جئتِ بي إلى العالم كرجلٍ محكومٍ عليه ورجل نزاع أمام كل الناس الذين على الأرض؟

هذا النبي مثله مثل إشعياء والأنبياء الآخرين، كان عليه أن يتمم وظيفته كنبي: يعلم وينذر ويوبخ. ويترتب على قيامه بهذه الوظيفة وإدانته للخطاة وحكمه عليهم أنه هو نفسه يُحكم عليه ويُحاكم مع الخطاة.

إن كان يجب علينا أن نذكر كل ما الشعب بالأنبياء، فإليكم هذه الأمثلة: لقد رجموا واحدًا، وقتلوا آخر بين الهيكل والمذبح، ونشروا ثالثًا، أما إرميا فألقوه في جبٍ لأنه كان ينذرهم. أيضًا مخلصنا الذي سلك بالأخص مثل الأنبياء، بل وأفضل منهم، إذ هو رب الأنبياء فعلوا به هكذا. إن كان السيد المسيح قد جُلِد وصُلِب وأُسلِم من اليهود ومن رؤسائهم ومن رئيس هذا العالم، فلأنه قال لهم: “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيين المرائين” وظل يردد هذه الكلمة “ويل لكم” في كل مرة يوبخهم على شيء. نحن أيضا، إن أردنا أن نصل إلى التطويبات التي وُعد بها الأنبياء نسلك مثلهم، بحيث أننا من كثرة كلامنا وإنذارنا للخطاة ووقوعنا تحت الحكم بسببهم نقول: “ويل لي يا أمي، لأنك ولدتني إنسانًا محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض”.

مع ذلك فإن هذه الكلمات يمكن أن تكون أكثر ملائمة إذا اعتبرنا أن المخلص هو الذي نطق بها. إن افترضنا أن النبي هو الذي نطق بها لن تكون صحيحة تمامًا بل تحمل شيئًا من المبالغة؛ فهو لم يصر إنسان نزاع “لكل الأرض”. أما بالنسبة لمخلصنا نرى أن ربنا ومخلصنا يقف أمام الآب ليُحَاكَم معنا كلنا نحن البشر؛ خصوصًا بسبب تلك الكلمات: “لكي تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت”. نعم لقد حُوكم مع كل الناس. وأقول أيضًا: حُوكم وفُحِصَ هو أيضًا ووقف أمام الحكم لكي يدافع عن الحق، لا ليدين أو يتهم أحدًا[283]].

هل تبحث عن  هتشوف ربنا بنفسه

مسيحنا يُحكم عليه فينا.

يقول العلامة أوريجينوس:

[ “لأنكِ ولدتني إنسان خصام (محكوم عليه) وإنسان نزاع لكل الأرض”. أنظر إذًا إلى الشهداء في كل مكان كيف حُكِم عليهم ووقفوا أمام القضاة، ترى كيف أن السيد المسيح هو الذي كان يُحكَم عليه في كل واحدٍ من هؤلاء الشهداء. لأنه هو الذي يُحكم عليه في هؤلاء الذين يشهدون للحق (يو 18: 37). من أجل ذلك ترضى أن تكون مُتَّهَمًا ومحكومًا عليك حينما تراه يقول إنك لست أنت المسجون بل أنا، لست أنت الجائع، بل أنا. “لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبًا فآويتموني، عريانًا فكسوتموني، مريضًا فزرتموني، محبوسًا فأتيتم إليّ” (مت 25: 36).

يكفي أن يُوضع إنسان مسيحي تحت الحكم، ليس بسبب أخطاء شخصية، وإنما لأنه مسيحي، عندئذ يُحكم على السيد المسيح لا عليه، بذلك أصبح السيد المسيح بالفعل إنسانًا محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض “.

في كل مرة يُحكم على إنسانٍ مسيحي يُحكم على السيد المسيح نفسه وليس فقط في قضايا من هذا النوع (أي الشهادة للحق). نفترض أن مسيحيًا أُتهم ظلمًا بأي شيء وحُكِم عليه باطلاً، ففي ذلك يكون السيد المسيح هو الذي حُكِم عليه باطلاً[284]].

عدم الإيمان هو حُكم على المسيح.

يقول العلامة أوريجينوس:

[ “لأنكِ ولدتني إنسانٍا محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض”. إليك أيضًا طريقة أخرى لفهم هذه الآية.

منْ ِمنَ الناس لا يحكم على عقيدة المسيحيين؟

منْ ِمنَ الشعوب لا يتفحصها بأساليب معقدة؟

منْ ِمنَ اليهود واليونانيين لا يتحدث عن المسيحيين؟

منْ ِمنَ الفلاسفة ومنْ ِمنَ الناس لا يتناقش في أمر المسيحية؟

السيد المسيح محكوم عليه ومقضي عليه في كل مكان، البعض يدينوه في حكمهم والبعض لا يدينوه. بالنسبة للذين لا يدينوه من السهل عليهم قبوله؛ يفتحون له الباب فيدخل (رؤ 3: 20)، وبالتالي يؤمنون به. إن لم يقبله الناس عند سماعهم عن التعاليم المسيحية، فإن عدم قبولهم له ما هو إلا إدانة للسيد المسيح واتهام ضده بأنه يُضل الناس ولا يقول الحق، طالما لا يؤمنون بتعاليمه.

جميع الذين يرفضون أن يؤمنوا به يحكمون عليه ويدينوه، وجميع الذين تساورهم الشكوك من جهته – دون أن يرفضوا الإيمان – يتنازعون بشأنه.

إذا حملت صورة السماوي وخلعت عنك صورة الترابي، لن تكون بعد ترابًا تدينه، ولا أرضًا يُدان فوقها، لن تكون أرضًا ينازعونه عليها[285]].

قوة الله تزداد وتضعف فينا.

يقول العلامة أوريجينوس:

[ “وكل واحدٍ يلعنني” أو “ضعفت قوتي أمام الذين يلعنونني”.

يقول بولس الرسول عن المخلص إنه قد صُلب عن ضعف (2 كو 13: 4). كما يقول أيضًا إشعياء النبي عنه: “يارب من صدق خبرنا؟! ولمن استعلنت ذراع الرب؟! نبت قدامه كفرخٍ وكعرقٍ من أرضٍ يابسة. لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن وكَمُستِّر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به. لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبجراحاته شُفينا” (إش 53: 1 – 5). حمل ضعف خطايانا وحملنا نحن أيضًا، جاء إلى الذين يلعنوه، وحينما نزل من السموات ضعفت قوته أمام الذين يلعنوه، لأنه كما يقول الرسول: “أخلى نفسه آخذًا صورة عبد” (في 2: 7).

“ضعفت قوتي أمام الذين يلعنونني”.

أحاول بنعمة الرب أن أقدم تفسيرًا أوضح لتلك الآية وأفضل مما سبق. “كان النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسان آتيًا إلى العالم” (يو 1: 9). ابن الله هو النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسانٍ آتيًا إلى العالم، وكل إنسانٍ عاقلٍ ينتمي إلى هذا النور الحقيقي، غير أن كل البشر عاقلون. كل البشر ينتمون إلى الله الكلمة، لكن بعضهم يرى أن قوة المخلص زادت والبعض الآخر يراها ضعفت.

لو نظرت إلى نفسٍ وقعت فريسة للشهوات والخطايا ترى قوة المخلص تضعف، بينما لو نظرت نفسًا بارة وتقية، ترى قوة المخلص تثمر فيها من يومٍ إلى يومٍ؛ حينئذ يمكن تطبيق ما قيل عن السيد المسيح، على النفوس البارة: “وكان يسوع ينمو في الحكمة والعمر والنعمة أمام الله وأمام الناس”.

يقول الكلمة ابن الله: “ضعفت قوتي أمام الذين يلعنونني”. إذا لعن أحد الابن الكلمة ينال عقابه على هذه اللعنة وعلى انتقاده تعاليم السيد المسيح، ويتمثل هذا العقاب في أن قوة السيد المسيح تضعف عند هذا الإنسان، بل وتُنتزع منه تمامًا. والعكس صحيح، إذا بَاركْتَ السيد المسيح وقبِلْته تنمو قوته وتزيد فيك[286]].

مسيحنا الشفيع في مضايقيه.

يقول العلامة أوريجينوس:

[ “فلتأتِ يارب، إذا سلكوا بالاستقامة، ألم أقف أمامك في وقت شدتتهم؟” (15: 11 LXX).

“فلتأتِ يارب”: ما هي هذه التي تأتي؟ نضيف بقدر استطاعتنا بعض كلمات بعد “فلتأتِ” لنوضح معنى الآية. نقول: “يارب، إذا سلكوا بالاستقامة فلتأتِ فيهم القوة التي ضعفت عندهم حينما لعنوني”، حتى بعدما نطقوا بالشر عليّ ثم تابوا، يسلكون في الطريق المستقيم ويتبعونه.

يبرر موقفه حينما يتحدث عن الذين ينطقون عليه شرًا: “ألم أقف أمامك في وقت شدتهم؟” وقف السيد المسيح أمام الآب وقدم نفسه كفارة لخطايانا (1 يو 2: 2)، وتشفع من أجلهم في وقت شدتهم. إنه لا يقف أمام الآب بعد انتهاء شدتنا، بل أن “المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل الفجار” (رو 5: 6). “ألم أقف أمامك في وقت شدتهم وفي وقت ضيقتهم لأنقذهم من أمام وجه العدو”: حتى في وقت ضيقتهم، وقت تعرضهم لمواجهة العدو، وقفت أمامك لكي أدافع عنهم.

ومن هو هذا العدو إلا “إبليس خصمنا” (1 بط 5: 8)، الذي يضايقنا؟

من الواضح أنه في وقت عداوة الشيطان للإنسان وقف مخلصنا أمام الآب وصلى وطلب من أجلنا نحن المأسورين حتى يفتدينا من عبودية العدو[287]].

نزع النبوات (الكنوز) عنهم.

يقول العلامة أوريجينوس:

[سواء كانت هذه الكلمات خاصة بالمخلص أو بإرميا، لأن إرميا يمكن أن ينطق أيضًا بهذا الكلام ويصلي من أجل الشعب في وقت شدتهم، فإن الرب يجيب بعدها على الشعب المُتهم من قِبَل النبي أو من قِبَل السيد المسيح، قائلاً: “هل يكسر الحديدُ الحديدَ الذي من الشمال والنحاس” أو “إن قوتك هي مثل الحديد والنحاس”، صلبة وعنيدة وجامدة؛ مثل هذه القوة تقطع وتقسم، لأنها ليست قوة لفعل الخير.

“ثروتك وخزائنك أدفعها للنهب لا بثمن بل بكل خطاياك” [13]. ما هي ثروات الخطاة التي يدفعها الله للنهب في مقابل كل خطاياهم؟ هل الثروات التي يجمعونها على الأرض؟ كل إنسان في الواقع يكنز لنفسه، إما على الأرض إن كان إنسانًا شريرًا، أو في السماء إذا كان إنسانًا صالحًا، كما يخبرنا الإنجيل (مت 6: 19 – 20). هل يقول لهذا الشعب: إنه بسبب خطاياكِ أدفع خزائنك وثرواتك للنهب، قاصدًا بتلك الثروات الأنبياء مثل إرميا وإشعياء وموسى؟! لقد نزع الله هذه الكنوز عن هذا الشعب، وقال من خلال السيد المسيح: “إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره” (مت 21: 43). هذه الأمة هي نحن، فقد دفع الله ثروات هذا الشعب (الأنبياء) إلينا.

هم أُستؤمنوا على أقوال الله أولاً (رو 3: 2)، ثم أُستؤمنا نحن من بعدهم على هذه الأقوال؛ فقد نُزعت منهم وأُعطيت لنا. كذلك يمكننا أن نقول أن عبارة: “ملكوت الله يُنزع منكم وُيعطى لأمة تعمل أثماره” التي قالها المخلص تحققت فيه. ليس أن الكتاب المقدس نُزِع منهم، بل أنهم حاليًا لا يملكون الناموس ولا الأنبياء لأنهم لا يفهمون ولا يُدركون المكتوب فيه. توجد عندهم الكتب، لذلك فإن ملكوت الله الذي يُنزع عنهم هو “معنى الكتب المقدسة”. إنهم لا يهتمون بمعرفة أي شرح للناموس والأنبياء، لكنهم يقرءونه دون فهم. وبمجيء السيد الرب تحققت بالفعل النبوة التالية: “فقال إذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعًا ولا تفهموا وأبصروا إبصارًا ولا تعرفوا. غلظ قلب هذا الشعب” (إش 6: 9 – 10؛ مت 13: 14 – 15). كما تحققت أيضًا نبوة إشعياء: “فإنه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ومن يهوذا السند والركن، كل سند خبز وكل سند ماء. الجبار ورجل الحرب، القاضي والنبي، والعراف والشيخ، رئيس الخمسين والمعتبر والمشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية” (إش 3: 1 – 3). كل هذا قد نزعه الله منهم ودفعه لنا نحن الذين جئنا من الأمم…

يقول: “لا بثمنٍ بل بكل خطاياكِ وفي كل تخومكِ”، كأنه يقول لهذا الشعب: أن خزائنك وثروتك أدفعها للنهب بسبب خطاياكِ التي ملأت كل تخومك، لأنه لا يوجد مكان عند هذا الشعب لم يمتلئ بالخطية. كيف لا تمتلئ كل تخومهم بالخطايا وهم الذين قتلوا الحق، بما أن السيد المسيح هو الحق، وقتلوا الحكمة، بما أن السيد المسيح هو الحكمة، وقتلوا العدل، بما أن السيد المسيح هو العدل؟ بحكمهم على ابن الله بالموت فقدوا كل ذلك الحق والحكمة والعدل. وحينما قام رب المجد يسوع من بين الأموات لم يظهر أبدًا للذين قتلوه… إنما ظهر فقط للذين آمنوا به، ظهر لهم وحدهم حين قام من الأموات.

“وأُعبِّرُك مع أعدائك (وأخضعك للعبودية في وسط أعدائك) في أرض لم تعرفها، لأن نارًا قد اشتعلت بغضبي تُوقد عليكم” [14]. لقد أُخضع هذا الشعب بالفعل للعبودية في وسط أعدائه وفي أرض لم يعرفها. وبعد كلام التهديد هذا الموجه للشعب، يواصل إرميا أو السيد المسيح صلاته ويضيف إلى أقواله السابقة هذه الكلمات: “أنت يارب عرفت. أذكرني وتعهدني وانتقم لي من مضطهديَّ. بطول أناتك لا تأخذني” أو “لا تكن طويل الأناة عليهم” (LXX).

يمكن أن يكون إرميا هو الناطق بهذا الكلام، بما أنه اُضطُهِد من الذين كان يعاتبهم، وكان مكروهًا من الذين لم يقبلوا الحق. ويمكن أيضًا أن يكون مخلصنا هو المتكلم حيث أُضطهد أيضًا من هذا الشعب.

ثم يضيف “ولا تكن طويل الأناة عليهم”، ماذا تعني هذه الكلمات؟ لقد كُنتَ دائمًا طويل الأناة أمام خطايا هذا الشعب، ولكن أمام كل هذه الجرائم التي تجرءوا وارتكبوها ضدي، فلا تكن طويل الأناة عليهم.

بالفعل لم يكن الله طويل الأناة. لو نظرت إلى تاريخ عذاب هذا الشعب، أي تاريخ سقوط أورشليم وخرابها، وإلى الطريقة التي ترك بها الله هذا الشعب لأنهم قتلوا السيد المسيح، تدرك أن الله لم يستخدم طول أناته مع هذا الشعب! أو إذا شيئت فاستمع إلى هذا: أنه منذ السنة الخامسة عشرة لملك طيباريوس قيصر (أي منذ بداية عمل السيد المسيح وكرازته) (لو 3: 1)، وحتى وقت خراب الهيكل، لم يمضِ سوى 42 سنة فقط!

وكانت تلك الفترة بمثابة “وقت” منحه الله للتوبة، خاصة توبة بعض الناس من ذلك الشعب، وهم اليهود الذين دخلوا إلى الإيمان بعد رؤيتهم للآيات والعجائب التي صنعها الرسل[288]].

الأعداد 12-14

5. سبي الشعب:

“هل يكسر الحديدُ الحديدَ الذي من الشمال والنحاس؟

ثروتك وخزائنك أدفعها للنهب،.

لا بثمن، بل بكل خطاياك وفي كل تخومك،.

وأعبرك مع أعدائك في أرض لم تعرفها،.

لأن نارًا قد أُشعلت بغضبي توقد عليكم “[12 – 14].

يرى البعض أن الحديد الذي من الشمال هو المستورد من منطقة البحر الأسود، وهو من نوع جيد، يُستخدم في صنع الأسلحة. كأنه يقول لمملكة يهوذا بكل قياداتها وشعبها: إن كنتِ تظنين إنك كالحديد، لكنك لا تقدرين أن تقفي أمام بابل التي جعلتها كحديدٍ قوى ونحاس. لا تستطيعين الوقوف أمام تأديبات الرب. لا تنفعك قوتك ولو كانت كالحديد، ولا ثروتك أو خزائنك، فإنها تُنهب بيد العدو… خطاياكِ تدفعك إلى يد العدو لتُساقي إلى أرض السبي، إلى أرض غريبة لم تعرفيها من قبل… هذا كله لأنكِ إقتنيتِ نار غضبي عوض نار محبتي!

حينما يسلم الإنسان نفسه للخطية يفقد حتى ثروته وخزائنه، أي الفضائل الطبيعية، “لأنه كل من له يُعطى فيزداد، ومن ليس له فالذي عنده يُؤخذ منه” (مت 25: 29). من يترك الله يتركه الله للنهب فيفقد كل ما لديه.

عمل الخطية هو أنه يسحبنا من أرضنا إلى أرض السبي، ينتزعنا عن أرض الحق لندخل إلى مذلة العبودية التي لا تعرف إلا العنف والكذب والخداع.

بقوله: “هل يكسر الحديد الحديد الذي من الشمال والنحاس؟” [12] يعني أن نير بابل الذي وضعه على عنق يهوذا من الحديد لا يُمكن كسره… غير أنه في الوقت المناسب يعطيهم الرب رجاءً في كسر النير، إذ قال حنانيا النبي لإرميا النبي: “هكذا تكلم رب الجنود إله إسرائيل قائلاً: قد كسرت نير ملك بابل” (28: 2). كما أخذ حنانيا النبي النير عن عنق إرميا وكسره، وتكلم أمام كل الشعب قائلاً: “هكذا قال الرب: هكذا أكسر نير نبوخذنصر ملك بابل” (28: 10 – 11). في البداية لم يسمح بكسر النير لتأديب شعبه إلى حين، لكنه لا يترك شعبه هكذا، إنما يعطيهم الفرصة ليتمتّعوا برجاء الخلاص وتحريرهم من السبي البابلي.

يرى البعض أن “الحديد” هنا يشير إلى إرميا في يأسه[289]، فقد جعله الله أسوار نحاس ضد كل الأرض (1: 18) لكنه إذ سقط في اليأس المُرّ صار كالحديد، فهل يظن أنه يستطيع أن يجابه بحديد يأسه الحديد الذي من الشمال والنحاس. وكأن الله يؤكد له أن اليأس لن يُقدم له حلاً للمشكلة، بل الالتقاء مع الله.

فقدت مملكة يهوذا ثروتها وخزائنها هذه التي تدنست برجاسات وثنية، أما إرميا فكان الرب نفسه هو ثروته وكنوزه لا يقدر عدو ما أن ينهبها منه.

سنعود إلى الحديث عن الثروة والخزائن فيما بعد إن شاء الرب (راجع تفسير إر 17: 3).

الأعداد 15-18

6. تعزيات وسط الآلام:

“أنت يارب عَرَفْتَ.

اذكرني وتعهدني وأنتقم لي من مضطهديَّ.

بطول أناتك لا تأخذني.

اِعْرِف احتمالي العار لأجلك.

وُجد كلامك فأكلته،.

فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي.

لأني دُعيتُ باسمك يارب إله الجنود “[15 – 16].

كان إرميا النبي في حاجة إلى تعزيات سماوية وسط المُرّ الذي يعيش فيه، إذ كان محصورًا بين تطلعه إلى شعبه وهو يسقط تحت تأديبات قاسية وربما إلى هلاك أبدى إن أصر على شره، وبين مقاومة الكثيرين له.

أما تعزيات الله فمصدرها الآتي:

أ. أنه موضوع معرفة الرب.

يقول: “أنت يارب عرفت” [15].

في وسط الضعف نشعر كأن الأمور تسير اعتباطًا بلا خطة، لكن إرميا أدرك بإيمانه أن الله يعرف كل شيء، وليس شيء خفيًا عنه. حياته وحياة البشرية كلها في يد ضابط الكل، الذي يعرف كيف يحول حتى المُرّ إلى عذوبة.

“أنت يارب عرفت” [15].

أنت يارب تعرف مالا يخطر ببال أقرب الناس إليّ،.

وما لا أجسر على النطق به،.

وما أتحاشى أن أردده حتى في أعماق نفسي.

أنت تعرف حبي لك ولشعبك.

أنت تعرف مرارة نفسي وذوبانها لأجل خطايا بنت شعبي.

أنت تعرف إني أحترق بنار كلمة التأديب.

أنت تعرف ضعفي وعجزي التام عن تحقيق رسالتي!

ماذا أفعل إن تركتني أعمل بطاقاتي ومشاعري البشرية؟!

ب. موضوع تذكر الله ورعايته.

“اذكرني وتعهدني وأنتقم لي من مضطهديّ” [15].

كثيرًا ما يشعر الإنسان بالعزلة، وإهمال الكل له، وعدم مشاركة أحد له، لكن يكفيه أن يجد الله نفسه يذكره ويتعهده ويدافع عنه ضد مضطهديه.

يقصد بالمضطهدين هنا الأنبياء الكذبة الذين يدفعون الشعب إلى الهلاك. أما بالنسبة لنا فنرى في المضطهدين، ليس أبناء البشر، بل عدو الخير وأعماله الشريرة وحيله الخبيثة.

في وسط آلامه ربما عانى إرميا إلى حين من الشعور بالعزلة، مع إحساسه أنه منسى من أحبائه، وموضع سخرية الأشرار. لكنه في يقين الإيمان يُشبع الله كل احتياجاته: يذكره ويتعهده وينتقم له.

الله الذي عرفه وهو في البطن وذكره وتعهده وقدسه للعمل كنبي بين الشعوب يبقى يذكره ويتعهده وينتقم له حتى في أحلك اللحظات، ليس انتقامًا من أعداء شخصيين بل من مقاومي الحق الإلهي.

في الأصحاح العشرين نرى فشحور الكاهن يضرب إرميا ويضعه في المقطرة، ولكن مسكين فشحور الذي صار اسمه “مجور مسا بيب” (20: 3) أي المخيف لنفسه ولمحبيه! ما فعله لم يُرعب إرميا بل ارتد على نفسه وعلى محبيه المساعدين له في مقاومته لكلمة الرب.

ما نريد تأكيده أن الله يتذكرنا ويتعهدنا ويعمل بنا إن كنا به لا نرتعب ولا نخاف، لأنه هو عامل بمؤمنيه المتكئين عليه وسط تيارات العالم.

التذكار هنا لا يعني مجرد تذكار لأحداث ماضية، إنما هو استرداد للأحداث الماضية بطريقة عملية معاصرة. وكأن إرميا يطلب من الله أن يذكر من الماضي ما يعرفه عن إرميا ليعمل في حياته الحاضرة ويُنجح رسالته.

والتعهد هنا يعني “الافتقاد”، وهو افتقاد إلهي لا ليدين بل ليخلص خدامه العاملين حسب مسرته.

ج. طول أناة الله.

لا يحمل إرميا النبي كراهية ضد إنسان، وإن طلب النقمة إنما يشتهى تأديب مقاومى الحق لأجل توبتهم ورجوعهم إلى الله… يشعر إرميا بضعفاته، لذلك لا يتحدث من موقع المعلم المتكبر أو الذي يشعر ببرٍ ذاتي، إنما من مركز الإنسان المحتاج إلى طول أناة الله، فيقول: “بطول أناتك لا تأخذني” [15].

في لحظات الضعف واليأس صرخ إرميا: “ويل لي يا أمي، لأنك ولدتيني إنسان خصام” [10]، لكنه إذ يكتفي بالله ويطلب منه أن يذكره ويتعهده… أي يعطيه قوة للعمل لحساب ملكوته يسأله ألا يتعجل أخذه من العالم حتى يحقق رسالته التي ائتمنه الله عليها، قائلاً: “بطول أناتك لا تأخذني” [15].

لنطلب شركة العار والآلام!

يقول العلامة أوريجينوس:

[ “اعرف احتمالي العار لأجلك” [16] أو “اعرف إنني شُتمتُ من أجلك من الذين يرفضون كلامك” (LXX). لنفترض أن النبي هو الذي يتكلم، بالفعل كان محتقرًا من الناس بسبب ما كان يتكلم به، إذ كان الخطاة يرفضون سماعه؛ لذلك قال: “صرت للضحك كل النهار” (20: 7). كان يُشتَم من أجل الكلام الذي كان يقوله الرب على لسانه، وكان يُصلي بسبب هذه الشتائم الواقعة عليه لكي ينقذه الله ويساعده، قائلاً: “اعرف إنني شُتمت من أجلك من الذين يرفضون كلامك”. يضيف أيضًا طالبًا من الله: “أفنهم” [15] (LXX). نفترض أن إرميا هو الذي يقول “أفنهم”، وإن كنت أعتقد أن هذه الكلمة توافق بالأكثر السيد المسيح، حيث تحققت طلبته، فكان فناء عظيم لمنطقة أورشليم وللشعب، بعدما تآمروا على المخلص وقتلوه.

إذ تألم الأنبياء كثيرًا بسبب توبيخاتهم للشعب، وبكونهم سفراء الكلمة حينما ينطقون بما يأمرهم به الله، من الضروري أن نذكّر السامعين ما هي حياة الأنبياء، وما هي الوعود التي أخذوها، وأيضًا نُذكّرَكُم أن الاختيار متروك لنا، فإن أردنا أن تكون لنا راحة في أحضان هؤلاء الأنبياء، يجب علينا – على قدر استطاعتنا – أن نعمل الأعمال التي عملوها.

ما أريد أن أقوله لكم يتلخص في الآتي: كثيرًا ما نقول في صلواتنا: يا الله القوي، اعطنا أن تكون لنا شركة (نصيب) مع الأنبياء، اعطنا أن تكون لنا شركة مع رسلك، لكي نوجد مع ابنك الحبيب يسوع المسيح. لكننا لسنا ندرك ماذا نطلب، لأن هذا الكلام معناه: يارب اعطنا أن نتألم كما تألم الأنبياء، اعطنا أن نكون مكروهين مثلهم، اعطنا أن نبشر بكلمات يضطهدنا الناس بسببها، اعطنا أن نسقط في مؤامرات كثيرة كما حدث للرسل. فإنه لا يليق بنا أن نقول: “اعطنا يارب شركة مع الأنبياء”، ونحن لا نتألم مثلهم ولا نريد أن نتألم. لا يليق بنا أن نقول: “أعطنا يارب شركة مع رسلك”، ونحن غير مستعدين أن نقول بكل صراحة مع بولس الرسول: “في الأتعاب أكثر، في الضربات أوفر، في السجون أكثر، في الميتات مرارًا كثيرة” (2 كو 11: 23).

إذ نريد أن يكون لنا نصيب مع الأنبياء، لننظر إلى حياتهم، وإلى ما قاسوه من أتعاب وآلام بسبب توبيخاتهم للشعب؛ “رُجموا، نشروا، جربوا، ماتوا قتلاً بالسيف، طافوا في جلود غنم وجلود معزى، معتازين، مكروبين، مذلّين، تائهين في برارى ومغاير وشقوق الأرض” (عب 11: 37 – 38).

إذن لا عجب إن تعرضنا إلى الافتراء والبغضة والاتهامات الباطلة، إن أردنا أن نحيا حياة الأنبياء. لابد أن نحتمل كل ذلك بفرح، فلا نتذمر ولا نتكلم بالشر على الذين طردونا أو على الذين أصدروا الأوامر باضطهادنا. فإن الرسل، هؤلاء الأبطال المدهشين الذين قاسوا آلاف الأتعاب من أجل الحق، كانوا يقولون: “لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح” (2 كو 12: 10).

يمكننا أن نذوق هذا السرور، لو أدركنا فقط أن كل هذه الاضطهادات التي نتحملها هي من أجل المسيح وحده، ولو عرفنا أن سبب هذه الضيقات التي نتعرض لها هو السيد المسيح، وأننا نقدم أبطالاً للحق، يحكمون علينا لأننا سفراء كلمة الله (أف 6: 20). لنحاول نحن جميعًا، على قدر استطاعتنا، أن نحيا حياة الأنبياء والرسل، دون أن نهرب من الأتعاب، لأنه لو هرب المصارع من أتعاب المنافسة لن يتمتع بإكليل النصرة[290]].

د. كلمة الله المفرحة.

وسط الآلام المُرّة، ومع إدراكه لكلمة الله التي تؤدب كان إرميا في يقين أنها مصدر فرحه وبهجة قلبه، إذ يقول: “وُجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي، لأني دُعيت باسمك يارب إله الجنود” [16]. كلمة الله تهب رجاءً يفرح القلب.

أكل إرميا النبي كلام الرب، إذ سبق فأعلن أن الله وضع كلامه في فمه (1: 9). يشير الأكل هنا إلى قبول الكلام أو قبول الدعوة للخدمة قبولاً تامًا، لذا لم يقل “تذوقته” بل “أكلته”. اتحد بكلام الله فصار واحدًا معها، أو صارت الكلمات الإلهية جزءًا لا يتجزأ منه. جاء في سفر التثنية: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان” (8: 3). ويقدم لنا إشعياء النبي كلمة الله طعامًا وشرابًا للنفس (إش 11)، وصدر الأمر لحزقيال النبي أن يأكل الدرج الذي أعطاه الله إياه فكان في فمه كالعسل حلاوة (حز 2: 1 – 3).

“فكان كلامك لي للفرح والبهجة” [16]، ارتبطت الكلمتان معًا في (7: 34؛ 16: 9) بالعريس والعروس كما جاء عن العريس الكلمة: “في يوم عرسه وفي يوم فرح قلبه” (نش 3: 11). إن كان إرميا قد دُعي ليبقى غير متزوجٍ (16: 2) إلا أنه بقبوله كلمة الله وغذائه بها صار له بهجة العرس على مستوى فائق، تتحد نفسه كعروس بالعريس السماوي.

كلمة الله التي دخلت به إلى الخصام، فصار في خزيٍ وعارٍ في أعين القيادات والشعب، جعلته في بهجة عرسٍ أبدى وفرحٍ فائق لا يُعبر عنه! أما ان إرميا قد دعى عليه اسم الرب [16] فيعني أنه صار في ملكيته، كما يُدعى اسمه على بيته المقدس (7: 10). وكأن إرميا صار عروسًا روحية وبيتًا روحيًّا للرب.

يقول العلامة أوريجينوس:

[ “وسيكون كلامك لي مصدرًا للفرح” [16] (LXX). إنه ليس مصدرًا لفرحي الآن، لكنه “سيكون”. لأنه إذا كانت كلمتك الآن في الوقت الحاضر مصدرًا لسجني وآلامي واضطهادي ففي نهاية كل ذلك تكون مصدرًا لفرحي.

هل تبحث عن  الطاعة تذهب إلى ما قبل الأفكار

“وسيكون كلامك لي مصدرًا للفرح ولبهجة قلبي، لأني دُعيت باسمك يارب إله الجنود”. حتى إذا كان السيد المسيح هو المتكلم هنا، فإن اسم الآب قد دُعي عليه.

“لم أجلس في محفل المازحين مبتهجًا” [17]؛ إذا حدث أن رأي النبي أن المحفل لا يضم أناسًا جادين بل مازحين، كان يتجنب الاشتراك فيه. يجب علينا أن نفهم الفرق بين محفل المازحين ومحفل الجادّين. فإن جماعة الجادين تفعل كل شيء بجدية وتحتكم إلى المنطق في كل تصرفاتها، لها عقيدة جادة، وحياة جادة. لكن حينما تقوم الجماعة (المحفل) بترك الجدية اللازمة في الأمور الهامة، وتنصرف إلى حياة اللهو وإلى الأعمال الصبيانية التي لهذا العالم، وإلى الأعمال المتولدة من الرذيلة، تتحول إلى محفلٍ للمازحين. يقول النبي: “لم أجلس في محفل المازحين مبتهجًا، من أجل يدك جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضبًا (خوفًا)”.

أمام الاختيارين: إما أن نجلس في محفل المازحين فنُغضب الله، أو نترك محفل المازحين برضانا فنُفرح الله. يقول إرميا: لقد اخترت أن أترك محفل المازحين وأن أكون صديقًا لك، بدلاً من أن أفعل العكس فأصير عدوًا لسعادتك (أي أكون سبب غضبك).

مخلصنا أيضًا لم يجلس في محفلهم “محفل المازحين” لكنه قام وتركه، والدليل على هذا أنه قال: “هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا”، لقد ترك السيد المسيح محفل اليهود وأقام لنفسه محفلاً آخر هو كنيسة الأم[291]].

هـ. الالتقاء مع الله.

سر تعزيته أنه اعتزل مجالس الأشرار المازحين، الذين يطلبون الفرح الزمني المملوء مزاحًا ليجلس مع الله وحده، يبكي على خطايا الشعب ويحزن ويغضب بسبب هلاكهم، دون أن يفقد سلامه وبهجته. إذ يقول: “لم أجلس في محفل المازحين مبتهجًا، من أجل يدك جلست وحدي، لأنك قد ملآتني غضبا” [17].

إن كانت ثروة الملك ورجاله مع كل الشعب وخزائنهم قد دُفعت للنهب فافتقروا ودخلوا في ذلٍ وعارٍ مع مرارة، فإن ثروة إرميا النبي وخزائنه هي كلمة الله التي لا يقدر عدو أن ينهبها أو يسلبها منه، فيبقى وسط الآلام والمتاعب مملوء شبعًا وفرحًا! هذا هو كل ما تُرك لإرميا، كلمة الله، التي يراها القيادات والشعب حتى عائلته إنها كلا شيء، وكانوا يسخرون منه، ولم يدركوا أنها هي كل شيء!

المزاح هو عدم الجدية في اهتمام الإنسان بخلاص نفسه وخلاص الآخرين، سواء في عبادته الخاصة أو العامة أو خدمته للغير. أخبروا هيرودس عن موقع ميلاد المسيح، لكنهم لم يفكروا في الالتقاء معه بجدية، بينما جاء المجوس من المشرق يعبرون مسافات طويلة في جدية ليلتقوا بمخلصهم!

كان إرميا النبي جادًا لذلك كانت نفسه مُرّة من أجل خلاص إخوته… وهذا يهبه فرحًا داخليًا لا يُعبر عنه.

قيل عن الإنسان المازح: “مثل المجنون الذي يرمي نارًا وسهامًا وموتًا، هكذا الرجل الخادع قريبه ويقول: ألم ألعب أنا؟!” (أم 26: 18). هكذا من يخدع أخاه تحت ستار المزاح يلقي بنارٍ في قلبه ليحرق ويبدد، ويصوب سهامًا لنفسه فيقتلها ويفقد كل حياة!

استخدمت كلمة المزاح بالعبرية عن النساء اللواتى لعبن وقلن “ضرب شاول ألوفه وداود ربواتهِ” (1 صم 18: 7)، فكن يسخرن بالملك شاول مما أثار فيه حمية الحسد وفكر جديًا في قتل داود. هذا هو عمل المزاح القاتل والمثير للمتاعب!

ورد في زكريا (8: 5): “وتمتلئ أسواق المدينة من الصبيان والبنات لاعبين في أسواقها”، فالمزاح من سمة الصبيان لا الناضجين.

مجلس المازحين يعني مجلس المستهزئين بخلاصهم، في القيادات اليهودية في أيام السيد المسيح كانوا مجالس مازحين.

مجلس المازحين هم جماعة الأنبياء الكذبة الذين نطقوا بغير الحق، وظنوا في ذلك بهجة وسلامًا، أما إرميا الناطق بالحق فبقى وحده، إذ تركه الجميع وحسبوه متشائمًا… أدرك غضب الله على شعبه فامتلأ حزنًا!

من أجل يد الله جلس إرميا وحده وامتلأ بغضب الله، ويقصد بيد الله هنا الإعلان النبوي أو الكشف عن خطة الله… وكأن يد الله قد امتدت لتكشف لإرميا عن الحق الإلهي الذي رفضه الشعب، وما سيحل بهم من تأديبات كأنها حلت به هو شخصيًا. إنه يردد مع المرتل: “لأن سهامك قد انتشبت في، ونزلت عليّ يدك. ليست في جسدي صحة من جهة غضبك. ليست في عظامي سلامة من جهة خطيتي” (مز 38: 2 – 3).

“جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضبًا” [17].

سبق أن رأينا في (12: 6) أن عائلته قد دعته: “مملوء سكرًا”، وها هو يقول لهم: “إنني لست مملوء سكرًا، بل مملوءً بالغضب الإلهي، أحمله عنكم. إن ما يسكرني ليس الخمر بل رؤيتي للغضب الذي تسقطون تحته”.

“جلست وحدي” [17].

يرى العلامة أوريجينوس في هذه العبارة دعوة كتابية لكي تكون لنا الحياة المميزة الفريدة!

[ “جلست وحدي” [17]. ينبغي أن نتعلم من هذه العبارة عندما تكون هناك جماعة من الخطاة لا تحتمل أن ترى إنسانًا تقيًا يعيش في حياة التقوى، لهذا يليق بالإنسان أن يهرب من محفل الرذيلة، يفعل مثل إرميا الذي قال: “جلست وحدي”، ومثل إيليا الذي قال: “يارب قتلوا أنبيائك وهدموا مذابحك وبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي” (رو 11: 3).

لكن إذا نظرت بطريقة أعمق إلى كلمات “جلست وحدي”، ربما تجد لها تفسيرًا أكثر عمقًا يليق بها.

عندما نحيا مثلما يحيا جميع الناس، ولا تكون لنا حياة مستقلة خاصة ومميزة بالنسبة لباقي الناس، لن نستطيع أن نقول: “جلست وحدي”، إنما نقول: “جلست مع أناسٍ كثيرين”. لكن – على العكس – إذا أصبحت حياتي مميزة بحيث يصعب على الناس تقليدها، لا يستطيع أن يشابهني أحد لا في أعمالي ولا في عقيدتي ولا في حكمتي، عندئذ يمكنني أن أقول “جلست وحدي”. إذن يمكنك أن تقول هذه الكلمات، حتى ولو لم تكن كاهنًا أو أسقفًا وليس لك أية رتبة كنسية، ذلك حينما تحيا الحياة التي تمكّنك من أن تقول: “جلست وحدي” [292]].

قوله: “جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضبًا” [17]، ينطبق على السيد المسيح الذي دخل البستان وحده ليحمل غضب الله عنَّا، إذ يقول لتلاميذه “وتتركوني وحدي…” كما يقول: “نفسي حزينة جدًا حتى الموت”. جلس وحده في البستان لأنه حمل خطايانا على كتفيه. لنتشبه به فندخل معه في البستان وحدنا لكي نئن من أجل سقطات كل أحدٍ، ونحسبها سقطاتنا فنقول:

“جلست وحدي لأنك قد ملأتني مرارة” [17] (LXX).

يقول العلامة أوريجينوس:

[ “لأنني قد امتلأت مرارة” [17]. إن كان الطريق المؤدي إلى الحياة ضيق وكرب (مت 7: 14) لا يمكنك أن تتمتع بأية عذوبة الآن، بل عليك أن تمتلئ بمرارةٍ في هذه الحياة. ألا تعلَم أن عيدك يُحتفل به على أعشاب مُرّة؟ يقول الكتاب المقدس أنه حينما تحتفل بالعيد لا بالعهد الإلهي أن تأكل فطيرًا على أعشابٍ مُرّة (خر 12: 8). ماذا يعني الكتاب حينما يؤكد انه للاحتفال بأي عيدٍ خاص بالرب لا بالعهد الإلهي من أكل الفطير على أعشابٍ مُرّة؟ هلموا نبحث هذا الموضوع. موضوع “الفطير” سبق أن شرحه لنا بولس الرسول عندما قال: “إذًا لنعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق” (1 كو 5: 8). ينبغي أن يكون التفسير الذي أضيفه موافقًا ومناسبًا لتفسير الرسول ومكملاً له. يجب عليك أن تفهم ما هي الأعشاب المُرّة، حينما تربط بينها وبين كون الفطير “فطير الإخلاص والحق”؛ فبمجرد أن يكون عندك إخلاص وحق تجد أمامك أعشابًا مُرّة، وتأكل مع الأعشاب المُرّة فطير الإخلاص والحق.

ينطبق هذا على بولس الرسول: فلأنه كان يأكل فعلاً فطير الإخلاص والحق، بسبب ذلك كان يأكل أيضًا “الأعشاب المُرّة”.

كيف كان ذلك؟

قال: “أفقد صرت إذًا عدوًا لكم لأني أَصْدُقُ لكم؟!” (غلا 4: 16). كيف كان يأكل أيضًا الأعشاب المُرّة؟ كان يأكلها كالآتي: “في كدٍ وتعبٍ، في أسهارٍ مرارًا كثيرة، في جوعٍ وعطشٍ الخ.” (2 كو 11: 27 – 28). ألا يعتبر ذلك كله “حقًا” مع أعشابٍ مُرّة؟ أو فطيرًا على أعشاب مُرّة؟

تقول الشريعة: “كلوا فطيرًا مع أعشاب مُرّة” ولم تقل: “كلوا فطيرًا مع أعشاب مُرّة حتى تمتلؤا وتشبعوا”؛ لذا فإن النبي قد فعل أكثر مما تتطلبه الشريعة، فهو يقول: “لقد امتلأت مرارة” ولم يقل: “قد أكلت مرارة”، أي: قد أخذت نصيبي من المرارة بما فيه الكفاية[293]].

لماذا كان وجعي دائمًا؟!

[ “لماذا يكرهوني ويغضبون على دائمًا؟” (LXX) لقد عانَى إرميا من مضايقات كثيرة، وتألم بسبب الذين لم يريدوا أن ينصتوا للحق والذين كانوا أقوى منه هنا على الأرض فقط، لأن ملكوت الله ليس من هذا العالم بل من فوق. كما يقول المخلص: “لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود” (يو 18: 36). إذًا الذين كانوا يضايقون النبي كانوا يضايقونه في هذا العالم فقط. انظروا أيضًا الشهداء: يجلس القاضي على مقعده على منصة الحكم ليقضي ويحكم وهو في غاية الراحة، بينما يقف الإنسان المسيحي الذي “يحاكم السيد المسيح فيه”، وقد “امتلأ مرارة” وهو موضوع تحت رحمة إنسانٍ غير عادل ليُحكم عليه[294]].

“لماذا كان وجعي دائمًا؟!

وجرحى عديم الشفاء؟! يأبى أن ُيشفي!

أتكون لي مثل (جدول مياه) كاذب، مثل مياه غير دائمة “[18].

كثيرًا ما استخدم إرميا النبي اصطلاحات طبية، فقد شعر بخطورة المرض الذي أصاب شعبه (6: 7؛ 8: 21 – 22؛ 20: 12، 15)، مظهرًا تعاطفًا شديدًا معهم.

والآن يشعر بالجراحات قد أصابته هو، ربما بسبب شدة اضطهادهم له، فصار مريضًا وجريحًا، جرحه عديم الشفاء…

إنه لا يعاتب الشعب الذي اضطهده، وإنما في مرارة نفسه ودالة الحب يعاتب الله الذي أرسله للخدمة، قائلاً له: “لماذا؟” ربما في جسارة يعاتبه: “أتكون لي مثل كاذب، مثل مياه غير دائمة”… فقد سخر به الكل، وبدى كأنه قد هُزم مع أن الله وعده بالنصرة والحماية الدائمة… بقوله “مثل” يؤكد إرميا أن الله لم يخدعه ولن يكون كمجرى ماء كاذب، لكن هكذا ظهر الله في عيني أعداء إرميا الذين عيروه.

هذا ويمكن القول بأن ما نطق به إرميا هنا إنما نطقه باسم الشعب وهو يعاني من السبي، مؤكدًا لشعبه أنه لا يشمت فيهم بل يحسب جراحاتهم جراحاته وأمراضهم أمراضه.

كأنه يقول: لن ينتهي وجعي إلا بانتهاء آلامكم، ولن يُشفي جرحي ما لم تُشفً جراحاتكم. هذا ما عبر عنه الرسول بولس قائلاً: “من يعثر وأنا لا التهب؟! من يضعف وأنا لا أضعف؟!” وقد عبر القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذا الحب العجيب نحو الغير، قائلاً:

[لا نعجب من الرسول بولس في إقامته الميت، ولا تطهيره الأبرص، إنما نعجب من قوله: “من يضعف وأنا لا أضعف؟! من يعثر وأنا لا ألتهب؟!” (2 كو 11: 21).

لو كان في قدرتك صنع آلاف المعجزات، فإنها لن تعادل هذا القول… كلماته هذه أثمن من اللآلئ[295]].

جرح عديم الشفاء.

يعلق العلامة أوريجينوس على العبارات السابقة، قائلاً:

[ “جرحي عديم الشفاء.

من أين يأتيني الشفاء؟ “[18].

الذين يضايقونني يضربوني، وجرحي عديم الشفاء.

يمكن أن تكون هذه العبارة نبوة عن صلب السيد المسيح، كما يمكن أن يكون المقصود بها كل الأبرار الذين يتحمل السيد المسيح فيهم جرحًا عديم الشفاء. أو يمكن أن يكون المقصود هو إرميا النبي نفسه لأنه قاسى أتعابًا وآلامًا كثيرة. يمكن أن يطبق النص على جميع هذه الحالات.

من أين يأتيني الشفاء؟ “إن كان السيد المسيح هو الذي يقول ذلك، فهو يتنبأ بذلك عن قيامته من الأموات بعد الجرح العديم الشفاء.

“لقد صارت لي مثل مياه مضللة وغير مخلصة” [296]].

الأعداد 19-21

7. الله يشدد إرميا النبي:

يجيب الله علي إرميا بخصوص الأسئلة السابقة، قائلاً:

“إن رجعت أُرجعك فتقف أمامي،.

وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون.

هم يرجعون إليك وأنت لا ترجع إليهم “[19].

إن كان إرميا النبي قد شعر أن جرحه دائم وبلا شفاء، فإن الله يقدم له الحل أو الدواء، وهو: “إن رجعت أرجعك فتقف أمامي” [19].

كأنه يقول له: أنت لي، ولك حق الوقوف أمامي لتمتع بحضرتي وتحمل قوتي، لكنك بأفكار اليأس تراجعت عني قليلاً… إرجع إليّ، فإن مكانك ينتظرك، أشتاق أن أراك واقفًا أمامي، تتمم رسالتك التي دُعيت إليها وتتمتع بإكليلك الذي أعددته لك.

تمس هذه الإجابة حياة كل مؤمن تراجع عن الله في ضعفٍ أو بسبب خطيته، لكن يبقى الله يدعوه للعودة إليه، فإن له موضعه في حضن الآب.

بلا شك لم يتراجع إرميا عن رسالته تمامًا، فقد عاش مخلصًا لها، لكن ربما مرت به لحظات ضعف كإنسان.

إن كان جرح إرميا في الواقع هو جراحات الشعب، حاسبًا كل ما يسقط تحته شعبه كأنه هو ساقط تحته، لذا يمكن تفسير قول الرب هنا هكذا. إن كنت تشعر بأن جراحات الشعب هي جراحاتك التي بلا شفاء، فإن توبتهم ورجوعهم كأنها توبتك ورجوعك أنت، لتقول مع المرتل: “يرد نفسي، يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه” (مز 23: 3).

هذا هو سر تعزية إرميا: رجوع الناس إلى الله وحملهم روح الإفراز بين ما هو ثمين وما هو مرذول، أي التمييز بين كلمة الله (الحق) وكلام الأنبياء الكذبة، بهذا يقفون أمام الله وتصير أفواههم كفم الله نفسه، فيحسب كأن إرميا نفسه قد رجع إلى الله وصار كفم الله، يحمل كلمته كسفيرٍ له، يتحدث باسمه ويعلن إرادته.

يقول الله لإرميا: “إن رجعت أرجعك فتقف أمامي” [19]، يصير إرميا كرئيس بيت إبراهيم الذي رجع إليه ومعه رفقة زوجة لإسحق ابنه. هكذا يريد الله منَّا أن نعود إليه دائمًا حاملين معنا عروسًا مقدسة لإسحق الحقيقي، ربنا يسوع المسيح.

يقول العلامة أوريجينوس:

[لأن الجراحات لا تبقى علي الدوام إنما تعبر وتنتهي، “لذلك هكذا قال الرب: إن رجعتَ أُرجعك فتقف أمامي”. هذه العبارة موجهة إلى الذين يدعوهم الرب إلى التوبة والرجوع إليه. لكن يبدو لي أن هناك شيئًا من الغموض في كلمة “أرجعك”. فإنه ما من أحد “يرجع” إلى موضع لم يكن موجودًا فيه من قبل، لكن ارجاع الشخص أو الشيء يكون إلى مكانه الطبيعي. فعلى سبيل المثال، حينما يُبتر أحد أعضاء جسمي يحاول الطبيب أن يعمل له عملية إرجاع وإعادة إلى مكانه الأصلي. كذلك حينما يوجد مثلاً إنسان خارج وطنه، لأسباب عادلة أو ظالمه ثم يصدر الأمر برجوعه، فإنه يرجع إلى بلده.

كأن الله يقول لنا هنا، نحن الذين بعدنا عنه: أنه إذا رجعنا إليه فسوف يرجعنا إلى مكاننا الطبيعي معه. هذه إذًا هي كلمات الوعد الإلهي لنا. وكما هو مكتوب في سفر أعمال الرسل: “إلى أزمنة رد كل شيء، التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر” (أع 21: 3)، ولإلهنا المجد الدائم إلى أبد الآبدين. آمين[297]].

“وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون” [19].

إخراج الثمين من المرذول يعني إخراج نفوس مقدسة مبررة كانت قبلاً مرذولة بسبب خطاياها، فإنه ليس أعظم من أن يهتم إنسان بخلاص إخوته ويحولهم من الانحطاط بالخطية إلى التمتع ببر المسيح.

  • لكي تعرفوا كم هو أمر عظيم أن تربح خلاص الآخرين جنبًا إلى جنب مع خلاصك اسمع ما يقوله النبي في شخص الله: “وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون” [19]. لكن ما هو هذا؟ من يقود قريبه من الخطأ إلى الحق أو من الشر إلى الفضيلة، مثل هذا الإنسان يتشبه بي قدر ما تسمح القوة البشرية… إنه يخلصهم من أنياب الشيطان[298].
  • إن تحدثت لأجل تصحيح قريبك يكون لك لسان كلسانه (المسيح) والله نفسه يقول: “وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون” [19]. عندما يكون لسانك مثل لسان المسيح، عندما يكون فمك مثل فم الآب، عندما تصير هيكلاً للروح القدس. أي كرامة تعادل هذه الكرامة؟! حتى إن كان فمك مصنوعًا من الذهب أو الحجارة الكريمة فهل يتلألأ مثل الآن، عندما يشع بزينة الوداعة.

ماذا نشتهي أكثر من فم لا يعرف أن يشتم بل يتدرب علي أن يبارك[299]؟

  • تأملوا أية كرامة يسمو إليها من يحسب خلاص أخيه ذات أهمية قصوى، فإن مثل هذا الإنسان يتشبه بالله قدر إمكانية قوة الإنسان. اسمع ما يقوله الله خلال نبيه: “إذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون” [19]. ما يقوله هو أن من له غيرة علي خلاص أخٍ ساقطٍ في طرق الإهمال، من يسرع ويخلص أخاه من أنياب الشيطان، مثل هذا الإنسان يمتثل بي قدر ما تستطيع القوى البشرية. ماذا يعادل هذا؟ هذا أعظم من كل الأعمال الصالحة. هذا هو قمة كل فضيلة[300].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

  • لا يقف شيء ما مقابل النفس ولا حتى العالم كله.

فإن قدمت كنزًا بلا حدود للفقراء، فلا يساوى هذا العمل تغيير نفسٍ واحدة. هكذا يقول الله: “إذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون” [19].

يا له من عمل صالح عظيم أن تترفق بالفقراء، ولكن ليس شيء يعادل انتزاعهم من الخطأ. من يفعل هذا يمثل بولس وبطرس[301].

  • أيَّة بركة لا يجتنيها ذاك الشخص الذي ينفع نفوسًا كثيرة يشفيها من الآن حتى مجيء المسيح؟!

أقم حصنًا ضد الشيطان، فإن هذه هي الكنيسة[302].

  • إن تحدثت بما فيه إصلاح قريبك تنال لسانًا كذاك اللسان (لسان الله) [303].

القديس يوحنا الذهبي الفم.

“وأجعلك لهذا الشعب سور نحاسٍ حصينًا،.

فيحاربونك ولا يقدرون عليك،.

لأني معك لأخلصك وأنقذك يقول الرب.

فأنقذك من يد الأشرار،.

وأفديك من كف العتاة “[20 – 21].

هنا يقدم الله لإرميا وعودًا بتجديد قوته. في إرميا (1: 18) أقامه الله مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس، وهنا يجعل منه سور نحاس حصينًا لا تستطيع زوابع الأشرار أن تصدمه، ولا مقاومتهم أن تهزه. إنه ليس فقط ينقذه وإنما يفديه، أي يدفع عنه الدِّية ليحرره. هكذا يعطي الله لإرميا ضمانًا لسلامه ولحريته، بل ولمساندة الآخرين.

إن كان الله قد أقام إرميا النبي ليبكت الخطاة فليذكر إرميا أنه هو نفسه محتاج إلى الخلاص والفداء!

هذا ومن جانب آخر حين أعلن إرميا لله إيمانه أنه يذكره ويتعهده وينتقم له من مضطهديه [15]، جاءت الإجابة الإلهية: “أنقذك من يد الأشرار، وأفديك من كف العتاة!”.

كأن الله يجيبه: لا تتطلع إلى إمكانياتك البشرية المجردة، ولا تنظر علي أعدائك، بل إلى عملي معك وبك وفيك… إني أنقذك من يد الأشرار وأفديك من كف العتاة.

يحدثنا سفر إرميا النبي عن الرب بكونه الفادي من كف العتاه (15: 21) والولي الذي له حق الفكاك (31: 11)، الولي القوى (50: 34). يذكرنا بالدور الذي قام به بوعز الذي قام بواجبه نحو راعوث، حيث قام وهو الولي بالفكاك، فتزوجها وأنجب منها وقدم من ممتلكاته لها ولنسلها. ويلاحظ في الولي الذي يقوم بالفكاك الآتي:

أ. الولي الذي له حق الفكاك ذو قرابة. هكذا وهبنا ربنا يسوع المسيح حق القرابة له، إذ اشترك معنا في اللحم والدم نظيرنا (عب 2: 14).

ب. أن يكون قادرًا أن يفدى ويخلص، وقد دفع ولينا دمه الثمين فداء عنا (مز 49: 8، كو 8: 9، مز 13: 46).

ج. لم يشترِ بوعزِ الميراث فحسب بل اشترى راعوث، لا لتصير له جارية بل عروسًا تشاركه حياته، مكانها في أعماق قلبه. بهذا لم تعد الأرملة غريبة الجنس (الموابية) التي تلتقط من الحقل، وإنما العروس المتحدة معه التي تسكن في قلبه. صار لها لا سنابل الحق التي كان الحصادون ينسلونها لها، بل الحصاد كله، وصاحب الحصاد نفسه. صار بوعز غناها وثروتها. هكذا صار لنا مسيحنا غنانا.

د. يلتزم الولي بالحماية، فهو يفدي ميراثه بالقوة (إش 63: 1 – 6؛ رؤ 14: 14 – 20)، هكذا يربط مسيحنا العدو ويخلصنا من العدو من قبضته (مت 12: 29).

من وحي إرميا 15.

اذكرني، تعهدني، خلصني من العدو!

  • ما أعجب صلوات قديسيك وأنبيائك،.

لكنها لن تشفع لي مادمت أعطيك القفا لا الوجه.

إن شفع في موسى أو صموئيل أو إرميا،.

لا أنتفع شيئا ما لم أرتمِ عند صليبك!

  • أعترف لك إني أستحق كل تأديب،.

فالخطية قتلتني، ودخلت بي كما إلى القبر.

ضرب السيف في قلبي فجُرحت جرحًا مميتًا،.

أصابني الجوع، لأن بدونك لا تشبع نفسي.

صرت كجثة ملقاة في الطريق،.

افترستها الشياطين كطيورٍ محلقة في السماء،.

ونهشتها حيوانات البرية بغير رحمة.

سخرت بي الكلاب إذ سحبتني كما في التراب.

  • من يشفق عليّ يا إلهي؟!

من يقدس أورشليمي الداخلية إلا روحك القدوس؟!

من يعزيني ويسأل عن سلامتي إلا أنت يا مخلصي؟

تركتك… لكن مد يدك وردني إليك.

إجذبني وراءك فنجرى!

  • صرت كأرملة فقدت رجلها وكل أبنائها السبعة في يومٍ واحد،.

تحولت ظهيرتها إلى ظلامٍ دامس.

غطى الخزي وجهها، وفقدت كل رجاءٍ لها!

  • تعالَ يا عريس نفسي،.

تمم وعودك في،.

اذكرني… ليس من يسأل عنى غيرك!

تعهدني… ليس من يفتقدني سواك!

قدم لي كلمتك… فهي وحدها بهجة قلبي!

احفظني من مجلس المازحين،.

هب ليكل جدية واهتمام بالخلاص!

  • الهب قلبي بنار حبك،.

فأخرج من المرذول ثمينًا،.

ومن الخطاة أولادًا لك،.

وذلك بفعل كلمتك يا قدوس.

ضع كلمتك في فمي،.

استذوقها، بل وأأكلها فأشبع بها،.

ويصير فمي مثلك!

عجيبة هي أعمالك يا مخلصي!

  • لتُقم من ضعفي سور نحاسٍ لا يُقاوم،.

كن أنت حصني فلا يقدر العدو عليّ.

أفدني بدمك الثمين من كف إبليس العاتي!


[264] Holladay, Jeremiah, vol. 1, 1986, p. 439.

[265] Thompson: The Book of Jeremiah, p. 387.

[266] On Ps 49 (48).

[267] On Ps 48, no. 4.

[268] On Lazarus and the Rich Man, Sermon 3.

[269] Ibid 4.

[270] On Prayer, 13: 2.

[271] المؤلف: الحب الإلهى، الإسكندرية 1967، ص 43.

[272] R. E. Clements: Jeremiah, 1988, p. 95.

[273] يتم هذا فى المعمودية حيث تتخلص النفس من القوات الشريرة.

[274] In Jer. hom. 13: 1,2.

[275] In Jer. hom. 13: 3.

[276] In Jer. hom. 14: 5.

[277] In Jer. hom. 14: 1.

[278] In Jer. hom. 14: 5.

[279] In Jer. hom. 14: 1.

[280] In Jer. hom. 14: 3, 4.

[281] In Jer. hom. 15: 1 – 3.

[282] In Jer. hom. 14: 6.

[283] In Jer. hom. 15: 1 – 3.

[284] In Jer. hom. 14: 7.

[285] In Jer. hom. 14: 8.

[286] In Jer. hom. 14: 9,10.

[287] In Jer. hom. 14: 11.

[288] In Jer. hom. 14: 12,13.

[289] John Guest: Jeremiah, p 129.

[290] In Jer. hom. 14: 14.

[291] In Jer. hom. 14: 15.

[292] In Jer. hom. 14: 16.

[293] In Jer. hom. 14: 16.

[294] In Jer. hom. 14: 17.

[295] 12. المؤلف: الحب الرعوى ص 473، 474.

[296] In Jer. hom. 14: 18.

[297] In Jer. hom. 14: 18.

[298] In Gen. PG 53: 36 D – 37A.

[299] In Matt. PG 58: 715 A – B.

[300] The Sixth Instruction, 19.

[301] In 1 Cor. hom. 3: 9.

[302] In Acts. hom. 18.

[303] In Matt. hom. 78: 3.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي