الأصحاح الثالث والعشرون
إنقلاب صور وتجديدها.
صور تمثل الغنى الفاحش خلال تجارتها العالمية مع الإنحلال والفساد، لأنها بلد تُجاري مفتوح للغرباء. يصور النبي ما يحل بها من دمار تام لتكابد مع شعب الله المخطىء ذات التأديبات كقول الرسول بولس: “شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر اليهودي أولاً ثم اليوناني” (رو 2: 9). لكن هذا التأديب لا يبقى إلى الأبد إنما يُقدم الله الخلاص للكل وتتمتع صور بالتجديد في المسيح يسوع المخلص العالم.
1. انقلاب صور [1 – 14].
2. تجديد صور [15 – 18].
الأعداد 1-14
1. انقلاب صور:
سبق لنا الحديث عن صور في تفسيرنا لسفر حزقيال (حز 26) [258].
كلمة “تصور” tsor تعني “صخرة”، ربما لأنها قامت على جزيرة صخرية، إلاَّ أن القديس جيروم يرى أن كلمة “صور” في العبرية تعني “محنة” [259]، لذا يرى أن سكانها يشيرون إلى الساقطين تحت محنة الشيطان وبلاياه.
يرى Keith وUrquhart أن ما ورد في هذا الفصل عن صور قد تحقق حرفيًا[260].
لقد سقطت صور تحت الحصار عدة مرات منها: حاصرها شلمناصَّر لمدة خمس سنوات ولم يقدر أن يستولى عليها؛ وحاصرها نبوخذنصَّر لمدة 13 سنة دون جدوى؛ وحاصرها أسكندر الاكبر وافتتحها بعد سبعة شهور سنة 332 ق. م. وقام بتدميرها. حاصرها أيضًا انطيخونس Antigonus كما حوصرت في العصور الوسطى عدة مرات بواسطة الصليبيين. وتعتبر صور هذه المسئولة عن قيام الحرب العالمية الأولى التي مات فيها قرابة 40 مليون شخصًا، إذ اشتعلت بسبب محاولة المانيا إنشاء سكة حديد بين برلين وبغداد لتنمية التجارة مع بلاد الشرق الأوسط[261].
ما ورد هنا لا يخص حصارًا معينًا لصور، وإنما يمثل ما يحل بكل نفس تتشبه بصور من جهة ارتباكها بالغنى مع الرجاسات.
يصف النبي حصار صور قائلاً: “وحيّ من جهة صور؛ ولولي يا سفن ترشيش لأنها خربت حتى ليس بيت حتى ليس مدخل من أرض كتيم أُعلن لهم” [1]. هنا يبرز أثر الخراب الذي حلّ بصور على بحارة السفن التجارية العائدة من ترشيش ويبدو أنهم لم يكونوا قد سمعوا عن انهيار المدينة فذهلوا إذ لم يجدوا مدخلاً للمدينة فقد تهدمت أسوارها، ولا وجدوا بيتًا واحدًا. لقد انتشر الخبر لفداحته حتى بلغ كتيم أي جزيرة قبرص كرمز لسماع دول أوربا جميعها عن هذا الحدث. ويرى البعض أن هذا الحصار تم بواسطة الجيش المقدوني، جيش الأسكندر الأكبر، القادم من جزيرة قبرص.
يدعو النبي المدن المجاورة لتندب حال صور، فقد كانت مصدر خير لها خلال التجارة والآن قد تدمرت تمامًا وفقدت بعض المدن الكثير من الربح.
سمع تجار صيدون (تعني “صيد السمك” تبعد حوالي 22 ميلاً شمال صور وتعتبر المدينة الأم لصور فقد جاءت تندب حال ابنتها)، جاء التجار الذين اعتادوا أن يجولوا في شوارعها وقد اصابتهم الدهشة لما حلّ بها فلم يستطيعوا أن ينطقوا بكلمة بل حلّ بهم الحزن الشديد. أما المصريون سكان وادي النيل فحزنوا لأن صور كانت مركزًا هامًا لاستيراد غلاتهم ومحاصيلهم مقابل استيراد بضائع صور. يُشير النبي إلى نهر النيل بكلمة “شيحور” وتعني “اضطرابًا” (إش 22: 3).
هكذا تحزن صيدون على ابنتها الذليلة بل المنهارة صورة، هذه التي كانت كعروس البحر الأبيض المتوسط أو كملكة متوّجة انعشت بلاد كثيرة في أفريقيا وأوربا، الآن صارت أشبه بفتاة عانس تئن من العزلة، بلا زوج ولا بنين، فقدت بلادًا كثيرة التي كانت أشبه ببنين لها [4].
حزنت مصر لأنها فقدت مركزًا هامًا لتصدير غلاتها، وربما لأنها خشيت أن يحل بها ما حلّ بصور. هذا ما حدث في أيام نبوخذنصَّر الذي نهب ثروة فرعون بعد حصاره صور (حز 29: 17 – 20).
يطلب النبي من البقية الباقية في صور أن يرحلوا إلى ترشيش وهي مدينة قديمة في أسبانيا وأحد مستعمرات صور المزدهرة، رحلوا وهم مولولين لأنهم هاربون كلاجئين. يرى البعض أن النبي نطق بذلك كنـوع من السخرية بسكان صور المتعجرفين.
منذ القدم، ها هم يرحلون في رعب وخوف ليعيشوا غرباء ولاجئين.
يقدم النبي سؤالاً لاهوتيًا يثير السامعين على البحث عن الأجابة، وهو: “من قضى بهذا على صور المتوّجة، التي تجارها رؤساء، متسببوها موقروا الأرض؟” بمعنى آخر من الذي قضى على صور الملكة المتوّجة والتي جعلت من مستعمراتها أمراء ورؤساء ومن تجارها أشرافًا موقرين في كل المسكونة؟! لقد كانت ملكة غنية أفاضت بالغنى والترف والكرامة مع الكبرياء على الدول التي كانت تتعامل معها فمن الذي حكم عليها هكذا؟
رب الجنود هو الذي قضى بذلك [9] لينزل بكبريائها إلى الحضيض ويهين كل تجارها أصحاب الوقار والكرامة الزمنية. هذا ما عناه عاموس النبي حين قال: “هل تحدث بلية في مدينة والرب لم يصنعها؟!” (عا 3: 6). يقول الأب ثيؤدور: [حينما يتحدث الحكم الإلهي مع البشر يتكلم معهم حسب لغتهم ومشاعرهم البشرية. فالطبيب يقوم بقطع أو كي الذين يعانون من القروح لأجل سلامة صحتهم، ومع هذا يرى غير القادرين على الاحتمال أن ذلك شر[262]].
الله قضى بذلك، لكن علة الخراب هو الكبرياء والمجد الباطل، الخطية هي التي تفسد الإنسان كما الأمم، أما حكم الله إنما هو إعلان عما يجلبة الإنسان لنفسه بنفسه.
يشبه النبي صور الهاربة بعد الخراب بامرأة فقدت كل شيء تجتار نهر النيل وليس لديها منطقة تربط بها ثيابها؛ أو تشبه مياه النيل عند المصب فانها تتدفق على البحر وليس من يقدر أن يوقفها، هكذا هرب أهل صور من مدينتهم المحطمة بلا قوة ولا قدرة وكأن المياه تجرفهم نحو البحر [10]، لذا يدعوها “المتهتكة العذراء بنت صيدون” [12].
مدّ الرب يده بالغضب على البحر، أي أمر الممالك أن تثور ضد فينيقية (كنعان) لتخرب حصونها [11]، وتحطم كبريائها فلا تعود تفتخر [12] وعوض كونها ملكة تصير عذراء متهتكة، تهرب إلى كيثم (قبرص) ولا تجد راحة… ماذا يعني هذا؟
أ. مدّ الرب يده داعيًا للتوبة، لكن صور لم تستجب للنداء، فصارت اليد ممدودة للعقاب. لقد بسط أيضًا رب المجد يديه على الصليب بالحب، فمن آمن وجد في الصليب قوة الله للخلاص، ومن جحده صار تحت الدينونة.
ب. كان أمام صور أن تهرب إلى كتيم… لكنها لم تجد راحة، فإن سلام الإنسان لا يتوقف على الموقع الذي يوجد فيه وإنما على أعماق النفس الداخلية. راحة الإنسان لا في تغيير مكانه أو عمله أو ظروفه الاجتماعية وإنما في رجوعه إلى الله مخلصه الذي يُنادي: “تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا اُريحكم” (مت 11: 28). وكما يقول القديس يوحنا سابا: [طوبى لذاك الذي يطلبك في داخله كل ساعة، منه تجري له الحياة ليتنعم].
إذ عرف الله أن صور لن تسمع لهذا الصوت طلب منها أن تتعظ مما حدث للكلدانيين بواسطة ملك أشور، فقد حوّل قصورها إلى ردم.
الأعداد 15-18
2. تجديد صور:
الله في حبه للبشر لا يترك الإنسان في فساده لكنه يُقدم له كل امكانية للخلاص. لهذا بعدما صوّر النبي مدى الخراب الذي حلّ بصور عاد لكي يتحدث عن تجديدها بالرب المخلص.
تُترك مستعبدة لبابل 70 عامًا وهي تُقابل السبعين عامًا التي تنبأ عنها إرميا النبي بخصوص سبي إسرائيل البابلي (إر 29: 10)، وكأن الأمم تشترك مع إسرائيل في هذه المذلة لأنه قد أغلق على الكل معًا في العصيان (رو 11: 32) لكي ينعم الكل بالمخلص ويُرحم الجميع. لقد أتهمت أورشليم بأنها زانية (إش 1: 21) وها هي صور تحمل ذات الإتهام [16].
الفترة من السنة الأولى لمُلك نبوخذنصَّر حتى كورش هي 70 سنة تمامًا، خلالها خدمت الأمم بابل.
يصف النبي صور بامرأة زانية تُغني في الأماكن العامة لتجتذب الرجال إليها؛ هكذا فعلت صور بتجارتها التي ارتبطت بالفساد، لكنها بعدما طافت العالم كما لو كان مدينة واحدة تطوف فيها الزانية سقطت تحت سيطرة بابل 70 عامًا في مذلة لا تمارس فيها تجارتها ولا تبعث بالفساد في الدول الأخرى حتى صارت منسية. نساها العالم لكن الله لن ينساها بل يحوّل ذلها إلى مجد، فبعدما كانت تجارتها مرتبطة بالفساد تعود فترتبط بالحياة المقدسة في الرب، يصير تجارتها شهودًا لإنجيل الخلاص، إذ تدخل مع الأمم في الإيمان لتمارس الحياة الإنجيلية وتكرز بها. بعدما كانت في جوع وعري ليس خلال السبي البابلي وإنما خلال عبودية الخطية صارت في حضرة الرب تأكل من خبز الحياة فلا تجوع، وتنعم بلباس المعمودية فلا تتعرى، كقول الرسول: “لأنكم كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غلا 3: 27). هذا ما عناه النبي بالقول: “وتكون تجارتها وأجرتها قدسًا للرب؛ لا تُخزن ولا تُكنز بل تكون تجارتها للمقيمين أمام الرب لأكلٍ إلى الشبع وللباسٍ فاخرٍ” [18].
[258] للمؤلف: حزقيال، 1981، ص 176 – 180.
[259] PL. 25: 24,.
[260] H. Bultema, p. 226.
[261] Ibid 227.
[262] Cassian: Conf. 6: 6.