يا يسوع الناصري
لن يكتبك احد يا سيدي. أنت كتبت الكون بدمك. كان وحده هو النطق، المطرح الذي عرفنا فيه أن فرادة الله أن يحب. نحن إليك بسبب من تلك الحرية التي أَزلت بها من طبيعة الدين العبودية اذ قلت اننا أحبة وان لنا جسارة على أبيك لكوننا أصحاب البيت.
أنت تقول كل ما في أحشاء أبيك، تترجم الأحشاء ومنها يأتي كل شيء فيه حنان ويأتي إلى جوف الألم، إلى قاع كل جحافل الخطأة فتمسك رحمانية أبيك بعيوننا لنرى الحقيقة الأخيرة أن الله باعثك لتقوله مسمَّرًَا على الخشبة، لتقوله في ما يبدو ضعفه.
لقد رفضت النزول عن الصليب لأنك لو فعلت لظلّوا يرون ان الله يؤتيهم برهانًا بآية منه وأنت لا تريد لهم آية الا هذه الشلحة على الخشبة. بهذه الميتة دخلت اللعبة التي أرادها لك الشيطان اذ ظن انه سيقضي عليك بالموت الذي هو نطاقه. هو ما كان عارفًا ان أحدًا من الناس يتطوع للموت حبًا وان الحب قادر وحده على ان يقضي على الموت.
ما من شاعر في العالم يقدر على ان ينظم قصيدة حب كهذه التي قلتها بأوجاعك وبدمك. قيل للإنسانية التي كانت تعيش قبل الميلاد إلى جنوبنا انها مودودة ربها. غير ان الناس لم يصدّقوا أو ما استطاعوا ان يصدّقوا لأنهم كانوا رازحين تحت نير الشقاء، شقاء خطاياهم، ولم يحلموا ان الله هو القدير على ان يرفع عنهم الأحمال التي كانت تُثقل نفوسهم.
كل البشر كانوا يعلمون ان الله قادر على أن يزلزل الدنيا وأن يبسط الإنسان على الوحوش الكاسرة، لكن أحدًا لم يكن يعرف حقا وبدقة انه حبيب الله وانه مؤهَّل بهذه المحبوبية لأن يكون أعظم من الكون وأفعل من كل عناصره.
***
يا يسوع الناصري اذا سمحت لحظة من لحظات الرياضة العقلية ان أفكر فيك مستقلاً عن ايماني بك لقلت للناس العارفين بحضارات الشعوب ان أحدًا قبلك ومن بعدك وعلى جنباتك لم يتكلم على المحبة كما تكلمت أنت. كلماتهم كانت توصيات خلقية لطيفة أقرب ما تكون إلى الشعر. أنت قلت: «وصية جديدة أُعطيكم أن تحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم». قد نجمع من حوارات أفلاطون ودماثة أفلوطين شيئًا يشبه المحبة. وقد يجد المرء ما يشير اليها في أساطير الشرق القديم. ولكنّي لا أعرف في الأدب القديم الديني منه أو الأدبي من تكلم بهذا الزخم وهذه الشمولية اللذين أتيا على لسانك.
غير ان هذا ليس هو الأعظم. فالأعظم أنك قلت: «كما أنا أحببتكم» أي أني أحببتكم حتى النهاية، حتى الموت. وفوق ذلك وأبهى من ذلك كله أنك كشفت محبتك للبشر في واقع لحمك ودمك. أنا لا أعرف ابن امرأة لم تكن هوة صغيرة أو كبيرة فاصلة بين كلامه وفعله. لنأخذ التيار الذي أطلقتَه أنت وسمّى أعداؤك أتباعه في أنطاكية مسيحيين ليحتقروهم. أنا درست سيرة أتباعك الكبار وقرأتهم جيدًا. كلهم صغار اذا قيسوا بك. كل القديسين صغار. الكتلة الوحيدة التي اقتربت منك كثيرًا حتى دوام دموعي هي كتلة الشهداء. أنت وحدك في تاريخ البشرية لم يستطع واحد من أعدائك الذين وضعوا كتبًا ضدك منذ العهد الروماني حتى عصر التنوير وما بعده، لم يستطع واحد ان يرى فاصلاً بين ما قلته لتلاميذك وما عشته.
في نصوص أناجيلك العظة على الجبل عند متى ولوقا والخطاب الوادعي عند يوحنا ذروتان لا يستطيع أحد إن قرأهما فاهمًا أن يبقى بعد قراءته كما كان قبلها. غير أن دراسة نصوص اخرى، هنا وثمة، لا تجعل كل إنجيلك أعظم روحيًا من كتب أخرى. هناك صفحات في الفكر الديني من قبلك ومن بعدك أجمل تعبيريًا وأعمق ذكاء من الذي قلته أنت. ففي الدنيا التماعات وجدانية أخاذة لا نجد في إنجيلك على قوة نشوتها. والناس يسكرون بسحر اللغة وباللقطات النازلة عليهم كالنيازك. ولكن ليس هكذا يُقرأ إنجيلك. كله من ألفه إلى يائه مرتبط بالدم الذي سكبته على الخشبة. أنت ما سعيت إلى فصاحة فأنت نجار وعشير صيادين. لا يهمّك ألق الكلمات. لا شيء يدل على أنك كنت تتقن البلاغة، فاذا الناس جاؤوا إليك بفضل منها عليهم لا يكونون قد جاؤوا إلى الله المختفي بين لحمك وعظامك.
***
الحب، يا سيدي، طاقة الله وحده. ولكنك أنزلته أنت على صعيد البشر فباتوا قادرين، بعطف منك، على أن يحيوه. ان في المحبة جوانب كثيرة. ولكن من اهم ما يلفتني أنا صاحب هذا الدعاء أنها بين البشر ناطقة بالغفران وفاعلته. أنت سامحت اليهود لأنهم ما كانوا يعلمون ما يفعلون. أنت تطلب من أتباعك الأكثر إذ تريدهم أن يغفروا لمن عمل لأذاهم ولمن يخطط باستمرار لتجريحهم والافتراء عليهم. أنت تقول: هذا الذي عمل لإسقاطك وإسقاط مشاريعك قاصدًا عامدًا لكون نفسه أَمّارة بالسوء، هذا عليك ان تغفر له بلا شرط فيه ولا طلب منه أو منك. وذلك كله لأنك تريده من أبناء الملكوت وتريده أعظم منك الآن وغدا لأن الملْك لأبناء الله جميعا وهو مفتوح ليدخله اللصوص والقتلة لأن هؤلاء هم أيضًا أحباؤك ولأني قد أكون واحدًا منهم بعلم واضح مني أو بجهل. أن نغفر باستمرار ولا نقيم مكانة لما يُسمّى الكرامة أي المجد الباطل، هو لعمري من أهم ما يشدّني إليك يا سيد القلوب المجروحة بلطفك والتواضع.
يا يسوع الحلو جدًا اسكن قلوب الفقراء والمشرّدين في الأرض، التابعين لك ومن لم يسمع منهم بك. كلهم لك بحبك الواحد لهم. رافق الأطفال الذين يهملهم ذووهم إلى كل الرجاسات. خفف وطأة الأمراض الشديدة. عالج عزلة الحزانى. كن وئاما ووحدة للمتزوجين ومربيًا لأطفالهم. خذ إليك هذه الشعوب التي يسمّيها اعزاء الأرض متخلفة. انها حدقة عينك يا مخلصي. قل للمظلومين انك جئت لترفع القهر عنهم. انك ضد القاهر حتى يتوب.
امسح يا سيد كل دمعة عن عيوننا حتى يزول البكاء عن وجه الأرض ويكون الفرح مثل قيامتك .