بسيطًا في صعوده
“صعد الله بتهليل. والرب بصوت البوق” (مز46: 5).
مع أن صعوده إلى السماء قد احتفلت به الملائكة أعظم احتفال.. إلا أن المظهر المنظور لصعود السيد المسيح كان بسيطًا للغاية، تمامًا مثل مظهر قيامته المجيدة.
بعدما ظهر لتلاميذه مرات كثيرة على مدى أربعين يومًا، “أخرجهم خارجًا إلى بيت عنيا. ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء. فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم. وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله” (لو50:24-53).
لم يصعد الرب مثل إيليا النبي في العاصفة إلى السماء. ولم تظهر مركبة من نار وخيل من نار لتفصل بينه وبين تلاميذه مثلما حدث مع إيليا وتلميذه أليشع وقت صعوده إلى السماء. ولكن الرب صعد في هدوء عجيب أمام أعين تلاميذه، بعدما أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم حتى يحل الروح القدس عليهم.
“ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون وأخذته سحابة عن أعينهم. وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق، إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس أبيض. وقالا أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء. إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء. حينئذ رجعوا إلى أورشليم من الجبل الذي يدعى جبل الزيتون الذي هو بالقرب من أورشليم” (أع1: 9-12).
أراد السيد المسيح أن يؤكد حقيقة صعوده إلى السماء “حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا، صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد” (عب6: 20). لهذا صعد أمام أعين تلاميذه كما سبق أن وعدهم “أنا أمضى لأعد لكم مكانًا. وإن مضيت وأعددت لكم مكانًا آتى أيضًا وأخذكم إلىّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا” (يو14: 2، 3).
وهكذا صعد مَن قدّم نفسه صعيدة مقبولة لله الآب على الصليب.. وكان لابد للصعيدة أن تصعد، وأن يدخل رئيس الكهنة الأعظم إلى قدس الأقداس السماوي. كقول معلمنا بولس الرسول: “وأما رأس الكلام فهو أن لنا رئيس كهنة مثل هذا، قد جلس في يمين عرش العظمة في السماوات، خادمًا للأقداس والمسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا إنسان” (عب 8: 1، 2).
وحينما صعد السيد المسيح ليدخل إلى مجده السماوي بعد أن صنع الخلاص لأجلنا.. رافقته جماهير من الملائكة، ونادت تلك الملائكة نحو حراس الأقداس السماوية: “ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم، وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية، فيدخل ملك المجد”، وحينما سأل الحراس قائلين: “من هو هذا ملك المجد؟” أجابوهم قائلين: “الرب العزيز القدير، الرب القوى في الحروب.. رب القوات، هذا هو ملك المجد” (مز23: 7-10).
فالسيد المسيح كان داخلًا إلى الموضع الذي لم يدخل إليه ذو طبيعة بشرية من قبل.. في أعلى السماوات حيث عرش الله القدير.. وقد أعلنت الملائكة المصاحبة لموكب الابن الوحيد أن القادم والمحتفَل بدخوله إلى الأقداس هو ملك المجد.. الرب العزيز القدير، القاهر في الحروب.. والذي انتصر على مملكة الشيطان، وحرر البشر، وفتح الفردوس، ورد آدم وبنيه إلى هناك، بعدما أعلن محبته على الصليب في طاعة كاملة للآب السماوي.
ما أروع ذاك المشهد الذي لخصه معلمنا مرقس الإنجيلي بقوله: “ثم إن الرب بعدما كلمهم (أي التلاميذ) ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله” (مر16: 19).
لم يشأ السيد المسيح أن يبصر التلاميذ هذه الأمجاد العجيبة والمناظر السمائية وهو يدخل إلى السماء، لأن مشهد المجد هذا سوف يبصرونه في استعلان مجد ملكوته عند مجيئه الثاني ودخولهم معه إلى الأبدية.
لم يشأ أن ينشغلوا بالمناظر الفائقة للطبيعة.. لكي لا تنسى الكنيسة رسالتها الحقيقية في حمل الصليب والكرازة بالإنجيل.. ولكي لا ينقادوا إلى الأمور العالية، بل ينقادوا إلى المتواضعين. أما المناظر السمائية الفائقة فلها وقتها المناسب، حينما يلبس القديسون أجساد القيامة الروحانية ليرثوا مع السيد المسيح في مجده.
قد يحدث في بعض الأوقات أن تظهر بعض الإعلانات السماوية لضرورة خاصة،ولهذا أرسل السيد المسيح ملاكين من الملائكة المصاحبين له ليؤكدوا للتلاميذ أنه قد انطلق إلى السماء، وأنه سوف يعود مرة أخرى. ولينصحوهم بالذهاب إلى أورشليم انتظارًا لحلول الروح القدس، وبداية عمل الكرازة المؤيّد بمواهب الروح.
لقد صار الصعود حقيقة مؤكَدة في وجدان الكنيسة، ولكن ليس مشهدًا تنشغل به عن رسالتها الحقيقية في خلاص البشر.
اختفى السيد المسيح عن أعين التلاميذ إذ أخذته سحابة عن أعينهم.. ولكنه كان قد وعدهم قائلًا: “ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (مت28: 20).
هو حاضر بلاهوته في كل زمان ومكان.. هو حاضر بروحه القدوس وفاعل في المؤمنين.
يستطيع القديسون في الروح أن يروه بأعين الإيمان.. بأعين القلب النقي.. بشركة الروح كما سبق فوعد قائلًا: “الذي عنده وصاياي ويحفظها..أنا أحبه وأظهر له ذاتي” (يو14: 21).
كما طوّب السيد المسيح القديسين وقال: “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت5: 8).
لم تعد رؤية السيد المسيح منظرًا عاديًا ينشغل به البشر.. ولكنها صارت حياة تتدفق في قلوب الذين باعوا العالم، وأحبوا البر الذي في السيد المسيح، وحملوا الصليب من خلف فاديهم (المقصود إنه من حيث أن السيد المسيح قد مات حاملًا خطايانا، وأعطانا أن نحيا للبر الذي فيه، فحياتنا بعد صلب الإنسان العتيق بالعماد هي بحياة المسيح فينا “أحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ” (غل2: 20). مثل التشبيه بقصة الأخوين البحارين اللذين قدّم أحدهما -وهو البار الذي أصابته القرعة ليركب زورق النجاة- قرعته وحياته للآخر الذي كان خاطئًا ويحتاج إلى التوبة ليحيا بها. ومات هو عوضًا عنه)، مرددين قول معلمنا بولس الرسول: “لي الحياة هي المسيح” (فى1: 21).
وتحقق فيهم قول المرنم عن الكنيسة وأعضائها “كل مجد ابنة الملك من داخل” (مز44: 13).