مكتبة الكتب المسيحية |
كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية
كتاب قصص قصيرة (مع مجموعة من القصص الطويلة) – القمص تادرس يعقوب ملطي
583أ-
قصة: هذا الأمي علمني درسًا!
بقلم: سمير البهجوري
حدثت هذه القصة في صيف
عام 1952، وبالتحديد بعد
قيام الثورة المباركة بحوالي شهرين. ومكان حدوثها ريف الوجه القبلي،
حيث تنتشر
زراعة القصب وكان ينتشر معها -في ذلك الوقت- الرعب والفزع
لأهل المنطقة جميعًا. وكم كنا نسمع عن اللصوص الذين يخطفون الأولاد، بل
والرجال في كثير من الأحيان، ويخبئونهم داخل زراعة
القصب بعد وضع
القيود في أيديهم وأرجلهم ووضع كمامات علي أفواههم حتى لا يستغيثوا ولا
يسمع أحد صوتهم، في انتظار الإتاوة التي يقررونها!
ووسط هذا الرعب القاتل كنا نذهب لنخدم في القرى
البعيدة، وكنا نمشي في طرق ضيقة جدًا على جانبيها زراعة
القصب الرهيبة.
وكان يشجعنا على المخاطرة علي هذا النحو أن المسيحيين من أهل القرى
هناك لا يعرفون شيئًا بالمرة عن مبادئ دينهم، بل كلمة “يسوع” لم
يسمعوها من قبل. ظن طفل قروي مرة أنه اسم لخادم من المدينة، بل وادعى
أنه رآه ذاهبًا إلى القرية المجاورة وهو يلبس القميص والبنطلون!
إلى هذا الحد يخيم الجهل علي هؤلاء القرويين، وكان
يشجعنا علي الخدمة أن حوادث الخطف كانت تقل في الصيف، لأن زراعة
القصب
لا يكتمل نموها في هذا الوقت من السنة، علاوة علي أننا نملك وقتًا
طويلًا، هو فترة الإجازة الصيفية الطويلة.
وإني أذكر كثيرين من أفراد أسرتي الكبار كانت ترتسم
علي وجوههم علامات الذعر عندما يعرفون أني أذهب إلى القرى البعيدة مع
بعض الشبان الصغار من زملائي في المدرسة الثانوية ماشيًا علي الأقدام
لعدم وجود طرق تسمح لمرور السيارات هناك.
كنا نذهب مجموعات تتكون من ثلاثة أو أربعة شبان لكل
قرية. واحد يأخذ معه حقيبة إسعاف ويهتم بالأخص بعلاج عيون أطفال
القرية، ونادرًا ما ترى عين أحدهم سليمة لم تؤذها
الشمس الحارقة
والتراب، والآخرون
يهتمون بالافتقاد ومساعدة المعدمين (أقول المعدمين
ولا أقول
الفقراء، لأن أهل القرية كلهم كانوا فقراء). علاوة علي
تبشيرهم بكلمة الحياة!
كنا نقطع الطريق في صلاة صامتة، ويرتفع صوتنا في
كثير من الأحيان بالترانيم والألحان العذبة التي تعيد إلى نفوسنا
الراحة وتبعد عنا الخوف. وكم كنا نحتاج للطمأنينة في ذلك الوقت. حقًا
كنا نظهر أمام الآخرين بمظهر الشجاعة الكاملة، ولكن بيننا وبين أنفسنا
كنا نرتعب لمجرد التفكير في اللصوص والخطف. وكان يغذي خوفنا ما كنا
نسمعه كل يوم من الحوادث الرهيبة، من قتل وخطف وجرائم أخري عديدة.
وهكذا كنا نلتجئ في خوفنا إلى الصدر الحنون. نتكئ ونطلب الحماية من
السماء، وكم كنا نحصل علي تعزيات عميقة. “لا تخف لأني معك”، هكذا كان
شعارنا، وهكذا كنا نطمئن بالأكثر، لأن حارسنا حارس لا يغفل ولا ينام.
ولا أنسي مطلقًا منظر القرويين وهم يجلسون جميعًا
علي
الأرض. الرجال والنساء والأطفال في مكان واحد في فناء منزل يملكه
أحدهم.
يا لمنظرهم وهم يرنمون!
St-Takla.org Image: صورة في موقع الأنبا تكلا: |
يا لمنظرهم والدهشة تملأ قلوبهم وهم يسمعون لأول
مرة حكايات
الكتاب المقدس الرائعة، إنهم يملكون من الإيمان أكثر مما
نملك.
إنهم قريبون حقًا من ملكوت السموات.
بدأت زراعة
القصب تنمو بسرعة حيث تسمح للصوص
بالاختباء فيها وارتكاب جرائمهم. كما قاربت الإجازة الصيفية على
الانتهاء، وهكذا انقطعنا فجأة عن الذهاب للخدمة في القرى. كنا نخدم في
الصيف فقط ولم يخطر على بال أحدنا أننا نستمر في الخدمة في الشهور
الباقية من السنة!
← ترجمة القصة بالإنجليزية هنا في
موقع الأنبا تكلا هيمانوت:
An
Illiterate Teaching me.
بعد مدة، وفي أحد شوارع المدينة حيث أسكن، رآني “عم شنودة ”
وهو رجل عجوز من سكان القرية التي كنت أخدم بها، وفوجئ لأول وهلة وكأنه
لا يصدق عينيه. دقق النظر وعندما تأكد من شخصي أقبل نحوي مسرعًا كالطفل
الذي يفرح بلقاء والده بعد غيبة طويلة! وبادلته تحياته الصادقة وقدته
إلى منزلي، وهناك تبادلنا كثيرًا من الأحاديث.
كنت أرى في عينيه المجهدتين سؤالًا ملحًا، كنت أعرف
مقدمًا ماذا يريد أن يقول، ولكني كنت أملك الإجابة المقنعة. هو يريد أن
يسألني –بالطبع– عن سبب انقطاعنا عن الخدمة في قريتهم، وسأقول له
السبب، وهو خير مَنْ يفهم الرعب الذي يسببه اللصوص والخطر الذي ينتج عن
استمرارنا في الذهاب إلى القرى. وتحقق ظني، إذ سألني بلهفة عما كنت
أتوقع أن يسألني فيه، وعندئذ بدأت أبين له سبب انقطاعنا عن الخدمة،
وذكرت له بعض الأمثلة من الحوادث المرعبة التي حدثت في نفس الطريق الذي
نسير فيه وعن العصابة الجديدة التي استوطنت هذه المنطقة والتي سببت
الفزع الشديد للجميع، وأن أهل المدينة، خصوصًا مَنْ يلبس “القميص
والبنطلون” منهم كيف أنهم مطمع للصوص.. إلخ.
وبعد هذا “الدفاع” القوى انتظرت أن يظهر
على الرجل الاقتناع الكامل ويقدر ظروفنا، ولكن ظهرت على ملامحه علامات
الدهشة البالغة والاستغراب. وكأنه فوجئ بما لم يتوقعه أبدًا من إجابة.
يا لمنظر الرجل والدهشة تملأه! وكأنه لم يصدق
أذنيه، فطلب مني أن أعيد له أسباب انقطاعنا مرة أخري! وأعدت ما قلته،
وفي عتابٍ شديدٍ وهدوءٍ ولهجةٍ مملوءة بالمرارة قال لي الرجل بلهجته
الريفية الساذجة:
ألم تقل، في إحدى عظاتك لنا، إن شعور رؤوسكم محصاة؟
وهنا شعرت بالعرق البارد يبلل جسمي، وانتابني خجل
شديد من ضعف إيماني علي هذا النحو. واستمر الرجل:… وأن مَنْ يمسكم يمس
حدقة عينه؟!
وقال لي كل الآيات التي سمعها مني للأسف، والتي
تبين مقدار عناية الله بنا.
وبدأنا مرة أخرى نسير نحو القرية المباركة نقدم
لأهلها المسيحيين البسطاء كلمة الحياة. وكنا نسلك طريقًا تحف به زراعات
القصب العالية، تحوطنا بشدة ولكنها أصبحت في نظرنا الآن وكأنها ذراعا
الله نفسه تحيطنا وتقول لنا: “مَن يمسكم يمس حدقة عينه”.
لقد تعلمت من هذا الأمي درسًا لا أنساه.