admin
نشر منذ سنتين
4
شهود مـوت المســيح

شهود مـوت المســيح للراهب كاراس المحرقي
شهود كثيرون

انطلقت أرواح المصلوبين الثلاثة المعلقين على الجلجثة، ولف الصمت الربوة الحزينة، وخلا الجبل من البشر، هدأ كل شئ، لا صوت إنما حركة الطبيعة وحدها هى التى يُسمع صوتها، ضباب كثيف كأنه أشباح هائمة، برق ورعد، زلازل واضطراب عظيم قد سرى فى المدينة المقدسة.. لقد تكلمت الطبيعة لتؤكد حقيقة الصلب، وما أجمل الطبيعة عندما تتكلم، فهى دائماً صادقة ولا تعرف الكذب الذى أصاب البشر!

إن حقيقة الصلب حقيقة مؤكدة، أما الشهود فكثيرون، ففى وسط الجو المظلم الذى غطى سماء الجلجثة، حيث خرجت ضجة الشعب كصوت البحر المضطرب يصرخ ” أُصلبه أُصلبه ” خرجت أصوات الشهود ترتل أُنشودة الحب الإلهى، وإن كان الترتيل يغلب عليه نغم الحزن! فمن عالم الطبيعة، ستشهد الشمس التى أظلمت، والصخور التى تشققت، والأرض التى تزلزلت، والقبر الذى وضع فيه مخلصنا..ومن عالم النبات، ستشهد الشجرة التى أخذوا منها خشبة الصليب المقدس، والقصبة التى وضعوا عليها الإسفنجة المملؤة خلاً ليسقوه، ونبات الزوفا..

ومن البشر سيشهد بيلاطس وهيرودس واليهود الذين حاكموه زوراً وصلبوه، وسمعان القيروانى الذى حمل صليبه، والعسكر الذين اقتسموا ثيابه، والجندى الذى طعنه بالحربة فى جنبه، والنساء اللواتى كن حاضرات، ويوسف ونيقوديموس اللذان كفناه، واللص اليمين الذى آمن به على الصليب، وقائد المئة والذين معه ..

ستشهد أيضاً الخمرة الممزوجة مراً التى قُدمتله وقت عطشه، والدم والماء اللذان خرجاً من جنبه عندما طُعن بالحربة، وحجاب الهيكل الذى انشق، وأجساد القديسين الذين قاموا من الأموات..

ونظراً لكثرة شهود الصلب، سوف نتحدث عن بعض منها، لا لتأكيد حقيقة الصلب، فحقيقة الصلب مؤكدة، وإنما لدراسة الظروف التى صاحبت موت المسيح وتفسيرها.

الشمس المظلمة

عندما ولد المسيح ظهر نور غير عادى فى صورة نجم لينبئ المجوس بميلاد المسيح (مت2 : 2) ولذلك كان لائقاً أن تظهر ظلمة غير عادية لتنبئ بموته لأنه هو نور العالم (مت27 : 45) الذى جاء ليشرق بنوره على الجالسين فى كورة الموت وظلاله ( مت 4 : 16).

لقد أخفت الشمس أشعتها، وكأن الأرض لا تستحق بعد نورها، وابتدأت السماء أمام أنظار الجميع تكسوها ظلمة حالكة، ليس فوق جبال اليهودية فقط، بل فوق الأرض كلها، وهل كان ممكناً أن تُرسل الشمس أشعتها وشمس البر خالقها على الصليب عريان!

لم تستطع الشمس أن تنظر عرى خالقها فحجبت نورها حزناً، وهكذا القمر لم يرسل هو الآخر ضوءه، لأن نور العالم رُفع على الصليب، العالم المادى فى حالة حزن، وها هو يرتدى ثوب الحداد الأسود، لأنه لم يرَ من قبل شراً هكذا، أما الإنسان الذى كان أولى بالحزن ، فلم يحزن، وإن كانت قلة قد بكت، إلا أن بكاءها أشبه بنقطة ماء سقطت فى بحر سرعان ما تلاشت.

قال مار يعقوب السروجى
” أظلمت الشمس وهرب النور وانتهى الشعاع، لبس الجو لوناً مكمداً بألم عظيم، الشمس والقمر انحجبا كسام ويافث لئلا ينظرا نوحاً مفتضحاً، قالت الشمس كيف أُشرق على الخليقة وشمس البر العظيم على الصليب ! وبأى وجه يُظهِر النهار نوره وسيده عارٍ بين اللصوص ! صار الظلام باباً أخفى العريان خلفه، حتى لا يرى الصالبون النجسون عُرى سيدهم ! “

إن هذا الظلام ليس إلا إعلاناً على رفض اليهود حياة النور، لأنهم أحبوا الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة (يو3 : 19) ولأنهم رفضوا أن يخلعوا عنهم أعمال الظلمة ويلبسوا أسلحة النور (رو13: 12) صاروا مثل اللصوص الذين يسرقون فى الظلام(أى 24 : 16) وقد انطبق عليهم قول الكتاب:
” اَلْحَكِيمُ عَيْنَاهُ فِي رَأْسِهِ، أَمَّا الْجَاهِلُ فَيَسْلُكُ فِي الظَّلاَمِ” (جا2 : 14)، ” أَيْضاً يَأْكُلُ كُلَّ أَيَّامِهِ فِي الظَّلاَمِ ” (جا5 : 17) أما نهايته فإنه ” يَذْهَبُ وَاسْمُهُ يُغَطَّى بِالظَّلاَمِ” (جا6 : 4) .

فيا أيها النهار لماذا هربت واختفيت؟ لماذا خفت وأظلممت؟ وأين هو نورك أيتها الشمس يا ذات الإشراق والإشعاع؟ من أعماك؟ لماذا انطفأت؟ هل حقاً كنتِ حزينة على صلب خالقك؟ أم كنت تبكتين الخطاة الذين أنكروا خيراته وإحساناته؟!

حجاب الهيكل المنشق

كان الحجاب يفصل بين القدس وقدس الأقداس، الذى لم يكن ممكناً أن يدخله أحد إلا رئيس الكهنة وحده مرّة واحدة فى السنة، ليكفر عن نفسه وعن جهالات شعبه … فلما مات المسيح، إنشق الحجاب إلى اثنين من فوق إلى أسفل (مت27 : 51). وهذا إنما يشير إلى الآتى:

الحزن

قديماً عندما كان يسمع إنسان خبر موت أحد أقربائه أو أصدقائه كان يمزق ثيـابه، كما حدث مع أيوب الصديق الذى مزق جبته ما أن سمع خبر موت أولاده (أى1 : 20).

فإن كان تمزيق الثياب من علامات الحزن الشديد، يكون إنشقاق حجاب الهيكل إشارة إلى حزن الهيكل على صلب المخلص، وكيف لا يحزن الهيكل والكاهن الأعظم مقدم الذبائحيُذبح ويُقدم كمحرقة على مذبح الصليب!

هل تبحث عن  Our Lord, Our Lord Lyrics

إنتهاء النظام الموسوى

كان الهيكل معداً لتقديم الذبائح، التى كانت ترمز إلى المخلص الذبيحة الحقيقية، فلما أتى المرموز إليه وذُبحت الذبيحة الحقيقية على الصليب بطل الرمز فانشق الحجاب إلى اثنين، ليعلن ظهور الحمل الحقيقى الذى جاء ليرفع خطايا العالم..

وعندما قال السيد المسيح قبل صلبه أنه ابن الله (مر14: 61-63) مزق رئيس الكهنة ثيابه.. وقد كان هذا العمل تأكيداً لزوال الكهنوت القديم لابتداء كهنوت العهد الجديد، ولم تعد الحاجة بعد إلى هيكل، الذى بدأ خرابه بانشقاق حجابه إلى اثنين، وإنتهى بالهدم على يد تيطس الرومانى سنة (70م ).

إتمام السلام

كان الحجاب يحجب رئيس الكهنة وهو فى قدس الأقداس عن الشعب .. فلما انشق أصبح من السهل أن يرى الشعب رئيس الكهنة بلا حجاب، بل وكل ما فى الهيكل أصبح منظوراً، وهذا إنما يشير إلى أن المسيح رئيس كهنتنا الأعظم أوجد لنا سلاماً بيننا وبين الله .. لقد كان الضمير مثقلاً بآلام كثيرة من شدة الخطية، ولكن لما انشق الحجاب إذ تم الفداء ، صار لنا سلام فياّض، وأصبح لنا الحرية أن ندخل إلى قدس الأقداس ونرى كل ما فيه.

شق الخطية

تسلطت الخطية على البشرية آلاف السنين، إلا أن المسيح له المجد الذى وقف مرة يقول لليهود : “من منكم يبكتنى على خطية ” (يو8: 46) استطاع أن يشقها بموته، ويكسر شوكتها بصليبه، ويحررنا من سلطانها، أتى إلى عالمنا قدوساً طاهراًبلا عيب، وحمل عقابها فى جسده ومات على الصليب ليُميت سلطانها.. غلبها وداس عليها فأصبح من السهل أن نتركها وننتصر عليها.

زلزلة الأرض

وكما أظلمت الشمس ولم تعطِ ضوءها ، حزناً على صلب خالقها شمس البر، الذى يضئ المسكونة كلها ببهاء مجده، هكذا الأرض أيضاً تزلزلت (مت27:51) معلنة حزنها وعدم رضاها، عما فعله الساكنون عليها بصلبهم مخلص البشرية، الذى جاء ليصلح السمائيين مع الأرضيين بدم صليبه، ويحّول الأرض الملعونة إلى أرض طاهرة، بسقوط دمه الطاهر عليها .

لقد جاءت الزلزلة علامة واضحة، تعلن عن سلطان المصلوب وجبروته، فهو ليس ضعيفاً كما ظن اليهود، إنما هو الذى ” أُسُسُ السَّمَوَاتِ ارْتَعَدَتْ وَارْتَجَّتْ، لأَنَّهُ غَضِبَ” (2صم22: 8) وفى نفس الوقت شهدت ببراءة المصلوب وشر صالبيه، كما أنها حددت مستقبل العالم القديم، أنه معد للدمار وأنه سوف يطرأ عليه تغيير عظيم.

ويخيّل إلىّ أن يهوذا أسرع بالصعود نحو الكواكب، فضعفت أجنحته وهبطت به إلى الهاوية، فحدثت ضجة أو زلزلة عظيمة ليس لها مثيل ضاعفت من زلزلة الأرض ، أو كأن أنفاس الملائكة هيجت نسمات الليل فانقلبت ريحاً شديدة لتمزق الخطاة وتجرفهم كالغبار إلى أعماق الهاوية.

لقد تزلزلت الأرض كأنها خافت أن تفتح فمها لتقبل دم المسيح الأثمن من دم هابيل، الذى عندما قبلته لُعنت من أجله (تك4: 11، 12) وكأنها استعدت لفتح فمها، لابتلاع أولئك العصاة المتمردين الذين صلبوه، كما ابتلعت من قبل بنى قورح من أجل جريمة أقل من هذه (عد 16).

تشقق الصخور

أراد اليهود تفتيت الصخرة الروحية على الصليب، فتفتتت الصخور الحجرية لتعلن سخط الله على الأشرار، وفى نفس الوقت كانت وعظاً وإنذاراَ لليهود ومن معهم، الذين أظهروا بأعمالهم أن قلوبهم أشد قسوة وصلابة من الصخور، فالصخور لانت وأما قلوبهم فلم تلن، وعنادهم لم ينثنِ ! ولهذا قال أحد الآباء: ” وأما تشقق الصخور فقد كان لتبكيت الذين قلوبهم لحمية كما يزعمون، وكيف الصخور لقتله تشققت وهم الذين يقرأون الناموس لم تلن قلوبهم ولم تتخشع ليغفر لهم بكثرة تحننه “.

لقد صرخت الحجارة حزناً على خالقها، ومن شدة صراخها تشققت، لعل الشعب الذى لم يؤمن يخزى ويتوب عن شره.. أحست الحجارة بالظلم الذى حل بالمسيح أكثر من اليهود قساة القلوب، الذين سوف يفتشون قريباً عن نقر فى الصخور وشقوق فى المعاقل، وذلك لكى تخبئهم عن وجه الجالس على العرش (إش2: 11) (رؤ6: 16)، وهنا نتذكر قول السيد المسيح للفريسيين: ” إِنْ سَكَتَ هَؤُلاَءِ فَالْحِجَارَةُ تَصْرُخُ ! ” ( لو19: 40).

ولكن شكراً لليهود فقد شقوا يسوع صخرتنا الروحية، لكى نختبئ فى شقوقها، كما اختبأ موسى فى شق الصخرة فى حوريب .. فنرى من هناك مجد الرب كما رآه هو(خر33: 22) ولكى تفيض من شقوقها ينابيع مياه حية نشرب منها فلا نعطش إلى الأبد.

قيل عن حمامة المسيح إنها اختبأت فى محاجئ (مخابئ) الصخر (نش2: 14) أى احتمت فى جراح الرب يسوع الصخرة المنشقة.

هل تبحث عن  أيّها الرّبّ العارف قلوبَ الجميع

تفَتّح القبور وقيام أجساد القديسين

كانت القبور أيام السيد المسيح، عبارة عن حفرة فى الأرض، أو صخرة مسدودة بحجر مثل القبر الذى دُفن فيه المسيح وتفتح القبور بعد حادثة الصلب (مت27: 52) يعنى: إن المسيح بموته أبطل سلطان الموت، وبقيامته أعطانا عربون القيامة الأبدية، فلم يعد للموت سلطان على القديسين، ولا للقبور قوة أن تغلق أبوابها على أولاد الله، أما قيامة أجساد القديسين، فكانت من المعجزات التى تمت بعد أن أسـلم المسيح روحه،ولعل الهدف منها هو الآتى:

توبيخ اليهود

فقد قال أحد المفسرين : إنهم عندما دخلوا أورشليم بعد قيامتهم وتعرفوا على أقاربهم، كان الأحياء يسألونهم عن حياتهم وعن الموت والأموات.. أما هم فكانوا يسألونهم عن الذى حدث منذ ثلاثة أيام… ما الذى عملتموه ؟ فكان الأحياء يقولون: لم نفعل شيئاً .. فيقولون: أما عرفتم أن الأرض ارتجت وتزلزلت أساساتها ، فيقول الأحياء: إن رجلاً ضالاً صُـلببيننا، فيقولون لهم: الويل لكم فإن الذى أدعيتهم أنه ضال هو الذى أقامنا بقوة لاهوته وأمات الموت ودحض الهاوية..

إثبات حقيقة قيامة المسيح

فالسيد المسيح لو لم يقم من الأموات ما كان أقامهم من الموت إذ كيف يقيم الميت ميتاً ؟ أما السبب فى أنهم دعوا قديسين ، هو إيمانهم بالسيد لمسيح قبل صلبه وقبل موتهم فلابد أنهم عاصروا المسيح والدليل: إنهم تعرفوا على الأحياء.

يُقال إنهم مكثوا فى أورشليم ثلاثة أيام لم يأكلوا خلالها شيئاً وبعد أن بشروا فيها عادوا إلى الفردوس الذى كان السيد المسيح قد فتحه وأدخل معه اللص اليمين

اللص اليمين

ثلاثة صلبان رُفعت على الجلجثة فوقها ثلاثة أجساد عارية، مزقها الجلد والضرب والجوع والعطش، وغمرها الطين والدم والدموع ، ثلاثة أجساد بشرية لا فرق بينها، فكلها ملطخة بالألم والجروح، وكلها تنزف الحياة قطرة قطرة، صليبان صُلب عليهما لصان ورب المجد كان فى الوسط فتم قول الكتاب ” وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ” (إش53: 12).

كان يجب أن يحمل صليب يسوع بارباس، لكنهم اختاروا يسوع ليصلبوه، أما بارباس المدان فأطلقوه، لكن يسوع نهض وأما ذاك فقد سقط، لقد تحرر بارباس من قيوده ومشى مع الجمع وراء صليبه، وإذ لم يقدموه ضحية أو تقدمة للفصح ، إلا أنه كان رجلاً حياً يسير إلى قبره، وقد كان الأليق به أن يهرب إلى الصحراء حيث يحترق العار بأشعة الشمس، ولكنه مشى مع الذين أطلقوه ليلعن يسوع الذى على كتفية يحمل جريمته !

لقد صار يسوع بين اللصين كراع وسط خراف ضالة! وقد استطاع أن يعلن لنا أنه ديان العالم، ولهذا يقول مار يعقوب السروجى” هو الديان، فقد اختار أن يظهر الحكم على الجلجثة فأقام الخراف عن يمينه والجداء عن يساره”.

فى نظر الناس كان المصلوبون بمثابة ثلاثة مجرمين، حكمت عليهم محكمة البشر بالموت، موت العبيد وقطّاع الطرق، موت الخونة وعتاة المجرمين، ولن تكف محاكم الدنيا عن إصدار أحكامها بالإعدام والقتل على الأفراد والجماعات، وحتى فى الموت عند بنى البشر ألوان ودرجات، موت للنبلاء والشرفاء، وموت للصعاليك والمجرمين !

أما اللصان فكان كلاهما يجدفان عليه فى أول الأمر (مت27: 44)، ولكن أحدهما وهو اللص اليمين لم يعد كذلك، بل آمن بالمصلوب رباً وإلهاً أما الآخر فظل أثيماً كما هو، رافضاً الخلاص إلى النهاية، ولما كانت يداه ورجلاه موثوقة كان يضرب بلسانه مجدفاً ” إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا “، لكنّ الآخر كان ينتهره قائلاً ” أمّا نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئاً ليس فى محله، ثم قال ليسوع أذكرنى يارب متى جئت فى ملكوتك، فقال له يسوع بنغمة مفعمة بحلاوة الغفران، ولاحت على وجهه أشعة شبيهة بذلك النور الذى ينبثق من أجفان الأطفال ” الحق أقول لك إنك اليوم تكون معى فى الفردوس” (لو23 : 39ـ43).

أية قوة أنارت هذا اللص حتى آمن بالمسيح ؟ أو من أعلمه أن يعبد هذا المحتقر الذى كان مصلوباً معه ؟ لا نعرف على وجه التحقيق، ما الذى كان له التأثير المبارك على هذا اللص، محوّلاً قلبه بهذه الصورة الفريدة وهو الذى قبل ذلك اشترك فى حملة التعيير ضد يسوع، ربما صلاة رب المجد يسوع المؤثرة فى طلب الغفران لقاتليه، فاعتقد اللص أن الذى يغفر لقاتليه لا يمكن أن يكون قد ارتكب ذنباً يستحق عليه الموت ! ولابد أنه كان يرغب فى حياة التوبة.. ولهذا عندما كشف الله له القناع، استخدم هذا النور لمنفعته وفائدته، فقد استطاع من خلال هذا النور أن يرى مجد الفادى وسط الظلام الذى كان يحيط بالصليب ! ولهذا لم يقل اللص يا معلم أو يا سيد، ولكنه نادى المسيح بلقب الجلال ” يارب ” وبذلك أعلن للواقفين أن هذا الذى يظهر كالدودة التى داستها الأقدام هو ملك المجد السماوى!

هل تبحث عن  البولس من رسالة بولس الرسول الي عبرانيين ( 4 : 14 - 5 : 14 ) يوم الاثنين

لقد صرخاللص وتضرع فى ثقة كاملة لكى يذكره الرب فى ملكوته، فياله من بشير للمسيح فى ظلمة ليل الآلام، ياله من نجم ساطع يرشد كل الذين يريدون ميناء الراحة فى بحر الحياة العاصف، ياله من إيمان جديد يعطينا برهاناً جديداً على أن أعمق أسرار السماء تتكشف لأى إنسان تنبه ضميره فجأة وأحس بحاجته للخلاص ولو كان يلفظ آخر أنفاس حياته !!

أنت بحق سارق ماهر أيها اللص، استطعت أن تسرق الجوهرة الثمينة، ولكن هذه المرة بإيمانك وليس بمكرك وخداعك.. لقد تعودت النهب والسرقة ويبدو أنك لم تشبع بما سرقت فجاهدت لتسرق الملكوت العالى الذى لا يقدّر بمال.. لم يكفك غنى العالم الذى سرقت ونهبت منه الكثير، فسعيت لتسرق الحياة الجديدة التى غناها لا يحد ، وها أنت قد نلت.

أنت لص وسيظل هذا الاسم يتبعك حتى وأنت قائم فى الخزانة العظيمة، يحيط بك الذهب والمعادن الكريمة من كل ناحية.

فطوباك ثم طوباك أيها اللص الطوباوى، وطوبى للسانك الحسن المنطق، الذى به تأهلت بالحقيقة لملكوت السموات وفردوس النعيم.

قائد المئة والذين معه

كان قائد المئة على رأس قوة من الجنود لحراسة الصليب (مت 27: 54) والجنود يكونون عادة قساة القلوب ولا تتأثر مشاعرهم كسائر البشر، لا بعوامل الخوف ولا بعوامل الشفقة، وكانوا رومانيين أى وثنيين لا يعرفون الكتب، ومع هذا آمنوا واعترفوا بألوهية المسيح وببنوته لله ! فكيف آمن الوثنيون، الذين لم يكونوا بعد يعرفون النبوات، ولم يتتلمذوا عند قدمى معلمى اليهود ؟ لابد أنهم رأوا فى يسوع شيئاً فريداً لم يروه فى أحد من قبل، تُرى ما هو هذا الشئ ؟ لنبدأ القصة:

بعدما ارتفع ابن الإنسان فوق خشبة الصليب، وبعد أن سُمّرت يداه ورجلاه فى وحشية وقسوة، وتفجرت الدماء من كل أنحاء جسده ، ظل المصلوب يحمل ابتسامة على شفتيه المغطاتين بالدماء، ونظرات الحب تشع من بريق عينيه، وكلمات الصفح تخرج من شفتيه، يغفر لصالبيه، يشيع الأمل فى اللص اليمين، يحن إلى أمه ويطلب من يوحنا أن يرعاها.. كل ذلك أثار دهشة القائد ، فآمن أن المصلوب ليس إنساناً عادياً بل شخصاً يفوق البشر أو أحد أبطال الأساطير التى سمع عنها ! فنطق بلهجة عسكرية رومانية وكأنه يؤدى للقائد العظيم تحية الوداع الأخير ، وقال ” حقاً كان هذا ابن الله ” (مت27: 54) فكانت هذه العبارة أعظم تحية يقدمها قائد رومانى لقائد آخر يشعر بعظمته، وسموه، ونبله، فى الحياة وفى الموت.

نه اعتراف بأن المصلوب لم يكن إنساناً كباقى البشر، أو نبياً مثل الأنبياء الذين قتلتهم روما،ولكنه شخص آخر غير كل هؤلاء.. فالقائد لم يؤمن بقوة المسيح التى انبثقت منه فى عنفوان شبابه، ولكنه آمن بالقوة عندما انبثقت منه فى وقت ضعفه، وقد تخلى عنه الأحباء والأصدقاء، وحين أُحيط بالأعداء والحاقدين من كل ناحية، وحين رأى الموت يسعى إليه على طريق ملئ بالأشواك، ولم يفقد هذه القوة النابعة من كيانه!

لقد التفت القائد إلى أعماق المتهم ، إلى كلماته ، إلى نظراته، إلى صلاته، لقد أيقن أن المصلوب وإن كان إنساناً بالجسد، إلا أنه يحمل فى كيانه البشرى طاقة إلهية لا تُرى، إلا لمن كان له بصيرة روحية، وقلب خاشع ملتحف بالنور.. وهكذا آمن بالمسيح حين رآه يتشح بالجلال فى مواقف المذلة والهوان ! ويتشح بالنبل والسمو وقد أحاطت به كلاب الحقد والتعصب والكراهية ! وحين رآه يتدفق حباً وقد غلب بحبه كل قوى الأعداء ! ورآه يفيض نوراً ومن حوله تتكاثف الظلمات!

لا ننكر أن اليهود قد رفضوا الاعتراف ببنوه المسيح لله ، لكن الله لا يترك نفسه بلا شاهد، ففى الوقت الذى رفض فيه اليهود الاعتراف بألوهية المسيح وبنوته لله، وكانوا يعيرونه بأنه لا يمكن أن يكون ابن الله لأنه لم يستطع أن ينزل من على الصليب (مت26 : 63 ، 64 ) نرى قائد المئة والجنود الذين معه يقدمون هذه الشهادة وهى خلاصة الإيمان المسيحى: حقا كان هذا هو ابن الله.

يقول الأنبا بولس البوشى
” القائد والجند الذين معه لما نظروا الآيات الكائنة مع الزلزلة التى حدثت عند إسلام الروح خافوا جداً وخشعت قلوبهم، وبفعل المصنوعات استدلوا على الصانع وقالوا : ” حقاً كان هذا هو ابن الله “.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي