أي لسان يستطيع أن يعبّر عن هذا العيد، وأي عقل يستطيع أن يستوعب ما حصل اليوم؟ أي قلب يستطيع الارتقاء إلى هكذا إلهيات، وأي أفكار يمكنها أن تحيط بهذا السرّ الرهيب؟
آباء الكنيسة العظام جميعاً عبّروا عن ذهولهم بهذا السرّ وعن عجزهم عن وصف هذا العيد. فأي فم فصيح يمكنه أن يبالغ في مديح والدة الإله، وأي عقل حصيف يمكنه أن يستوعب حياتها ورقادها؟ حقاً إن رقاد العذراء هو سرٌّ؛ ليس هو مجرد رقاد قديس، بل هو سرّ دخول أول شخص بشري متألّه إلى الملكوت السماوي، وسرّ دخول طبيعتنا البشرية المفتداة والمتجدّدة إلى سماء السماوات، لا في شخص ربنا يسوع المسيح هذه المرة بل في شخص أمّه، التي هي أكرم من الشيروبيم أرفع مجداً من السيرافيم.
في التجسد اتحدت طبيعتنا البشرية الجامعة بطبيعة الله في شخص المسيح. في صعود المسيح صعدت الطبيعة البشرية الجامعة وجلست عن يمين الله الآب في شخص يسوع المسيح. أما اليوم، فطبيعتنا البشرية المفتداة تصعد في شخص بشريٍ متألّهٍ، لتدخل سماء السماوات، وتتوَّج ملكة السماء والأرض.
ولادة العذراء من والدين عاقرين كانت سرّاً. حبلها بابن الله من الروح القدس كان سراً. ولادتها وهي بتول ليسوع المسيح كانت سراً. حياتها بالروح القدس في صمتٍ وتواضع وتأمل متواصل بكل كلمة وفعل صادرين من لدن ابنها وإلهها جعلتها ثكلى بالعشق الإلهي الذي ما بعده عشق. فكيف لا تعشق المسيح وهو ابنها، وكيف لا تعشقه وهو إلهها وباريها؟ وكيف لا تغدق علينا نحن البشر شآبيب محبتها، وهي التي بحنانها قالت وتقول دوماً للسيد: “ليس لهم خمر”؟
اليوم، لما حان أوان دخول الملكة والسيدة والأم والعروس إلى قدس أقداس السموات، وإلى سماء السموات، تتهلل الملائكة ورؤساء الملائكة، وتبتهج القوات السماوية، وتتزعزع قوات الشر والظلام. فمريم البتول، الابنة التي نست بيت أبيها ليشتهي الملك حسنها، قد صارت أمّاً؛ هذه الأم صارت ملكة، فخر العذارى والأمهات، ودخلت بكل أبهة ملوكية إلى عرشها حيث لا يدانيها مخلوق آخر.
وكما تجرأ الموت فابتلع المسيح فوجده طُعماً أمات الموتَ لأنه الحياة الأبدية، هكذا تجرأ الموت فاقترب من والدة الإله، ولكنه لم يستطع الامساك بها، إلا لفترة وجيزة، فهُزم بها وهي أم الحياة وأم النور.
أتى المسيح السيد ليقتبل روح أمه البارة الممتلئة نعمة كما يليق بها، وأتى الرسل لينشدوا تسابيح جنائزية لجسدٍ حمل الحياة واتحد بنعمة الحياة الأبدية إلى الأبد. تقدّس الأثير بروح أم السماء والأرض، وتقدست الأدمة بجسدٍ صار الهيكل الحقيقي الذي رمز إليه هيكل أورشليم.
كيف سيذوي الموت نفساً صارت بالروح القدس خدراً لابن الله
، وكيف سينقضّ الفساد على جسد صار هيكلاً حقيقياً لله المتجسد؟
لهذا السبب تدعوها الكنيسة “الفائقة على كل البركات”، و”الفائق قدسها”. فاللسان يعجز عن وصف دقائق حياتها ورقادها وصعودها إلى الملكوت. حقاً كما أن المسيح سرٌ لا نقترب منه إلا بالروح القدس، بالصلاة والتأمل، هكذا هي أمه: إنها سرٌ، لا يمكننا الاقتراب منه إلا بالروح القدس ذاته، بالصلاة والتأمل. إنها سرٌ يعجز عن سبره لا البشر فحسب، بل والملائكة ورؤساء الملائكة أيضاً: “افرحي يا عمقاً يُمتنع النظر إليه من أبصار الملائكة!” إنها فائقة على كل فهمٍ وعقلٍ!
اليوم تنتقل أم الله من مجد إلى مجد، ومن حياة إلى حياة، ومن نعمة إلى نعمة. اليوم تنفتح السماء وسماء السموات أمام أول شخص بشري متألّه، لتدخل باكورةُ جميع القديسين إلى مجدٍ لا يستطيع إنسان أو لسان أن يعبّر عنه. فبشفاعاتك أنقذي من الموت نفوسنا!