.
تحتفل الكنيسة القبطية بتذكار عيد نياحة السيدة العذراء مريم والدة الإله فى يوم 21 طوبة،
وتنيحت والدة الإله القديسة السيدة العذراء مريم الدائمة البتولية عندما بلغ عمرها 58 سنة و 8 شهور و 16 يوم.
ويروى التقليد الكنسى حسب أقوال القديس البابا كيرلس الكبير، والبابا ثاوفليس ال 23، وحسب ما ورد فى سنكسار الكنيسة القبطية: فيقول قداسته: أنه بينما كانت والدة الإله ملازمة الصلاة أعلمها الروح القدس أنها ستنتقل من العالم ثم حضر اليها عذارى الزيتون وكذلك جميع الرسل ماعدا توما، الأحياء فقط، وأجتمعوا حولها، ثم جاء السيد المسيح له المجد مع الملائكة وأعلمها بالسعادة التى أعدت لها، ثم بارك الرسل والعذارى، ثم أسلمت روحها بيد ابنها يسوع المسيح، فأصعدها الى المساكن العلوية معه..
وأما جسدها الطاهر، فدفنه الرسل، وفيما هم ذاهبون به خرج بعض اليهود لمنع دفنها، وأمسك أحدهم بالتابوت، فأنفصلت يداه من جسمه، وبقيتا معلقتين بالنعش، حتى ندم باكياً بالدموع، وبتوسل الرسل عادت يده إلى جسمه ثانياً.
فوضعوا جسدها الطاهر المقدس فى تابوت من خشب وأغلقوه ووضعوه فى صخرة وأغلقوها. وعندما هموا بالإنصراف، فاذا بصوت تسبيح الملائكة، فأقاموا هناك ثلاثة أيام يسمعون تسبيح الملائكة، وعندما أنقطع صوت التسبيح الملائكى، أنصرفوا الرسل من عند قبرها المقدس.
فأخذ الابن يسوع المسيح جسد أمّه، ذلك الهيكل الطاهر الذي قدّسه الروح القدس وسكن فيه ابن الله تسعة أشهر، وقد اتّخذ منه دمه ولحمه، ولم يتركه يرى الفساد والإنحلال كسائر أجساد البشر.
ولم يكن توما الرسول معهم، لأنه كان فى الهند يبشر.. فقد دعاه السيد المسيح ليرى ظهور إصعاد جسد مريم المبارك، وإذا بصوت من السحاب يقول له: أسرع يا توما وقبل جسد القديسة مريم العذراء، فأسرع وقبله..
وعند حضوره إلى أورشليم، سأل التلاميد عن العذراء؟ فقالوا له عن نياحتها. فقال لا أصدق إلاَّ لما أرى جسدها، فلما فتح التلاميد القبر لم يجدوا جسد السيدة العذراء، فدهشوا وخافوا أن يكون الجنود أو اليهود قد سرقوا جسدها. ولكن توما طمأنهم وعرفهم كيف أنه شاهد إصعاد جسدها الى السماء، “وهنا سمع التلاميذ صوت من السماء يقول: أن الرب لم يشأ أن يبقى جسدها فى الأرض..
فصام الرسل لكى يريهم الرب جسدها، وصاموا إلى يوم 16 مسرى حيث تم الوعد لهم برؤيتها كما رأها توما – أخذهم الرب بالروح ليروا جسدها الطاهر فى الفردوس – فأمنوا وصدقوا وبشروا الخبر بين المؤمنيين من شعوب الكرازة بأورشليم.
وقيل أن الرب يسوع المسيح دفن جسد أمه تحت شجرة الحياه فى الفردوس إنتظاراً ليوم القيامة العامة.
وفى هذا جاء بمقال للبابا ثيؤدوسيوس الإسكندري (حوالي عام 565- 600م)، بالقبطية البحيرية عن [نياحة مريم]، أنها واجهت حزن الرسل على موتها بالسؤال التالي: [أليس مكتوب أن كل جسد يلزم أن يذوق الموت، هكذا يليق بي أن أعود إلى الأرض ككل سكان الأرض!].
ووقت نياحتها حضر لها السيد المسيح، وهى مازالت فى الجسد على الأرض وقال لها: حتى لا يشك أحد فى الجسد الذي أخذته منك يا أمى، فحينما عصى آدم أمري أنزلت عليه حكم الموت، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ (تك2: 17).
أنا نفسي، وإن كنت الحياة ذاتها و حياة كل بشر قد ذقت الموت في جسدي الذي أخذته منك الآتي عن جسد آدم جدك.
كما يقدم النص السابق تعليلا آخر لموتها ألا وهو تأكيد حقيقة التجسد، فقد أورد حديثاً للسيد المسيح مع أمه، لكن حيث أن لاهوتي كان متحداً به أقمته من الموت، وكنت أود أن لا تذوقي الموت لأرفعك إلى السماء مثل أخنوخ وإيليا ولكن حتى هذان سيذوقان الموت.
ولكن إذا حدث ذلك فيك، فإن الناس الأشرار قد يصل لهم التفكير ويظنوا أنك مجرد قوة ما نزلت من السماء وأنى أعطيتك تدبيراً ظاهراً فقط، وأن ما تحقق من تدبير (التجسد) لم يكن إلا مظهرا..”
فإيليا وأخنوخ لم يموتا بعد، لكن العذراء مريم ماتت، ودفنوها في الجثسمانية، لكن الملائكة حملت جسدها بعد موتها وصعدت به إلي السماء بعد ثلاثة أيام من موتها..
ولذلك، فإن الكنيسة القبطية تعيد لموت العذراء ولتذكار رؤية إصعاد جسدها بعيدين منفصلين، فتعيد لموت العذراء في 21 من طوبة، بينما تعيد لتذكار إصعاد جسدها في16مسري.
ويجب أن نعرف أن السيد المسيح مات لأجل خلاص البشرية، ولكن هو لم يمت لأنه ينطبق عليه حكم الموت، أما العذراء فماتت لأنها ورثت حكم الموت وفساد البشرية بسبب تعدي جدها آدم.
ولذلك قال معلمنا بولس الرسول، أن فى آدم يموت الجميع ولا إستثناء لأحد حتى لو كانت العذراء مريم نفسها التى ذاقت الموت بسبب نتائج تعدي أبونا آدم: فَإِنَّهُ إِذِ الْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ بِإِنْسَانٍ أَيْضاً قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ. لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ (1كو15: 21، 22).
ويقول أيضاً: أن الموت ملك على جميع البشر من آدم إلى موسى وهى فترة ما قبل نزول الشريعة، وبسبب خطية آدم مات الكثيرون، وبسبب خطية واحد (آدم) صار حكم الموت على جميع الناس (بما فيهم العذراء مريم)، بدون إستثناء، فيقول: لَكِنْ قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى مُوسَى.. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ الْكَثِيرُونَ.. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ الْوَاحِدِ قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ بِالْوَاحِدِ (رو5: 14- 17).
وأن إيمان الكنيسة الأولى: بأنّ ابن الله الذي اتّخذ جسدًا من أحشاء مريم العذراء، وصار لها ابنًا حقًّا، وخصّها بشرف البتوليّة الدائمة، أكمل نعمته عليها، فصان جسدها من فساد القبر، ونقله إلى المجد السماوي.
فابن الله صار ابن مريم، وجسد كليهما واحد. وحيث يكون جسد الإبن هناك جسد أمّه أيضاً. وكما أقام الله الآب جسد ابنه ولم يتركه ” يَرَى الفَسَاد”، كما قال معلمنا بطرس: اَلَّذِي أَقَامَهُ اللهُ نَاقِضاً أَوْجَاعَ الْمَوْتِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ.. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَاداً.. فَيَسُوعُ هَذَا أَقَامَهُ اللهُ وَنَحْنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِذَلِكَ (أع 2: 22- 32)،
كذلك أقام الابن يسوع المسيح جسد أمّه العذراء مريم الدائمة البتولية.
سؤال: هل صعدت العذراء مريم بجسدها كما صعد إيليا وأخنوخ؟
الرد: إصعاد جسد العذراء مريم كان ذلك بعد موتها بثلاثة أيام، أى يوم 24 طوبة، وهنا يختلف أمر هذا الإصعاد عن إصعاد إيليا النبي. فإيليا صعد حياً بجسده وروحه إلي السماء، كقول الوحى الإلهى: وَفِيمَا هُمَا يَسِيرَانِ وَيَتَكَلَّمَانِ إِذَا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ وَخَيْلٌ مِنْ نَارٍ فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا، فَصَعِدَ إِيلِيَّا فِي الْعَاصِفَةِ إِلَى السَّمَاءِ (2مل 2: 11)، وكذلك أيضاً أَخْنُوخُ، لَمْ يُوجَدْ، لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ، كقول الوحى الإلهى: وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ (تك5: 24)، وقال عنه معلمنا بولس: بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ (عب11: 5).
سؤال: لماذا لم تصعد العذراء مريم بجسدها حية كما صعد إيليا وأخنوخ؟
الرد: ماتت العذراء مريم أولاً وأُخذت روحها للسماء، ثم أُصعد جسدها بعد ذلك بثلاثة أيام علي أيدي الملائكة،
فلأنه كان ينبغي أولاً أن تموت كموت البشر، كقول معلمنا بولس: وَكَمَا وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً (عب9: 27).
وحقاً إن أخنوخ نقل بجسده (تك5: 24)، وكذلك صعد إيليا في العاصفة إلي السماء وهو في الجسد (2مل2: 11)، لكن هذين القديسين لابد أن ينزلا إلي الأرض مرة أخري ويموتا، ويري بعض اللاهوتيين أنهما سيموتان شهيدين في حكم الدجال، بحسب قول معلمنا يوحنا: مَتَى تَمَّمَا شَهَادَتَهُمَا فَالْوَحْشُ الصَّاعِدُ مِنَ الْهَاوِيَةِ سَيَصْنَعُ مَعَهُمَا حَرْباً وَيَغْلِبُهُمَا وَيَقْتُلُهُمَا (رؤ11: 7)،
فلا إستثناء في قضية الموت، كقول المرنم: أَيُّ إِنْسَانٍ يَحْيَا وَلاَ يَرَى الْمَوْتَ؟ أَيٌّ يُنَجِّي نَفْسَهُ مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ؟ (القبر)؟ (مز89: 48).
ويقول ابونا البابا أثناسيوس الرسولي : لأن مريم القديسة التي أخذ منها جسده، كانت قابلة للموت، لذلك فمن الضروري حينما كان في الجسد أن يعاني، وأن يبكي، وأن يتعب، فهذه الأمور التي تخص الجسد، تنسب إليه مع الجسد.. انظر المقالة الثالثة
ضد الآريوسيين، 3 : 56، ص 102
سؤال آخر: هل العذراء جالسة عن يمين السيد المسيح الآن أم هي في موضع الإنتظار [فردوس الأبرار]؟
الرد: جسد العذراء قد رفع إلي السماء تكريماً له، وهو محفوظ في السماء في الفردوس بمفرده، إلي يوم القيامة العامة (عن ميمر للقديس كيرلس الكبير).
سؤال: هل هناك إثبات من العهد الجديد عن صعود جسد السيدة العذراء بخلاف المذكور فى السنكسار.
الرد: ليس بالطبع ما يثبت ذلك في الكتاب المقدس، ولكن التقليد له نفس قوة الوحى الإلهى، فموت السيدة العذراء، وإصعاد جسدها بعد ذلك، حقيقة مؤكدة. بالرغم من أن الوحى الإلهى لم يكتب عنه. كما أيضا لم يذكر شيئاً عن موت أو استشهاد أكثر الآباء الرسل القديسين، فلم يتكلم بشئ عن قطع رأس بولس، أو صلب بطرس، أو أندراوس أوكيف أنتهت حياة فيلبس، أو متي، أو توما، أو يوحنا، أو يعقوب الصغير، أو لباوس، أو سمعان القانوي، أو برثولماوس، أو يهوذا (ليس الأسخريوطي)، أو متياس. إن الكتاب المقدس تحدث عن موت رسولين فقط، وهما يهوذا الإسخريوطي (مت527)، ويعقوب بن زبدي أخو يوحنا (أع12: 2)، (أع1: 18).
لكن تاريخ الكنيسة بعد الكتاب المقدس هو الذي سجل الأحداث التي لم يسجلها الكتاب المقدس، ولهذا، فإن الكنيسة رتبت في طقوس القداس قراءة كتاب تراجم القديسين والشهداء (وهو السنكسار) بعد قراءة سفر الأعمال مباشرة لأنه أمتداد له في تسجيل تاريخ الكنيسة.
علي أن حقيقة إصعاد جسد السيدة العذراء حقيقة معترف بها، منذ أقدم عصور الكنيسة، وعند جميع الكنائس الرسولية، لأنها تقليد رسولي عن القديس يوحنا الرسول الذي شهد كل تفاصيل حياة السيدة العذراء وموتها، وإصعاد جسدها إلي السماء، كذلك هي رواية سائر الرسل الذين حملتهم سحب السماء، بأمر الروح القدس ليشاهدوا والدة الإله مريم في انتقالها من هذا العالم الزائل، ورووا هذه الواقعة للمؤمنين في جميع هذه البلاد التي كرزوا فيها، فذاع النبأ في الكنيسة الأولي، وصار تقليداً رسولياً في جميع الكنائس الرسولية، منذ العصر الرسولي الأولي. وقد سجل آباء الكنيسة هذا التقليد في كتب الكنيسة ومنها السنكسار.
سؤال: ما الحكمة في أن إصعاد جسدها بعد موتها؟
الرد: لقد صعد جسد العذراء بعد موتها لأسباب لا ندعي معرفتها، ولعل فيها أن الله أراد أن يكرم هذا التابوت المقدس، الذي حل فيه كلمة الله المتجسد، فرفعه إلي مكان الكرامة والقداسة، إلي السماء إلي فردوس النعيم.
وايضا هو عربون لصعود أجساد المؤمنين في اليوم الآخير بأجساد غير فاسده كقيامة جسد ربنا
ولكن الفرق أن الله الآب أقام جسدالله الكلمة المتجسد لأنه الحياة بذاته،
أما جسد العذراء فأصعد للفردوس بلا فسد لكن بدون إتحاد الروح بالجسد..
# ولكن يوجد سؤال لم أعرف أجابته؟ كيف توجد روح العذراء فى الفردوس، وكذلك جسدها الذى فى الفردوس أيضاً؟
# الخلاصة: أن السيدة العذراء مريم بعد أن أكمَّلت
أيام غربتها على الأرض، وهى تصلى فى قبر إبنها يسوع المسيح كعادتها كل يوم، إذ ربنا أحضر لها الرسل والعذارى، ليروها ويأخذوا بركتها قبل أن تُسلم روحها الطاهرة بيد ابنها يسوع المسيح، وكان هذا اليوم يوافق 21 طوبة، فأخذ روحها الطاهرة للسماء، أما جسدها فكفنه التلاميذ والعذارى بكل إحترام وإجلال، ووضعوه فى صندوق خشبى ووضعوه فى قبر بكل أكرام.
وسمعوا أصوات الملائكة تسبح وترتل، فالرسل بقوا بجوار قبرها، وفى اليوم الثالث أنقطع صوت الملائكة، فرحلوا الرسل من عند القبر.
ولم يكن توما الرسول حاضراً يوم نياحتها، إذ كان يبشر فى الهند، ولكن أراه الرب إصعاد جسدها بعد نياحتها بثلاثة أيام أى فى يوم 24 طوبة، وحينما حضر إلى أورشليم، وقال للرسل أريد أن أرى جسد العذراء مريم فى قبرها، وعندما ذهبوا وفتحوا القبر وجدوه فارغاً، وهنا أوضح لهم معلمنا توما رؤيته لإصعاد جسدها الطاهر بيد ابنها للسماء وترك زنارها له.
“وهنا، سمع التلاميذ صوت من السماء يقول: أن الرب لم يشأ أن يبقى جسدها فى الأرض..
فصام الرسل لكى يريهم الرب جسدها، وصاموا إلى يوم 16 مسرى، حيث تم الوعد لهم برؤيتها كما رأها توما، – ويقال أن الرب أخذهم وأراهم جسدها فى الفردوس – فأمنوا وصدقوا وبشروا الخبر بين المؤمنيين من شعوب الكرازة بأورشليم.
أما الكنيسة الكاثوليكية، فتؤمن بعقيدة الحبل بلا دنس لأنها [حسب أعتقادهم، أنها وُلدت بلا الخطية الأصلية]، وبالتالى العذراء لم تمُت، بل صعدت للسماء بروحها وجسدها
الأسباب التى تبرر إصعاد جسدها الطاهر، منها:
• رُمز إلى العذراء قديماً بتابوت العهد، وكان يوضع فى قدس الأقداس، ومن مسه غير رئيس الكهنة فموتاً يموت، ولهذا فلا يليق أن يبقى جسدها المقدس الذى حمل المن الحقيقى مدفوناً فى الأرض، فروحها صعدت إلى السماء بيد إبنها وإلهها الحبيب، أما جسدها فأُصعد إلى السماء..
• هل يستحيل على الله شىء، فإذا كان إيليا وأخنوخ سارا مع الله إلى السماء حييين، فهل يترك جسد أمه فى الأرض الذى حمل جمر اللاهوت.
(صوم السيدة العذراء مريم، 22 – 8 – 2012 م).
3ـ صعود جسد العذراء مريم وتجلي الأجساد
اليوم نحن بصدد تكريم جسد العذراء، صعود جسدها إلى السماء هو عمل تكريمي فائق من قبل السماء. تكريم أجساد القديسين عقيدة أرثوذكسية، هذه العقيدة لا تنبع من فراغ.
موسى بعد مقابلة طويلة مع الله، استلم فيها الوصايا والناموس، أخذ وجهه يلمع بصورة لم يحتملها شعب إسرائيل، لأن النور الذي كان يعكسه وجه موسى كان نوراً إلهياً، والنور الإلهي يعبِّر عن حضرة إلهية، فالله كان يُرى في وجه موسى، لذلك اعتفى الشعب العاصي من رؤية وجه موسى لأن الخطية والله لا يمكن أن يتواجها، فلبس موسى برقعاً، اعتبره بولس تعبيراً عن عمى بصيرة هذا الشعب. (2كو3: 13، 14)
ثم عاد بولس الرسول يقول إن كانت خدمة الناموس الذي جلب الدينونة والموت أنشأت هكذا مجداً منظوراً للجسد ولمعاناً وإشراقاً لوجه الإنسان يمكن يُرى بالعين البشرية؛، فكم، بالأولى أو بالأحرى تنشئ خدمة البر من مجد؟؟
والآن، وعلى هذا الأساس، نقول فيما يختص بالعذراء، وجسد العذراء ووجه العذراء:
إن كان موسى، عند استلامه مجرد كلمات مكتوبة بأصبع الله، صار وجهه يلمع تعبيراً عن المجد الذي أصاب الجسد؛ فكم يكون المجد الذي يمكن أن يصيب جسد العذراء عندما تقبلت في أحشائها كلمة الله نفسه، ابن الله بشخصه متخذاً من جسدها جسداً له بعد إعدادٍ بواسطة الروح القدس وتظليل كلي بقوة الله من داخل ومن خارج. أيَّ مجد، إذن، أصاب جسد البتول؟ أو كما يقول بولس الرسول إن كانت خدمة الدينونة التي استلمها موسى بالوصايا والناموس أنشأت فيه مجداً نضح على جسده البشري نوراً إلهياً دام معه، فكم تنشئ بالحري خدمة البر التي اؤتمنت عليها العذراء بحلول النور الحقيقي في أحشائها وقبوله جسداً من جسدها؟
كلنا نعلم كيف أمات الله موسى ودفنه بنفسه في جبل [نبو] في رأس [الفِسجة] بعيداً عن أعين الشعب خوفاً من انحراف قد يصيب الشعب فيقوموا بعبادة جسده، لأنه يبدو أن النور ظل يشع منه حتى بعد موته، لذلك قيل عنه في سفر التثنية: «ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم» (تث 34: 6). ثم نعود ونقرأ شيئاً في رسالة يهوذا عن جسد موسى، يكشف عن أهمية خاصة لجسد موسى، أن ميخائيل رئيس الملائكة لما خاصم إبليس محاجاً عن جسد موسى وقال له: «لينتهرك الرب»! (يهوذا 9)
ويبدو من هذا أن رئيس الملائكة ميخائيل كان منوطاً به حراسة الجسد أو الصعود به إلى السماء. وحاول إبليس أن يسترده أو يكشف عن مكانه لتضليل الشعب. فوقعت معركة بينهما استنجد فيها رئيس الملائكة بالرب باعتباره رئيس جند السماء.
فإن كان قد صار اهتمام الله هكذا أن يقوم بدفن موسى بنفسه ثم يعين رئيس الملائكة ميخائيل لحراسة الجسد أو ربما الصعود به إلى السماء ـ حسب تقليد اليهود ـ وكل هذا كان بسبب أن جسد موسى نضح عليه مجد الله وانعكس عليه نور وجهه بسبب تواجده مع الله أربعين يوماً وقبوله من يديه وصايا مكتوبة، إذن فتكريم الأجساد في العقيدة الأرثوذكسية لا ينبع من فراغ، وبالتالي كم يكون اهتمام الله والمسيح نفسه بجسد العذراء بعد نياحتها الذي نال حلولاً دائماً للروح القدس وملء النعمة وتظليلاً خاصاً بقوة العلي ثم حلول المسيح القدوس كلمة الله تسعة أشهر في أحشائها؟
صحيح أنه لم يبلغنا أن جسد العذراء كان يلمع بنور سمائي، ولكننا نعلم يقيناً أن هذا كان تمادياً أو امتداداً للإخلاء الذي جازه المسيح ليخفي مجد لاهوته، لأن المسيح نفسه في كل أيام حياته لم يلمع جسده إلا مرة واحدة ولفترة قصيرة يوم التجلي؛ ومع أنه هو النور الحقيقي نور العالم كله الذي ينير دائماً أبداً لكل إنسان!!
واضح، إذن، أن هناك تدبيراً إلهياً وخطة وتصميماً لإخفاء كل مجد المسيح، وبالتالي العذراء، حتى لا يخرج الإيمان بالمسيح عن حدوده المرسومة، وحتي لا يفقد الصليب عاره، ولا تدخل كرامة العذراء في حدود عبادة أو تكريم يكون خاصاً بالله فقط.
إن نياحة العذراء كانت كنياحة موسى، احتاجت أن تتم في خفاء وإخفاء، خصوصاً وأن في زمن نياحتها كان الإنجيل قد بلغ أوج إستعلانه حيث عُرف المسيح أنه هو ابن الله الإله الحقيقي المولود من العذراء مريم. لذلك لا نسمع عن نياحة العذراء في الإنجيل أو في الرسائل، وبالتالي ظل صعود جسدها يُتداول بالتعليم السري فقط في القرون الثلاثة الأولى، حتى لا تتركز عليها أضواء أكثر من اللازم، فتنحرف العبادة لله عن مسارها.
وإن كان جسد موسى لأنه لمع وجهه بنور الله احتاج من الله أن يدفنه بنفسه وينيط بحراسته رئيس الملائكة ميخائيل، فلا نتعجب أبداً حينما نسمع أن المسيح جاء بنفسه وقت نياحة العذراء واستقبل روحها الطاهرة وصعد بها إلى السماء، أما الجسد فبلا شك أنه أحيط بحراسة خاصة من رئيس الملائكة ميخائيل إلى أن رُفع إلى السماء في الوقت المحدد.
وهكذا فإن جسد العذراء الذي كان موضع عناية الآب السمائي منذ لحظة البشارة وقبول الحمل الإلهي لم يزل مكرماً حتى رفعه الله بكرامة ملائكية.
أما صعود جسد العذراء فتكريماً لهذا الصعود هو جزء لا يتجزأ من إيماننا بالأخرويات – أي حياة الدهر الآتي ـ لأنه معروف أن قيامة الأجساد من صميم عمل المسيح في الدهر الآتي، وإن كان صعود جسد العذراء ليس في حقيقته فعل قيامة، إلا أنه حالة تجلي، ظهر فيها الجسد محمولاً على أيدي قوات ملائكية تمهيداً لقيامة تمت أو ستتم هناك.
العهد الجديد مليء بحالات تجلي للجسد، المسيح بدأ هذا العمل الأخروي في نفسه، في جسده الذي أخذه منا، وذلك على جبل التجلي مع بطرس ويوحنا ويعقوب، إذ جعله يضيء أمامهم بلمعان أكثر من الشمس كباكورة ونموذج لما ستصير عليه أجسادنا حينما يكمل فداؤها؛ ومن ذلك الحين والبشرية كلها بل والخليقة تئنُّ وتتمخض معاً تنتظر التبني فداء أجسادنا، الخليقة كلها، وليس أجسادنا فقط، مدعوة للتجلي. ثوب المسيح أضاء ببياض ناصع أكثر من الثلج. الإشارة هنا واضحة أن المسيح نور العالم والخليقة، فالخليقة وكل المخلوقات ستأخذ كيانها الجديد من المسيح الآتي.
تكريم الأجساد القديسة والمضيئة هو عمل أخروي، هو امتداد ليوم التجلي عبر الدهر الحاضر، هو حياة بالإيمان لحياة الدهر الآتي، المسيح منذ يوم التجلي وهولا يكف عن أن يسكب نوره على أجساد ووجوه قديسيه. برية شيهيت تشهد بذلك وقد نالها النصيب الأوفر في تقبُّل النور السمائي:
القديس العظيم أنبا مقار شهد له سبعة آباء عظام أنهم رأوه مضيئاً داخل قلايته في ظلام الليل.
الأب القديس شيشوي ساعة نياحته، وكل الآباء جالسون حوله، رأوا وجهه يشع منه نور الشمس، وظل هذا النور يتزايد حتى لحظة خروج الروح، فصار النور يخطف العين كالبرق وامتلأت القلاية من رائحة البخور!
الأب بامو الذي ينطقونه ”بموا“ قيل عنه إن الله مجَّده إلى درجة أنه كان يصعب أن يتطلع أحد إلى وجهه بسبب المجد الذي كان يشع منه، فكان يبدو كملك على عرشه.
أرسانيوس القديس دخل عليه تلاميذه فجأة وهو يصلي فوجدوه كله كالنار.
القديس يوسف الكبير رآه إخوته وهو يصلي رافعاً يديه وإذا بأصابعه كعشر شعلات من النار.
ونحن لا نستطيع أن نرى في هذه العينات المضيئة من الوجوه والأجساد إلا امتداداً حقيقياً لتجلي المسيح عبر يوم الخمسين بحلول الروح القدس كألسنة نارية مستقرة على الأجساد تهيئها للتجلي والقيامة المزمعة أن تكون.
إن تكريم العقيدة الأرثوذكسية لأجساد القديسين هو في الحقيقة امتداد لفرحة بطرس الرسول بنور المسيح المشِّع واندفاعه الإيماني: «يا رب جيد أن نكون ههنا.» (مت17: 4)
الرب المتجلي حاضر في قديسيه يشع بنوره وبروحه القدوس في أجسادهم ووجوههم. التقديس يتجاوز الروح والنفس ويصيب الجسد ويملأه أحياناً. الجسد وهو موجود في العالم أصبح محسوباً أنه ليس من هذا العالم، يقتات من خبز الجسد وخبز السماء معاً، يستنير بنور هذا الدهر وبنور السماء معاً!! ثم أليس هذا إستجابة لدعوة الرسول: «مجِّدوا الله في أجسادكم»؟ (1كو6: 20)
إن تعييدنا اليوم لجسد العذراء الصاعد إلى السماء هو بالحقيقة تمجيد للرب الذي لا يزال يتمجد كل يوم في قديسيه.