تجديد مستمر
اكتشاف داود النبي لثقل الخطية وفساد الطبيعة البشرية منذ لحظات الحمل بالجنين لم يقدْه إلى اليأس، بل إلى الصراخ إلى الله القادر بروحه القدوس أن يهب التجديد الكامل للإنسان الداخلي. إنه يؤمن بالله الخالق، الذي لا يُصلح القلب بوضع خمر جديدة في زقاق قديم، أو وضع رقعة جديدة في ثوبٍ قديمٍ، إنما بالخَلْق من جديد، أو كما يقول الرسول بولس: “خليقة جديدة في المسيح يسوع”. وكأن داود النبي وقد عرف إمكانية الله لا يطلب أقل من معجزة الخلق!
قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اللهُ،
وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي [10].
* نصير بالحقيقة أحرارًا عندما يدبر الله حياتنا، أي يشكلنا ويخلقنا لا ككائنات بشرية، فإن هذا قد صنعه بالفعل، بل يجعلنا شعبًا صالحًا، الأمر الذي يفعله الآن بنعمته، حتى نصير خلائق جديدة في المسيح يسوع. لهذا نقدم الصلاة: “قلبًا نقيًا أخلقه فيّ يا الله” (مز 51: 10).
* “لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها”. إذن ما هي غاية قوله: “مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة”؟ ولماذا عاد فقال: “مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة”…؟
اسمع الآن وافهم أن عبارة “ليس من أعمال” قيلت عن الأعمال التي تظن أن مصدرها هو أنت وحدك. لكن لتفتكر في الأعمال التي يشكلها (يخلقها ويكونها) الله فيك. عن هذه يقول: “نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق فأعدها الله لكي نسلك فيها”.
إنه لا يتكلم عن “مخلوقين” بخصوص خلقتنا ككائنات بشرية، بل الخلقة التي قيل عنها… “قلبًا نقيًا اخلقه فيَّ يا الله” (مز 51: 2). والتي قال عنها الرسول: “إذًا إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا، ولكن الكل من الله” (2 كو5: 17-18).
القديس أغسطينوس
* “قلبًا نقيًا اخلقه فيَّ يا الله” (مز 51: 10). إنه يطلب مثل هذه الخلقة، ليس كمن ليس له قلب، وإنما إذ أفسده يشتهي أن يرجع ويكون نقيًا.
القديس ديديموس الضرير
* القلب في أصل خلقته نقي، لأن الله خلقه؛ وكل ما خلقه الله صالح ونقي، ولا يحتاج إلى تجديد. لكن قوله هنا “قلبًا…” يقصد به الفكر الهاجس في الزيغان، فإنه يطلب تطهيره من الهواجس السمجة… وقد جاء في نبوة حزقيال: “وأعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدة في داخلكم” (حز 36: 26).
الأب أنثيموس الأورشليمي
* إنه ليس دنس الجسد بل دنس النفس الذي ينفر الله منه… ماذا يقول النبي؟ “قلبًا نقيًا اخلقه فيَّ يا الله” (مز 51: 10). وأيضًا: “اغسلي من الشر قلبكِ” (إر 4: 14).
القديس يوحنا الذهبي الفم
* يُظهر الرب أن الشعب النقي القلب هو مطوَّب. إنهم هؤلاء الذين إذ يعيشون بالإيمان بالله بذهنٍ نقيٍ وضميرٍ بلا غضنٍ، يرجون الحق في رؤية إله المجد في الملكوت السماوي العتيد. وكما يقول الرسول إنه ليس في مرآة في لغز، لكن وجهًا لوجه (أنظر 1 كو 13: 12).
الأب خروماتيوس
إن كنا قد نلنا الميلاد الجديد في مياه المعمودية، فصار لنا في أحشائنا القلب الجديد والروح المستقيم، لكننا نحتاج إلى تجديد يومي مستمر بالتوبة الدائمة وعمل الروح القدس فينا في استحقاقات الدم. يرى القديس أغسطينوس أن أصحاب القلب النقي يشعرون بخطاياهم، ويقدمون عنها توبة دائمة، أما المنحرفون، فيظنون في أنفسهم أنهم أبرار، وإن سقطوا في ضيقة يلومون الله.
بالقلب النقي والروح المستقيم الذي في داخلنا نرى الله مخلصًا، فنرتمي دومًا عند قدميه، طالبين غفران خطايانا، وينسحب قلبنا إلى أحضانه، لنجد فيها ميراثنا الأبدي. نرى في إخوتنا صورة الله، فنقدّرهم. وإن سقط أحدهم، مهما بلغت سقطته، لا نيأس من خلاصه، بل نصلي لأجله، ونقدم له أعمال محبة تجتذبه نحو العريس السماوي نفسه! هذا هو عمل الروح القدس فينا: يبكتنا على خطايانا، ويلهب قلبنا بالحب نحو الله والناس. لهذا يصرخ المرتل، قائلًا:
لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ،
وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي [11].
إن كانت الخطية تفقدنا الالتقاء مع الله والشركة معه، فإن روح الله القدوس المُبكِّت على خطية والواهب المغفرة يردّنا إليه.
* يعتبر العبد صرف وجه سيده عنه خسارة عظيمة، وكذلك الابن إذا ما ولَّى أبوه نظره عنه، وأيضًا الجندي إذا أقصاه الملك عن طلعته. أما إذا طرح الله الإنسان عن نظره فيكون ذلك له هلاكًا وإبادة، لأن الله هو سيدنا وأبونا وملكنا وخالقنا، وهو علة وجودنا وخلاصنا وصلاح كياننا…
صرْف وجهه عنه ينزع عنه الروح القدس…
الروح القدس هو هبة الله، كما نفخ ربنا في رسله القديسين، وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، وبه أعطاهم حل خطايا البشر وربطها.
الأب أنثيموس الأورشليمي
* سأل المزمور مجيء الروح القدس، ووعد الإنجيل بمجيئه (يو 16: 13)، وروى لنا سفر الأعمال عن حقيقة حلوله… وُجد توسل في المزمور، ووعد في الإنجيل، وتحقيق للوعد في الأعمال.
الأب قيصريوس أسقف آرل
* قبلما صار الكلمة إنسانًا منح القديسين الروح بكونه روحه، وأيضًا قال لتلاميذه: “اقبلوا الروح القدس” (يو 20: 22).
لقد أعطى الروح لموسى والسبعين الآخرين، كما صلى داود خلال الكلمة طالبًا من الآب: “روحك القدوس لا تنزعه مني”. ومن جانب آخر، إذ صار إنسانًا قال: “أرسل لكم الباراكليت، روح الحق”، وقد أرسله كلمة الله بكونه أمينًا (في وعده).
القديس أثناسيوس الرسولي
يكمل المرتل هكذا:
رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِك،َ
وَبِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ أعْضُدْنِي[12].
لقد حسب المرتل أن الخطية أفقدته التمتع بوجه الله، كما حرمته من عمل الروح القدس واهب البهجة الحقيقية بالخلاص، وواهب الرئاسة والسلطة، حيث يملك في الداخل ليقود النفس والجسد بكل طاقاتهما في طريق ملوكي مقدس بلا انحراف. كما أفقدته قوة الشهادة أمام الغير.
* يعتبر داود أن الروح القدس يُمكن أن يُسحب ويُؤخذ، لهذا يصلي كي لا يؤخذ منه، قائلًا: “لا تطرحني من قدام وجهك، وروحك القدوس لا تنزعه مني”؛ وفي العبارة التالية يطلب الهبة التي سُحبت منه بسبب الخطية، إذ يقول: “رُد لي بهجة خلاصك، وبروح رئاسي أعضدني“.
العلامة أوريجينوس
* رُد لي ما كان عندي، ما قد فقدته بالخطية، أعني ما يخص مسيحك.
القديس أغسطينوس
* الروح القدس الذي طلبه داود لجنس البشر، قائلًا: “أعضدني بروحك الكلي الرئاسة”… الذي حلَّ في يوم البنطقستي على التلاميذ بعد صعود الرب، له قوة أن يضم كل الأمم إلى مدخل الحياة، وأن يقيم عهدًا جديدًا، هؤلاء الذين باتفاقٍ واحدٍ يسبحون الله بكل اللغات. جاء الروح بالقبائل البعيدة إلى الوحدة، مقدمًا للآب بكر كل الأمم.
القديس إيريناؤس
* إذا سقط إنسان في خطية يفقد بهجة قلبه، ويمشي كئيبًا وحزينًا من شدة نخس ضميره، لكنه إذ يخلص من الخطية بالتوبة ترتد إليه بهجة الخلاص…
وأيضًا خلاص الأمم هو ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، لذلك يسأل النبي من الله الآب أن يبهج العالم بمجيء ابنه إليه متجسدًا.
وأما روح رئاسي فهو الروح القدس الذي يسود ويرأس كافة الخليقة.
الأب أنثيموس الأورشليمي
* مرة أخرى نمارس صلاة الساعة الثالثة والإخوة مجتمعون، بالرغم من أنهم تفرقوا إلى أعمالهم المختلفة. إذ نذكر عطية الروح القدس التي قُدمت للرسل في وقت الساعة الثالثة، يلزمنا أن نتعبد معًا في اتفاقٍ واحدٍ، لكي نتأهل نحن أيضًا أن نقبل تقديسه لنا. يلزمنا أيضًا أن نسأل قيادته لنا وتعليمه حسب احتياجاتنا، كما يقول المرتل: “قلبًا نقيًا اخلق فيَّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدده في داخلي. لا تطرحني من حضرتك، وروحك القدوس لا تنزعه مني. امنحني راحة عونك. أسندني بروحك المحرر” (راجع مز 51: 12-13).
القديس باسيليوس الكبير
إن كانت الخطية قد أفقدت الإنسان كما البشرية سلامها الداخلي الحقيقي وفرحها الصادق، فإن عمل الله الخلاصي يرد لنا البهجة، فنبكي على خطايانا، وترقص نفوسنا متهللة بعمل الله فينا. هذا ما عناه السيد المسيح عندما وبخ اليهود رافضي خلاصه: “زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تبكوا” (لو 7: 32). وقد بدأ بالرقص، لأن الله وإن طلب دموعنا للتوبة، لكنه يبغي فرحنا الداخلي، وتمتعنا بالحياة المطوَّبة.
يقول مار إسحق السرياني: [إن بين المنهمكين بأمور العالم وبين المنشغلين بالتاوريا (التأمل) فرقًا. الأولون تبتدئ أمورهم لذيذة، بهِجة ومُفرحة، وتنتهي مُرّة كئيبة ومظلمة. أما الآخرون، فتبتدئ أمورهم مريرة محزنة ومظلمة، إلاَّ أنها تنتهي بالفرح والبهجة والسرور. والذي ذاق الطريقين يعرف قيمة هذا القول.]