admin
نشر منذ سنتين
8
مزمور 135 – تفسير سفر المزامير

شخصك العجيب وأعمالك تدفعنا للتسبيح!

يُعتبر المزموران 135 و136 مزموري تسبيح، كان اليهود يسبحان بهما في الخدمة الصباحية يوم السبت، وأيضًا في عيد الفصح. وكانا يدعيان “الهلليل العظيم“.
هذا المزمور هو دعوة للتسبيح لاسم الله العظيم العامل دومًا لحساب شعبه، وذلك مقابل الأوثان الجامدة التي بلا حياة.
يرى البعض أن هذا المزمور وإن كان ليس من مجموعة مزامير المصاعد مثل المزمور السابق (مز 134)، غير أنه توجد أفكار مشتركة بينهما، بل وعبارات مشتركة بينهما، والاثنان يحثان على التسبيح. غير أن المزمور السابق يحمل حثًا على التسبيح دون تقديم دوافع هذا الحث، أما هنا فيشير إلى أعمالٍ معينة لله تدفعنا نحو تسبيحه.
المزمور السابق موجه إلى اللاويين وحدهم، أما هذا المزمور فموجه إلى الكهنة واللاويين، وإلى كل الشعب، بل وإلى خائفي الرب [20].

1. دعوة للتسبيح
1-3.
2. دوافع التسبيح
4-18.
أ. اختياره لنا شعبًا له
4.
ب. إله الخليقة القدير
5-7.
ج. إله التاريخ
8-14.
د. إله البهجة الأبدية
15-18.
3. ختام تسبيحي
19-21.
من وحي مز 135
مزمور 135 - تفسير سفر المزامير - شخصك العجيب وأعمالك تدفعنا للتسبيح!

1. دعوة للتسبيح

ما يطلبه الله من شعبه هو التسبيح، ليس لأنه محتاج إليه، ولا لأنه يطلب لنفسه مجدًا، وإنما بالتسبيح يهب سرورًا لشعبه، ويجعلهم أشبه بالملائكة. جاء في 2 أي 5: 13عندما تم بناء الهيكل وأُُحضر تابوت العهد، استجاب الرب لتسبيحهم بحضوره المجيد الذي وهبهم بهجة حقيقية.
هذا التسبيح هو من عمل اللاويين وأيضًا الشعب.
يفتتح المرتل هذا المزمور بالدعوة للتهليل والتسبيح أربع مرات [1-3]، كما يختمه بدعوة لمباركة الرب أربع مرات [19-20]. ويقدم لنا الدوافع التالية لتسبيحه:
1. من أجل صلاحه: ليس من لسان في هذا العالم أو في الحياة الأبدية يستطيع أن يُعبِّر عن صلاح الله. كل ما نستطيع أن نفعله هو أن نلمس صلاحه في حياتنا العملية كحقيقة نتمتع بها، فنسبحه بقلوبنا وكلماتنا وسجودنا، بل وبكل حياتنا.
إدراك صلاحه يحول حياتنا إلى قيثارة، يعزف عليها روح الله القدوس بلا توقف!
2. اختياره لنا شعبًا له [4]. بحبه الفائق يعتز الله بالإنسان كما بالبشرية ككلٍ، يحسب كل واحدٍٍٍ كما الجماعة كلها كنزه الذي يعتز به ويحفظه له، مع أنه ليس بمحتاجٍ إلينا في شيءٍ!
3. إله الخليقة القدير [5-7]: يعتني بالخليقة لحسابنا، ويحركها لإشباع احتياجاتنا. يتعامل حتى مع الرياح والعواصف التي تثور ضدنا، ليجعلها في خدمتنا لبنياننا.
4. إله التاريخ [8-14]. لن تتحرك أحداث التاريخ جزافًا، بل لتحقيق خطته الخلاصية لأجلنا.
5. إله البهجة الأبدية [15-18] يحوّل البشرية إلى شبه كائنات سماوية، لا تعرف إلا الفرح والتهليل السماوي!
هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ.
سَبِّحُوا يَا عَبِيدَ الرَّبِّ [1].
يرى البعض أن الإشارة إلى “اسم الرب” هنا تعني التسبيح لجوهر الله غير المحدود، وإن كان غير مدركٍ، كما لقداسته وصلاحه وبكونه الحق المستحق كل تسبيح.
* إذ يقول النبي: “سبحوا”، يعلم اليهود أن الرب لا يُسر بذبائح الحيوانات، لكنه يشاء ذبيحة التسبيح. أما قوله: “اسم الرب” فيدل على أن جوهر الله غير مدرك، إنما يُسبح اسم الرب الذي به يصِّير العظائم.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

يرى القديس أغسطينوس أننا كعبيدٍ نلتزم بالتسبيح لإلهنا من أجل محبته لنا وعطاياه التي لا تُحصى، فكم بالأكثر يليق بنا أن نفعل هذا وقد وهبنا أن نتمتع بالبنوة له، لنا حق الدخول في أحضانه.
* إنكم لا تفعلون شيئًا زائدًا بتسبيحكم ربكم بكونكم عبيدًا.
يلزمكم أن تسبحوا الرب إلى الأبد بكونكم عبيدًا له، كم بالأكثر يليق بكم أيها العبيد أن تسبحوا الرب، لكي تقتنوا فيما بعد ميزة الأبناء؟[1]

القديس أغسطينوس

الْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ،
فِي دِيَارِ بَيْتِ إِلَهِنَا [2].
يرى البعض أن هذه العبارة خاصة بالكهنة واللاويين، وإن كان بيت الرب كان يضم أيضًا الكثير من الشعب، يأتون إليه كل يومٍ. أيضًا يقف الشعب كله تقريبًا في بيت الرب في الأعياد السنوية. جاءت العبارتان 19 و20 تدعوان بيت إسرائيل وخائفي الرب أو الأتقياء أن يباركوا الرب.
أما عن قوله: “الواقفين”، فيعني المنتصبين بالاستقامة، والمقربين على أساس الإيمان المستقيم، هؤلاء يستحقون أن يسبحوا الرب.
وبقوله: “بيت الرب” و“ديار الرب” يعلم اليهود ألا يصنعوا شيئًا مما يليق بعبادتهم خارج البيت أو الدار التي عيَنها الرب لهم.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المرتل حصر التسبيح باسم الرب على الواقفين في بيت الرب، في دياره، لأن اليهود كانوا سريعي التقلب، وهو بهذا يحفظهم من الشركة في عبادة الأوثان، بمنعهم من تقديم الذبائح والتسابيح في المعابد الوثنية. يريد الله أن يحفظ شعبه من الاشتراك في العبادة مع الوثنيين بأية صورة، الذين كانوا يتعبدون تحت كل شجرة خضراء وعلى الجبال والتلال والمرتفعات الخ.، لهذا حصر العبادة الجماعية في الهيكل، خاصة التسبيح الجماعي وتقديم تقدمات وذبائح.
ويرى القديس أغسطينوس أن الله يهبنا بركة التسبيح أينما وجدنا، فكم بالأكثر تُحسب بركته أن يدخل بنا إلى بيته لنسبح له مع ملائكته؟!
* مرة أخرى يحثهم على تقديم ذبيحة التسبيح هذه؛ إنها ذبيحة وتقدمة لله. لذلك يقول في موضع آخر: “أسبح اسم الله بتسبيحٍ، وأعظمه بحمدٍ. فيُستطاب عند الرب أكثر من ثورٍ بقرٍ ذي قرنين وأظلاف” (مز 69: 30-31).
الآن يشير بطريقة ثابتة إلى البيت والديار، مقيدًا الجماعة بمكانٍ معينٍ، دون أن يسمح لهم أن يجولوا خارجًا.
ها أنتم ترون أنه منذ البداية كانت وصيته أن يتعهدوا بناء (خيمة الاجتماع) إلى النهاية، مبطلًا الدنس وعبادة الأصنام التي قد تتأثر بها كل التجمعات في نقطة واحدة، فلا يجولوا في كل مكان بمطلق العنان بطريقةٍ جامحةٍ، ولا يحولون البساتين والينابيع والهضاب والتلال إلى ذرائع للدنس، بتقديم ذبيحة في هذه الأماكن وسكب سكائب على المرتفعات. لهذا السبب كان يحكم بالموت لمن يقدم ذبيحة خارج الهيكل، قائلًا: “من لا يقدم التقدمات ويتمم الذبيحة في الخيمة يرتكب جريمة سفك دم” (راجع لا 17: 4). هذا هو تفسير أن تتم التجمعات في ذلك الموضع، إنما لكي يسمعوا ويسلكوا باعتدال، ويُحفظوا من الأفكار الخاطئة. الآن يأمرهم أن يرتلوا ويسبحوا (في بيت الرب)، لأن التسبيح الموجه لله كان بالنسبة لهم فرصة للتقوى[2].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* كونوا شاكرين يا من كنتم في الخارج، وها أنتم في الداخل. إذ كنتم واقفين، هل كان هذا بالأمر الهين بالنسبة لكم أن تسبحوا ذاك الذي أقامكم حين كنتم في الخارج، وجعلكم واقفين في بيته كي تعرفوه وتسبحوه؟
هل هذه عطية قليلة أن تقفوا في بيت الرب…؟ إن فكَّر أحد هكذا يكون جاحدًا![3]

القديس أغسطينوس

سَبِّحُوا الرَّبَّ، لأَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ.
رَنِّمُوا لاِسْمِهِ، لأَنَّ ذَاكَ حُلْوٌ [3].
الله هو الصلاح عينه، من جهة يهب الحياة للصالحين الذين يلتصقون به، ويحول حتى الشرور التي تلحق بأتقيائه إلى صلاحهم وبنيانهم. الله نفسه هو مصدر عذوبة ومسرة للخليقة التي تلتصق به، سواء من السمائيين أو البشر.
يليق بنا أن نسبح الله، ليس من أجل معاملاته معنا فحسب، بل ومعاملاته مع الآخرين، وفوق هذا نسبحه من أجل شخصه هو، فهو حلو! هو مصدر كل عذوبة حقيقية وسعادة أبدية لمن يلتصق به. كلما قدمنا تسبحه بإخلاصٍ نتمتع بعذوبة الله بالأكثر، ونختبر السعادة الحقيقية. يقول المرتل: “سبحوا الرب، لأن الترنم لإلهنا صالح، لأنه مُلِذ. التسبيح لائق” (مز 147: 1)، وأيضًا: “في يمينك نِعَمٌ إلى الأبد” (مز 16: 11).
يبدأ بالحث على التسبيح من أجل المنفعة، فإنه صالح ورحوم وحنان، فالتسبيح يطهر النفس، ويرفع العقل إلى فوق، ويقدم لنا تعليمًا صالحًا خاصًا بمفاهيم سليمة عن الحياة الحاضرة والعتيدة. هذا والتسبيح بلحنه الجميل يدفع النفس إلى الحياة المقدسة، ومن جانب آخر، خلال التسبيح نتلمس حلاوة اسم الله وعذوبته[4].
* الترنم يلذذ المسامع، ويفرح القلوب، ويخشع القلوب، وذلك إذا كان ترتيلها بورعٍ وحسن نظامٍ، وليس بصياحٍ.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

يقصد بكلمة “ذاك” الله نفسه، فهو حلو في أعماقنا.
إن كنا نستعذب طعام الجسد فنحسبه حلوًا، ونشكر من صنعه، وأيضًا من قدمه، كم بالحري نشكر من يقدم لنا طعام الملائكة السماوي؟
إن كان الله يرسل طعام الملائكة ليأكله الإنسان (مز 78: 25)، وهو سماوي وحلو، فكيف تكون عذوبة الله نفسه وحلاوته، وعذوبة التسبيح والشكر له.
يقدم لنا الدافع للتسبيح وهو “لأن الرب صالح”. يقول القديس أغسطينوس إن كلمة “صالح” التي تخص الله تختلف تمامًا عن نفس الكلمة حينما تخص الخليقة. فعندما أتم الخليقة قيل إنه رأى كل شيءٍ حسنًا (صالحًا) جدًا، فماذا يكون الخالق نفسه؟
* إلى أي مدى يمكننا أن نتحدث عن صلاحه؟
من يمكنه إدراك في قلبه أو فهمه كيف يكون الله صالحًا؟
لنرجع إلى أنفسنا وفي داخلنا فنتعرف عليه، ونسبح الخالق على أعماله. على رجاء أننا نستطيع أن نتأمله عندما يتنقى قلبنا بالإيمان وبعد ذلك يفرح في الحق.
لنرى أعماله، فلا نعيش دون التسبيح له[5].

القديس أغسطينوس
مزمور 135 - تفسير سفر المزامير - شخصك العجيب وأعمالك تدفعنا للتسبيح!

2. دوافع التسبيح

هل تبحث عن  ضع في قلب فليمون تسامحاً ليقبل أنسيمس

يبدأ المرتل هذه الدوافع باختياره لنا شعبًا له، قبل أن يتحدث عنه كخالقٍ ومدبرٍ للكون وإله التاريخ. فإن الخليقة والتاريخ ورعاية الله الفائقة غايتها الحب الإلهي الذي به تشعر البشرية أنها لله، والله لها. هذا هو شعور كل مؤمنٍ حقيقي: “أنا لحبيبي، وحبيبي لي” (نش 6: 3).
أ. اختياره لنا شعبًا له

لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ يَعْقُوبَ لِذَاتِهِ،
وَإِسْرَائِيلَ لِخَاصَّتِهِ [4].
في حبه العجيب للبشرية، يود أن يقيم منهم خاصة له، ينسب نفسه إليهم، فيحسب نفسه إله إسرائيل، كما يحسب نفسه إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب. قيل: “لأنك أنت شعب مقدَّس للرب إلهك. إياك قد اختار الرب إلهك، لتكون له شعبًا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض” (تث 7: 6). كما قيل: “فالآن إن سمعتم لصوتي، وحفظتم عهدي، تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب. فإن لي كل الأرض، وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة” (خر 19: 5-6).
كثيرًا ما يشير الكتاب المقدس إلى اختيار اليهود كشعبٍ له في العهد القديم (تث 7: 6، 7؛ مز 33: 12؛ عا 3: 2).
جاءت كلمة “خاصته” في الترجمة السبعينية: “ميراثًا له“، ويترجمها البعض “كنزه“. إنه يعتز بمؤمنيه، ويحسبهم كنزه الثمين. كأعضاءٍ في جسده، ينظر إلينا بكوننا لؤلؤة ثمينة للغاية لا تُقدر بثمنٍ.
حقًا، إن من يشتاق إلى الالتصاق به، يدخل كما في قرابة، يقف في دهشةٍ متسائلًا: “ولماذا اختارني أنا؟” هذا الشعور المفرح يجعل من الإنسان متعبدًا لله في مخافةٍ مع فرحٍ عجيبٍ!
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله يُسر بالتسبيح ككنزه، ليس من أجل كثرة عدد المسبحين، وإنما من أجل فضائلهم.
* الآن، ما هو معنى: “ككنزٍ له”؟ كثرواتٍ، كفيضٍ من خيرات (خاصة به)، حتى إن كانت الأمة صغيرة في العدد، فإنه يختارها كثروته، ناظرًا لا إلى قلة العدد، بل إلى الفضيلة التي قصد أن يقودهم إليها ويختاروها[6].

القديس يوحنا الذهبي الفم

ب. إله الخليقة القدير

نسبح الله كخالقٍ، لأنه خلق المسكونة من أجل الإنسان محبوبه. هو كلي القدرة، يحرك الطبيعة لأجل بنيان الإنسان وإشباع احتياجاته المادية والروحية والنفسية.
لأَنِّي أَنَا قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ الرَّبَّ عَظِيمٌ،
وَرَبَّنَا فَوْقَ جَمِيعِ الآلِهَةِ [5].
كل أمة تعتز بإلهها أو آلهتها بالرغم من جمود هذه الآلهة، وعجزها التام عن العمل. أما الله الحي فهو فوق الكل، ليس من مجالٍ للمقارنة بينه وبينهم.
قد يعجب الإنسان كيف يتحدث المرتل عن الرب أنه عظيم، ثم يعود فيقارن بينه وبين آلهة الأمم، ويقول إنه فوق جميع الآلهة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه ليس من مجال للمقارنة، لكن المرتل يستخدم هذا من أجل ضعف عقل المستمعين، فقد ارتبطوا بالعبادة الوثنية وكرّموها، لهذا كان يلزم مقارنة الله الحي بهذه الآلهة الجامدة التي بلا حياة لإنقاذ هذه النفوس الضالة؟
إلهنا عظيم في حبه وفي تواضعه وفي رعايته لنا في الأمور الكبيرة والصغيرة. في تقديرنا لمحبته الفائقة لنا نرتل، قائلين: “كم أنت عظيم يا مخلصي؟!”
إنه فوق كل الرؤساء والحكام والقادة والأوثان، “له على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب: ملك الملوك ورب الأرباب” (رؤ 19: 16).
كُلَّ مَا شَاءَ الرَّبُّ صَنَعَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَفِي الأَرْضِ،
فِي الْبِحَارِ، وَفِي كُلِّ اللُّجَجِ [6].
الله القدير بإرادته وحدها يحقق كل شيءٍ، هو يقول فيكون. ليس من إرادة فوق إرادة الله، هذه الإرادة تعمل لصالح خليقته التي تقبل عمله فيها.
إنه ملك السماء والأرض، يجلس على عرش المسكونة كلها. ضابط الكل، يوجه كل شيءٍ، ويفعل كل شيءٍ حسب مسرته.
* إنه كلي القدرة، لذا ما يريده يتحقق[7].
* لا تقدر الإرادة البشرية أن تمنع (الله) من أن يعمل ما يشاء، فإنه حتى بالإرادات البشرية يتمم هو إرادته عندما يريد أن يحققها[8].

القديس أغسطينوس

* ألا تعلمون أنه ليس فقط في خلق الأمور التي على الأرض، بل وخلق قوات السماء أيضًا، تكفي إرادته المجردة لتحقيق ذلك[9].
* ألا ترون القوة التي فيها كل الكفاية؟ ألا ترون مصدر الحياة؟ ألا ترون القدرة التي لا تُقاوم؟ ألا ترون السمو الذي لا يُقارن؟ السلطان الذي لا يعترض سبيله موضع ما؟ ألا ترون أن كل شيء سهل وبسيط بالنسبة له؟ يقول: صنع ما شاء. أسأل: أين؟ “في السماوات وعلى الأرض”، أي ليس فقط هنا في الأسفل، بل وفي السماء؛ وليس فقط في السماء وإنما على الأرض أيضًا. وليس فقط على الأرض، وإنما أيضًا في البحار وكل الأعماق[10].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* أراد كل الأشياء أن تُخلق فكانت. أراد للعالم أن يبقى فاستقر[11].

الأب يوحنا الدمشقي

بإرادته الصالحة لم يتركنا معوزين شيئًا، فإن عطاياه لا تُوصف! رعايته في كل صباح جديدة!
* من يقدر أن يعدد أعمال الرب في السماء وعلى الأرض وفي البحر وفي اللجج؟ مع ذلك إذ لا نستطيع إن ندركها بأكملها، يلزمنا أن نقبلها بإيمان دون تساؤل[12].

القديس أغسطينوس

* يا سيدي، ليتنا دائمًا لا نقبل بخفّةٍ تكدير الأفكار الشريرة، وأن نثور ونتكدّر نحو قريبنا، لأنّ هذا من عمل الشيطان ليس إلاّ. وماذا فعلنا بالآية: “طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكّى ينال إكليل الحياة” (يع 1: 12)؟
لقد كتبتُ ذلك لمحبتك ليس لاحتياجك إلى التعلُّم، لأنك لو بحثتَ في الكتاب المقدس، فإنه ستكون لك رزانة وفطنة أكثر منِّي أضعافًا، لأنني بائسٌ وضعيفٌ، ولي فقط الاسم مع جهالة. ولكنني من وجع القلب والحب المضاعف لله “كتبتُ إليك بدموعٍ كثيرة” (2 كو 2: 4).
فلعل الله يثبِّت قلبك في مخافته، ذاك الذي خلق السماء وثبّتها (إش 42: 5 السبعينية). ولعله يؤسِّس بنيانك على الصخرة الثابتة “الذي أسّس الأرض على المياه” (مز 135: 6 السبعينية). ولعله ينتهر التجارب، ذاك الذي “انتهر الرياح والبحر” (مت 8: 26).
ولعله يُبعِد عنك نسيان الوصايا، ذاك الذي أبعد المشرق من المغرب (مز 103: 12).
لعله يُشفق على نفسك “كما يتراءف الأب على البنين” (مز 103: 13)، ولعله يُنير قلبك ذاك الذي أضاء الأشياء التي كانت مظلمة (اُنظر 2 كو 4: 6).

القديس برصنوفيوس

الْمُصْعِدُ السَّحَابَ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ.
الصَّانِعُ بُرُوقًا لِلْمَطَرِ.
الْمُخْرِجُ الرِّيحَ مِنْ خَزَائِنِهِ [7].
الله هو واضع القوانين لكل الطبيعة، فإن كانت تسير حسب الناموس الذي وضعه لها الله، فلا يليق أن نتجاهل أن كل الخليقة في يده يحركها حسبما يشاء، سواء حسب النواميس التي وضعها أو ضدها إن أراد.
كل الأمور تسير بتدبير إلهي، حتى قطرة واحدة من الأمطار. كما أن قوة الله ليست خارجة عنه، فهي تحمل سماته غير محدودة، أبدية، ولا تُقاوم، ولا يمكن فهمها بفكرنا البشري[13].
كثيرًا ما يشير السحاب إلى النفوس المقدسة لله، لأنها تحظى بالتخلص من ثقل الخطايا، فتصير خفيفة كالسحاب، تحلق في السماويات، أما الأشرار فبسبب ثقل الخطايا يصيرون كالرصاص الذي يغوص في عمق المياه.
تشير البروق إلى روح الاستنارة التي يهبها إيانا روح الله القدوس.
ويشير الريح إلى الروح.
وكأننا نشكر الله ونسبحه، لأنه يقيم منا نحن الذين نسلك على الأرض سحابًا مقدسًا ينعم بعربون السماء، ويفتح بصيرتنا الداخلية، فتتعرف على أسراره، كما يهبنا روحه القدوس عاملًا فينا، كما من خزائنه الإلهية. هذا هو موضوع تسبيحنا له، إنه ينزع عنا خطايانا، ويهبنا برَّه، ويقيمنا كملائكته المنيرين، ويجعلنا هيكلًا له وروحه القدوس ساكنًا فينا.
* يُقال عن الرسل إنهم سحاب، لأنهم بحرارة شمس البرّ الذي هو ربنا يسوع المسيح، رُفعوا من الأرضيات إلى السماويات. كما قال بنفسه له المجد: أنتم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم.
أما البروق فهي التعاليم التي أضاءت المسكونة، وجلبت علينا رحمة الله مثل مطرٍ.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

* هنا يعجب المرتل من رعاية الله للإنسان، فمن أجله يسمح للمياه أن تتبخر في أماكن بعيدة (المحيطات) لتصير سحابًا، ويسير السحاب في الجو كما في رحلة حتى يبلغ مكانًا ما وتسقط الأمطار. كأن المرتل يقول إن الله يعول الإنسان، فيهبه مياهًا من أماكن بعيدة، ويأتي بها إلى حقوله ومدنه، ويقدم له هذا الماء[14].
* يرى المرتل كأن الله يبعث بالرياح من مخازنها لصالح الإنسان[15].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* لنترك الآن الأرض والأرضيات، ونحلق في الهواء على أجنحة العقل. من هنا سأحملكم إلى أعلى وأعلى، إلى موضوعات سماوية، السماء نفسها وما فوق السماء. إن الكلمات تتردد في الاقتراب من مرحلة ما وراء السماوات، ومع ذلك سنقترب منها على قدر ما تستطيع الكلمات أن تعبر عنه.
من الذي أوجد الهواء بهذه الغزارة، ووزعه ليس حسب المرتبة أو الثروة، فإنه ليس هناك حدود تحتجز الهواء وتكتنزها داخلها. ولا يخضع توزيعه للسن، لا بل توزيعه مثل توزيع المن والسلوى، يوجد ما يكفي الجميع، وأنصبة الجميع متساوية (خر 16: 14-16).
تمتطي جميع المخلوقات ذات الأجنحة الهواء، وتتخذه الرياح عرشًا لها. هو الذي يعطي فصول السنة توقيتها، ويعطي الحياة للحيوانات، أو بالأحرى يحفظ الحياة في أجسادها. تعيش أجسادنا في الهواء، وينتقل الكلام عن طريقه. والضوء وما يظهره الضوء لنا موجود في الهواء، كما أن تيار البصر يسري فيه.
لننظر إلى ما يأتي بعد الهواء، فليس للهواء السيطرة على كل ما يُعتقد أنه تابع له، ماذا عن مخازن الرياح (مز 135: 7)، وخزائن الثلج “البَرد” (أي 38: 22)؟
ومن ولد قطرات الندى؟ (أي 38: 28) ومِنْ بطن مَن خرج الثلج؟ (أي 38: 29) من يَصر (يربط) المياه في السحب؟ (أي 26: 8)
المعجزة هنا أنه يربط شيئًا طبيعته التدفق بكلمته في السحب، ومع ذلك فهو يصب بعضه على وجه الأرض كلها للجميع (مت 5: 45) في الفصل المناسب، وهو لا يطلق مخزون الماء كله، فقد كان التطهير الذي تم في أيام نوح كافيًا، وحقًا فإن الله لا ينسى وعده بعدم تكرار الطوفان (تك 9: 8-17). وفي نفس الوقت لا يمنع الماء، وبهذا الشكل فإنه لا يجعلنا نحتاج لإيليا ثانٍ لينهي الجفاف (1 مل 17: 1-18: 45). “فإذا أغلق السماء، من ذا الذي يمكنه أن يفتحها” يقول الكتاب (أي 12: 14، 2 أي 7: 13). وإذا فتح كوى السماء، من ذا الذي يغلقها؟ (مل 3: 10) من الذي يستطيع أن يتحمل شدة الجفاف والطوفان لو لم يتحكم الرب في الكون كله بضوابطه وموازينه (أي 28: 25)؟
أيها الفيلسوف إنك تهدر كالرعد هنا على الأرض، مع أنك لا تملك البريق الذي يمكن أن تعطيه لك بضع شرارات من الحق؟ كيف تفسر البرق والرعد؟[16]
القديس غريغوريوس النزينزي
* “من هو أب للمطر؟! ومن ولد قطرات الندى؟!” (أي 38: 28)
من اكتنز الهواء في السحب، وربطها لتحمل مياه الأمطار، فتأتي ذهبية اللون (أي 37: 22) من الجنوب، بنظامٍ واحدٍ تارة، وفي شكل دوائر متعددة وأشكال متباينة تارة أخرى؟!
من يحصي الغيوم بالحكمة (أي 38 :37)، إذ قيل في أيوب: “من يعرف انفصال السحاب؟!” (أي 37: 16 LXX)
من هو “المخرج الريح من خزائنه” (مز 135: 7)، وكما قلنا قبل: “من ولد قطرات الندى؟ ومن بطن من خرج الثلج؟!” (راجع مز 135: 7؛ أي 38: 28) فإن مادتها ماء، وقوتها كالحجر! في وقت ما يصير الماء ثلجًا كالصوف (راجع مز 147: 16)، وأخرى يذريه صقيعًا كالرماد، وثالثة يصير مادة حجرية.
إنه يحكم الماء كما يريد. طبيعة الماء واحدة، لكن عمله متعدد في القوة، فيعمل في الكرمة خمرًا يفرح قلب الإنسان، وفي الزيتونة زيتًا يلمع وجهه، وفي الخبز يسند قلب الإنسان (مز 104: 15)، ويوجد في كل أنواع الفاكهة التي خلقها الله[17].
القديس كيرلس الأورشليمي

هل تبحث عن  الكرازةالبابا كيرلس والقديس مارمينا.. صداقة تخطت حدود

ج. إله التاريخ

نسبح الله، لأنه إله التاريخ، لا يحدث شيء ما مصادفة، إنما هو ضابط التاريخ، سواء على المستوى الجماعي أو الكنسي، أو الشخصي لكل مؤمنٍ.
يشهد التاريخ عن التدخل الإلهي في حياة الكنيسة كما المؤمن، ليطمئن الإنسان من جهة المستقبل أنه في يد الله. اختار المرتل من بين أحداث التاريخ ثلاثة أحداث هامة، وهي:
أ. الضربات العشر، ليؤكد أن الله، وإن سمح بالشر، لكنه لن يترك مؤمنيه في قبضة الشر أو الأشرار الطغاة.
ب. وهزيمة الملكين سيحون وعوج في بداية المعارك التي دخل فيها الشعب قديمًا.
ج. وأخيرًا دخول أرض الموعد إشارة إلى التمتع بكنعان السماوية.
الَّذِي ضَرَبَ أَبْكَارَ مِصْرَ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْبَهَائِمِ [8].
بعد أن سبح المرتل الله لأجل أعماله العجيبة الخاصة بالطبيعة التي من صنع يديه، وتسير حسب رعايته الإلهية، الآن يسبح الله من أجل معاملاته في التاريخ. تبرز قوة الله في معاملاته مع شعبه في العهد القديم خلال الضربات العشر، وتبلغ القمة في الضربة الأخيرة الخاصة بقتل الأبكار، وعبور البحر الأحمر.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في ضرب أبكار المصريين يعلن الله لطفه ومحبته لشعبه كما أيضًا للمصريين أنفسهم ولكل الأمم:
أ. كما أن الأب يحمل أحد أطفاله على ركبتيه أو على ذراعيه لكي يدفع بقية أولاده أن يجروا إليه، فيقدم لهم نفس الرعاية كما مع هذا الطفل، هكذا اهتم الله بشعبه المتألم من مرارة العبودية، فسمح بضرب أبكار المصريين الذين سخروا شعبه في مذلة، ليعلن الله حبه لكل البشرية. كل من يلتصق به يتمتع بهذا الحنو الإلهي الذي قدمه لشعبه.
ب. في هذا التصرف أيضًا أعلن اهتمام الله بالمصريين، فقد بدأ بتأديبهم بضربات خفيفة، وإذ أصروا على عنادهم سمح بتأديبات أقسى فأقسى، لعلهم يتوبون. ومن جانب آخر ليكونوا درسًا وعبرة لمن يُصر على العناد.
لم يبدأ الله الضربات بموت الأبكار، إنما بالخلائق الأخرى كالحيوانات، لعلهم يرتدعون.
ج. أكد لهم الله بكل الطرق أن هذه الضربات لم تحدث مصادفة كما يظن البعض، إنما هي تأديب من قبل الله لإصلاحهم.
د. لم يقتل كل أبناء المصريين تاركًا لهم الآخرين ليعطيهم رجاءً التوبة.
و. سمح بضرب أبكار البهائم مع أبكار المصريين ليؤكد لهم أن هذه البهائم عطية من الله للإنسان، فإن فسد الإنسان، فما الحاجة لهذه البهائم التي خلقها الله لخدمة الإنسان؟
أَرْسَلَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ فِي وَسَطِكِ يَا مِصْرُ،
عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَى كُلِّ عَبِيدِهِ [9].
الله الذي صنع آيات وعجائب في وسط مصر ليخلص شعبه من عبودية فرعون، لا يزال يعمل بلا انقطاع من أجل خلاص نفوسنا من عبودية إبليس، ليدخل بنا لا إلى أرض الموعد، بل إلى السماء عينها.
“في وسطك يا مصر”: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه يقصد بذلك وسط مصر مكانيًا، وربما يعني أنها في وسط المصريين لكي يتحير كل المصريين، فيقف الكل في حيرة ودهشة متسائلين: ماذا وراء هذا الحدث؟ فيدرك الكل أنه لتأديبهم.
* إن قلت إن فرعون هو الذي كان عاصيًا على الإسرائيليين، ومانعًا لخروجهم، فلماذا ضرب الله جميع أبكار المصريين؟ نقول: لولا أن جميعهم كانوا متفقين في الرأي وفي مسلكهم، لقاموا على ملكهم، وألزموه على أطلاقهم. هذا قد ظهرت حقيقته أخيرًا عندما مات أبكارهم، إذ قاموا كلهم بساقٍ واحدة، وألزموا فرعون على أطلاقهم. إذن كان يمكن حدوث هذا قبل امتحانهم.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

الَّذِي ضَرَبَ أُمَمًا كَثِيرَةً،
وَقَتَلَ مُلُوكًا أَعِزَّاءَ [10]
كان الشعب في مواجهة أمام أممٍ كثيرة وملوكٍ عظماء. انتصر عليهم شعب الله دون خبرة عسكرية، لأنهم لم يكونوا طرفًا في المعركة، إنما كان الرب نفسه طرفًا فيها. أبرز قوته في رعايته للمؤمنين، فهو سلاحهم الذي لا يُقهر، يهزم الأعداء بكونهم رمزًا لإبليس المقاوم للحق.
سِيحُونَ مَلِكَ الأَمُورِيِّينَ،
وَعُوجَ مَلِكَ بَاشَانَ،
وَكُلَّ مَمَالِكِ كَنْعَانَ [11].
لماذا أشار إلى النصرة على سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان، مع أن الشعب انتصر على ممالك أخرى أيضًا؟
1. كانا في مدخل كنعان، يمثلان أول مقاومة قوية ضد إسرائيل (عد 21: 21-25).
2. كانا على رأس الأمم والقبائل القوية.
3. اتسم هذان الملكان وجنودهما بأنهم عمالقة من جهة قامتهم الجسمية وبنيانهم (تث 3: 11؛ عا 2: 9).
وَأَعْطَى أَرْضَهُمْ مِيرَاثًا،
مِيرَاثًا لإِسْرَائِيلَ شَعْبِهِ [12].
صارت الأرض ميراثًا للشعب ليس باستسلام الوثنيين وهزيمتهم، وإنما كعطية مجانية للهاربين من مصر (كرمزٍ للفساد في ذلك الحين) من قبل الله، سبق فوهبها لآبائهم (تك 17: 8؛ 28: 13؛ 35: 12).
يَا رَبُّ اسْمُكَ إِلَى الدَّهْرِ.
يَا رَبُّ ذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ [13].
أعمال الله مع شعبه لا يقدر الزمن أن يمحوها، إنما تبقى شهادة دهرية لاسم الله القدير الصالح (مز 30: 4؛ 102: 12). اسم الله هنا يمثل الله نفسه.
* “يا رب اسمك إلى الدهر. يا رب ذكرك إلى جيل فجيل“. بمعنى أن مجدك لا ينقطع. لا شيء يسيء إليه، لا شيء يعترضه، بل بالحري هو أبدي، لا يتغير ولا يتزعزع، دائم الازدهار. الآن ما هو معنى: “ذكرك إلى جيل فجيلٍ“؟ ذكرك هو بلا نهاية ولا حدود[18].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* صنع الرب هذا ليس اعتناءً بالإسرائيليين فقط، بل ابتغاءً جذب الناس كلهم إلى معرفته والإيمان به.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

يرى القديس أغسطينوس أن دافع تسبيحنا هو تذكرنا لعمل الله معنا من دورٍ إلى دورٍ، أو من جيلٍ إلى جيلٍ، بمعنى أننا الآن إذ تمتعنا بالمعمودية صرنا أولاد الله، فنسبحه لأنه دخل بنا إلى هذا الجيل، وإذ ننتظر مجيئه نلتقي معه على السحاب مع ملائكته، فنذكر عمله معنا في الحياة الأبدية. في الجيل الحالي ننعم بدعوته لنا كأولاد لله، وفي الجيل القادم نتمتع بإكليل المجد.
* “من جيل إلى جيلٍ آخر“. الجيل الذي فيه صرنا مؤمنين، مولودين ثانية بالمعمودية، والجيل الذي سنقوم فيه من الأموات ونعيش مع الملائكة إلى الأبد. ذكرك يا رب هو فوق هذا الجيل، وفوق ذاك الجيل القادم، فإننا لا ننسى أنه يدعونا الآن، ولا ننسى أنه يكللنا هناك[19].

القديس أغسطينوس

لأَنَّ الرَّبَّ يَدِينُ شَعْبَهُ،
وَعَلَى عَبِيدِهِ يُشْفِقُ [14].
هذه العبارة مقتبسة من تثنية 32: 36. جاءت الكلمة العبرية المترجمة هنا “يدين” تعبر عما يخص العدل الإلهي، فالله عادل ورءوف، مملوء حنوًا. فهو يبرئ شعبه إن التصق به بالحق وكان مخلصًا في عهده معه. يترفق بعبيده، لكنه لا يهادن الخطية. إنه لا يحابي!
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله يدين شعبه فيؤدبهم، وإذ يستجيبون للتأديب يعود فيكافئهم ويعزيهم.
ربما يعني أنه يدين الأشرار حتى وإن كانوا من شعبه، ما داموا مصرين على عنادهم، ويعزي من يلتصقون به.
* أعني أن الرب يقاصص شعبه، ويدينه على جرمه، ويلحق به جريرة خطاياه، ثم يعفو عنه، ولكن ليس من أجل استحقاقه، بل من أجل أنه شعبه وعبده. وأيضًا بمعنى أن الرب يجازي ظالميه (ظالمي شعبه) ويشفق على عبيده.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* نسبح الله، لأنه بالفعل يدين شعبه الآن، إذ يقول: “لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم، حتى يُبصر الذين لا يبصرون، ويعمي الذين يبصرون” (يو 9: 39). يصير المتكبرون عميانًا، والمتواضعون مستنيرين. لذلك “يدين شعبه“. لقد تحدث إشعياء عن الدينونة: “يا بيت يعقوب، هُلمَّ فنسلك في نور الرَّب” (إش 2: 5) [20].

القديس أغسطينوس

د. إله البهجة الأبدية

هل تبحث عن  القديسة فيرونيكا النازفة الدم

أَصْنَامُ الأُمَمِ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ،
عَمَلُ أَيْدِي النَّاسِ [15].
بعد أن تحدث عن سلطان الله، وأشار إلى عمله في السماوات وعلى الأرض وفي البحار وكل الأعماق، وعن اهتمامه بشعبه وكل الأمم، أظهر أن الله هو إله الكل ويعتني بالعالم، عاد ليسخر بالأصنام. إنه يهاجم طبيعتها ذاتها، فالأصنام لا تعني شيئًا سوى أنها بلا حياة وجامدة، ومع هذا فمن السخافة أن يضع الإنسان رجاءه فيها.
شتان ما بين الله خالق الإنسان من العدم، وبين الأصنام التي هي من صنع يدي الإنسان، فهي أقل منه. إنها من الفضة والذهب، قابلة للضياع والدمار.
* لذلك اقبلوا تعليم الكتاب المقدّس. لو قال الكتاب: “أصنام الأمم فضة وذهب، عمل أيدي الناس” (مز 135: 15)، فهو لا يحرم السجود أمام الأشياء الغير متحركة، ولا عمل أيدي الإنسان، ولكن فقط أمام هذه الصور التي هي عمل الشيطان.
لقد رأينا أن الأنبياء سجدوا أمام ملائكة، ورجال، وملوك، وهؤلاء الذين لم يعرفوا الله، وحتى أمام عصا. داود يقول”ونسجد عند موضع قدميه” (مز 99: 5) وإشعياء يتكلّم عن اسم الله “السماء هي عرشي، والأرض موضع قدمي”. (إش 66: 1) إنّه من الواضح للجميع أن السماء والأرض من المخلوقات. موسى وهارون وكل الشعب تعبدوا أمام أشياء مصنوعة بالأيدي. بولس صوت الكنيسة الذهبي قال في الرسالة إلى العبرانيّين: “لأن المسيح لم يدخل إلي أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقة، بل إلي السماء عيّنها” (عب 9: 24) بمعني أن الأشياء المقدّسة القديمة، الخيمة، وكل شيء فيها كانت مصنوعة بأيدٍ، ولا يمكن لأحد أن ينكر أنّها كانت مبجّلة[21].

القدّيس يوحنا الدمشقي

لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ.
لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ [16].
لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ.
كَذَلِكَ لَيْسَ فِي أَفْوَاهِهَا نَفَسٌ! [17]
سبق أن أشير إلى الأصنام وسماتها في المزمور 115: 4-8 إنها تعجز حتى عن أن تتنفس، فكيف يمكنها أن تعين من يتعبد لها؟!
* بما أن الشياطين كانت تدخل في الأصنام وتحركها، وتخاطب الناس من داخلها، لذلك قال النبي: لا تظنوا أنها ذات نفس وكلام، بل هي مصنوعة من ذهبٍ وفضةٍ وعديمة النفس والحس، وهي عمل أيدي الناس.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا،
وَكُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا [18].
الذين يصنعون الأصنام يصيرون مثلها عميان روحيًا وصم وبكم بل وأموات.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن التماثيل في العبادة الوثنية حملت صورًا شنيعة غير لائقة تكشف عما في قلب صانعيها وأفكارهم، وفي نفس الوقت يستخدمها الشيطان لحث العابدين لها على ممارسة هذه الرجاسات، فيصيرون على مثال التماثيل نفسها.
حقًا لكل فئة عملها الخاص فالشعب غير الكهنة غير اللاويين، والكل معًا يسبحون الله ويمجدونه.
* غاية تعبنا ونهاية قصدنا أن نتشبه بإلهنا على قدر إمكاننا، وأما الذين يعبدون الأصنام، فيكونون مثل منحوتاتهم التي هي عمل أيادٍ بشرية. لأنها صور بشائع وقبائح التي فعلها المصورون وعديمة النمو والحواس. بهذه الأقوال يهجو النبي حماقة عابديها والمتكلين عليها. أما الشيطان فكان يتكلم من داخلها ليحثهم على صنع بشائع.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

* “مثلها يكون صانعوها، وكل من يتكل عليها”. تأملوا ما هي الآلهة التي من هم على شبهها يكونوا في نوع من اللعنة. إلهنا ليس هكذا. أقصد أن الغاية العظمى للفضيلة تقود الإنسان إلى قمة الأمور الصالحة، أن يكون شبه الله قدر المستطاع. في حالتهم، على العكس، يقول إن العبادة والآلهة ذاتها من نوع تجعلهم مثلهم يحملون أقصى شكل اللعنة[22].

القديس يوحنا الذهبي الفم
مزمور 135 - تفسير سفر المزامير - شخصك العجيب وأعمالك تدفعنا للتسبيح!

3. ختام تسبيحي

يختتم هذا المزمور التسبيحي بالقول عن الرب “الساكن في أورشليم”. سرّ تسبيحنا سكنى الله في أورشليم الجديدة، في كنيسة المسيح كما في قلب المؤمن. يقول حزقيال النبي: “يهوه شاما Shamma“، أي الرب هناك.
يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ بَارِكُوا الرَّبَّ.
يَا بَيْتَ هَارُونَ بَارِكُوا الرَّبَّ [19].
مباركة الرب أو التسبيح له هو عمل عظيم، خلاله تتحقق الوحدة بين الفئات من كهنة ولاويين وأتقياء، وكل بيت إسرائيل الروحي الجديد.
* بقوله بيت إسرائيل وبيت هرون وبيت لاوي وخائفي الرب يدل على أن التبريك للرب ليس على نسقٍ واحدٍ من الكافة.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

يَا بَيْتَ لاَوِي بَارِكُوا الرَّبَّ.
يَا خَائِفِي الرَّبِّ بَارِكُوا الرَّبَّ [20].
يقودنا التأمل في عظمة الله وعظمة معاملاته معنا إلى الاشتياق الداخلي الملتهب بالحب نحو التسبيح له. نباركه بمعنى أننا نكرَّمه ونسبحه ونخضع له ونسجد له.
مُبَارَكٌ الرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ،
السَّاكِنُ فِي أُورُشَلِيمَ. هَلِّلُويَا [21].
كما بدأ المزمور بهللويا، هكذا أيضًا انتهى. فالتهليل هي بداية عملنا ونهايته؛ بل يمثل كل حياتنا.

مزمور 135 - تفسير سفر المزامير - شخصك العجيب وأعمالك تدفعنا للتسبيح!

من وحي مز 135

تسبيحك حلو يا مخلصي العجيب!

* لك الشكر يا خالقي المحب.
نفسي تغوص في لجة أعمال محبتك.
لم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك!
تبقى نفسي متهللة بخالقها وراعيها العجيب.
كعبدٍ لك تتهلل نفسي،
فماذا وأنت تهبني روح التبني؟
تحملني في أحضانك كابنٍ لك!
* إذ أقف عند أعتاب بيتك، تمتلئ نفسي سرورًا،
فماذا وأنت تدخل بي إلى مقدسك السماوي؟!
في ديارك الأبدية تشترك أعماقي مع طغماتك في التسبيح!
في ديارك أسمر عيني على بهاء مجدك.
في ديارك أنعم بما لم تره عين،
ولم تسمع به أذن،
ولم يخطر على قلب بشر!
حقًا، صالح أنت يا الله، وحلو!
* تسبحك نفسي، لأنك اخترتني لك!
أنت لي وأنا لك يا حبيب.
أذوب في حبك العجيب،
ولا أطلب معك سوى أحضانك!
* تسبحك نفسي يا أيها الأب الحكيم القدير.
كل ما تشاء تفعله.
وما هي مشيئتك إلا أن تخلص نفسي،
وانعم بشركة الأمجاد السماوية؟
قدير في أعمالك، حكيم في تدبيرك، حلو في أبوتك.
ماذا أطلب بعد؟
* من أجلي تُصعد السحاب من أقاصي الأرض.
وتصنع البروق للمطر
وتخرج الريح من خزائنه.
أنت وحدك تقيم من الترابيين الأرضيين سحابًا مقدسًا.
بروحك تبرق في داخلي، فأعاين نور مجدك.
تفتح خزائن حبك،
فيعمل روحك القدوس في بني البشر
لكِ التسبيح من أجل أعمالك اليومية معنا.
لك التسبيح من أجل الأمجاد التي تعدها لنا.
لك المجد من جيل إلى جيل.
نمجدك يا من أقمتنا أبناء لك.
لك المجد يا من تقوُدنا إلى سماواتك لنكون مع ملائكتك!

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي