المزمور المئة والحادي عشر
1. المزمور المئة والحادي عشر هو مزمور أبجدي ألفّه أحد معلمي الحكمة، ليرسّخ في أذهان قارئيه وسامعيه أعمال الله وتعاليمه العظيمة في شعبه. يتّخذ طابع مديح لما فعله الله من المعجزات لأجل شعبه: عبور البحر الاحمر، غذاء البريّة أي المن، العهد على جبل سيناء، قدرته التي أورثت شعبه أرض كنعان، وخلاصه الذي رافق شعبه عبر تاريخه. ينطلق المرتّل من حالته الخاصّة، فيشكر الله على خلاصه له، ثم يوسّع صلاته لمَصل إلى الجماعة، فيشكر الله على أعماله العظيمة من أجل شعبه.
2. مديح لاله العهد من أجل أعماله العظيمة.
آ 11: مقدمة: حديث المرتّل في إحدى الجماعات: أعترف للرب بكل قلبي.
آ 2- 3: أعمال الله الملك: جلال وبهاء وعدل دائم. هذه هي صفة أعمال الله.
آ 4- 6: ويوجّه المرتّل أنظارنا إلى أول عمل الله وتدخله في التاريخ، أعني عهده مع شعبه. ثم يعدّد ما فعله الله لشعبه قبل أن يورثه أرض الميعاد.
آ 7- 8: عمل الله يدوم، وليس وليد ساعة عابرة، لأن الله أمين وأوامره ثابتة. بدأ عمله منذ العبور والخروج، وما يزال يعيد عملية العبور لشعبه، فيخلّصه من أعدائه لأنه قطع معه عهدًا أبديًا.
آ 9- 10: خاتمة: اسم الرب قدوس مرهوب يفرض على المرتّل موقفًا روحيًا. مخافة الرب، الخضوع لشريعته، وتسبحته على أعماله.
3. أعترف للرب بكل قلبي… هذا هو أجمل تعبير عن حبّ يشترك فيه الايمان والرجاء لتأخذ حياة المؤمن كامل معناها، لا في الصمت والعزلة، بل في الهيكل وبين الجماعة التي تشارك الانسان إيمانه. وهذه الجماعة تفرح لأعمال الله العظيمة في الماضي، وتتطلّع إلى ينبوع فرحها حيث تظهر عظمة الله وأمانته. تُذكر أعمال الله بمناسبة الاعياد العظيمة (خر 12: 14)، ويبقى ذكرها حاضرًا فنعيش منها. ينتهي هذا المزمور بعبارة قريبة من سفر الأمثال: رأس الحكمة مخافة الله. وكتاب الامثال هو أول كتاب عرف أن هناك حكمة بشريّة أرضيّة لا تحتاج لوجودها إلى الله، حكمة يبقى الانسان فيها انسانًا واعيًا ضعفه عارفًا عظمته. إلاّ أن هذا المزمور (وسفر الامثال) يؤكّد لنا أنه إذا أراد الانسان أن لا تأخذه الكبرياء فينسى مكانه في الخليقة، عليه أن يبدأ بمخافة الله وخشيته.
4. ينشد المزمور سلطان الله المجيد وحبَّه الخلاصي.، وقد أنشده المسيح كتعبير عن حب الله وكماله. ويمكن المؤمن أن يصلّيه، لأن كل أعمال الله في الماضي تعنينا أيضًا، نحن شعب العهد الجديد، وما كُتب فقد كتب لنتعلّم كيف نحصل على الرجاء (روم 15: 4). ونستطيع أن نصلّيه خاصّة في احتفال الافخارستيا حيث يشارك المسيح شعبه في حمد الآب ورفع آي الشكر له.
5. أمام عمل إله العهد
بعد أن يقدّم المرتّل مآثر الله الملك، يعود إلى العمل الذي به دشّن العهد. وهذا ما يدلّ على استمراريّة التزام الله تجاه شعبه. كما يفرض على الانسان الشروط التي بها يتقبّل هذا العهد.
إن الحمد الذي يقوم به المؤمن في وسط المستقيمين، يتميّز عن فعل الشكر الذي فيه روى من حصل على نعم الله، كيف تدخّل الله أمام الشعب الملتئم في أعياده. لسنا هنا أمام فعل شكر شخصيّ، بل أمام إنشاد عمل الله الملك. هو عمل يشعّ بهاء وجلالاً وينطبع بطابع البرّ الابويّ.
وفي أساس أعمال الله نجد العهد. فالرب يريد منا أن نحتفظ بذكر أعماله. أن نحتفظ بذكر تدخّلاته في التاريخ. في زمن الخروج اهتمّ الله فأطعم شعبه، ورافقه من نصر إلى نصر حتى أرض الميعاد. وهو ما زال يفعل حتى الآن. لسنا هنا أمام شيء حصل مرّة واحدة وانتهى. بل هو التزام ثابت لا يفنيه الزمن. فتحرير الشعب الذي تمّ في زمن الخروج له انعكاساته حتى اليوم. وخلاص الشعب لكل مؤمن ليس عملاً معزولاً، بل هو حضور دائم يدلّ على أمانة الله. الربّ هو سيّد الكون. وقداسته تدلّ على سيادته. وهذه القداسة تتجلّى في أعماله وتضع الختم عليها. فماذا تكون ردّة فعل الانسان؟ أن يخاف الله، أن يخضع له بدون تردّد كالعبد لسيّده، وكالملك الصغير للملك الكبير. مثل هذه المخافة هي مبدأ كل حكمة.
6. “أمدحك بكل قلبي”. ماذا تعني “بكل قلبي”؟ بكل الحرارة التي أقدر عليها. وبروح متحرّر من كل اهتمامات الحياة، وبنفس ارتفعت إلى المناطق العليا التي تلامس الله، وتجرّدت عن رباطات الجسد. “من كل قلبي”. لسنا فقط على مستوى الكلام والفم، بل الروح والقلب. بهذا المعنى أوصى موسى الشعب اليهودي بأن يحفظوا هذه الشريعة: “تحبّ الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك” (تث 6: 5).
الكلمة اليونانيّة تعني الشكر. أمدحك، أشكرك. فكل حياة الملك النبيّ سارت في تتميم هذا الواجب الورع. هنا بدأ وهنا انتهى. كل عمله كان شكرًا لله لأجل حسنات نالها، لأجل نعم مُنحت لسائر البشر. فالله يرغب كثيرًا في فعل الشكر. فالذبيحة والتقدمة اللتان ترضيانه هما شكر يدلّ على نفس عارفة بالجميل؛ وهذا الشكر هو ضربة قاضية للشيطان. والسبب الذي لأجله استحقّ أيوب البار تاجه ومجده هو أنه رغم الضربات التي حلّت به بكثرة، رغم نصائح شرّيرة أعطتها امرأته، ظلّ لا يتزعزع. وما زال يرفع إلى الله آيات الشكر: في وسط غناه، وحين غرق في فقر مدقع. حين كان ينعم بالصحّة، حين ضُرب بقسوة في جسده. حين كان كل شيء يبتسم له، وفي وسط هذه العاصفة الهائلة التي انصبّت على كل بيته وعلى جسده.
فالعلامة التي لا تخطئ لقلب عارف بالجميل، تظهر حين نقدّم لله أفعال الشكر العظيمة وسط المحن والمعاكسات. تلك هي الحقيقة التي يريد الملك النبيّ أن يفهمنا في الكلمات التالية. فهناك عدد كبير من الناس يشكرون الله ما داموا سعداء. ولكن إن لامسهم الشرّ تحمّلوه بصعوبة. ويذهب بعضهم فيلوم العناية الالهية على الاحداث التي تسمح بها. أفهمنا الملك النبيّ أن هذا السلوك ليس نتيجة طبيعيّة للأحداث، بل واقع روح فاسد. (يوحنا الذهبيّ الفم).