مسكن الاخوة
1هُوَذَا مَا أَحْسَنَ وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْكُنَ الإِخْوَةُ مَعاً! 2مِثْلُ الدُّهْنِ الطَّيِّبِ عَلَى الرَّأْسِ النَّازِلِ عَلَى اللِّحْيَةِ لِحْيَةِ هَارُونَ النَّازِلِ إِلَى طَرَفِ ثِيَابِهِ. 3مِثْلُ نَدَى حَرْمُونَ النَّازِلِ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ. لأَنَّهُ هُنَاكَ أَمَرَ الرَّبُّ بِالْبَرَكَةِ حَيَاةٍ إِلَى الأَبَدِ.
هذا المزمور يعتبر واحد من مزامير الحكمة والتى تشمل أيضاً مزامير 1، 49 ، 73 ، 127، وهو قصيدة رائعة زاخرة بالحيوية عن الروح الجماعيّة والوحدة الأخويّة، وفيه يمتدح الكاتب روح الأخوة وروح الصفاء والود الدائم حينما يجتمع شعب الله من كل حدب وصوب بنفس واحدة ولهم هدف واحد.
ويعتقد البعض أن هذا المزمور كان يُستخدم بعد السبىّ لتشجيع الراجعين من العبوديّة على السكن فى أورشليم، وكأنى بالكاتب يعطى ويقدم فى ترنيمته الطمأنينة والأمان، وأنه لن يكون هناك ذل وسبىّ وعبوديّة، بل حيث يجتمع الإخوة وحيث يتآخى الجميع هناك البركة.
(نح 11 : 1)”وَسَكَنَ رُؤَسَاءُ الشَّعْبِ فِي أُورُشَلِيمَ. وَأَلْقَى سَائِرُ الشَّعْبِ قُرَعاً لِيَأْتُوا بِوَاحِدٍ مِنْ عَشَرَةٍ لِلسُّكْنَى فِي أُورُشَلِيمَ مَدِينَةِ الْقُدْسِ وَالتِّسْعَةِ الأَقْسَامِ فِي الْمُدُنِ.”
(عزرا 3 : 1)”وَلَمَّا اسْتُهِلَّ الشَّهْرُ السَّابِعُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ فِي مُدُنِهِمُِ اجْتَمَعَ الشَّعْبُ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ.”
أما البعض الآخر من الشّراح فيعتقد أن هذا المزمور يشير إلى اجتماع كل إسرائيل حول داود فى حبرون
(2 صم 5 : 1 – 5) “1وَجَاءَ جَمِيعُ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ إِلَى دَاوُدَ إِلَى حَبْرُونَ قَائِلِينَ: «هُوَذَا عَظْمُكَ وَلَحْمُكَ نَحْنُ. 2وَمُنْذُ أَمْسِ وَمَا قَبْلَهُ، حِينَ كَانَ شَاوُلُ مَلِكاً عَلَيْنَا، قَدْ كُنْتَ أَنْتَ تُخْرِجُ وَتُدْخِلُ إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ قَالَ لَكَ الرَّبُّ: أَنْتَ تَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْتَ تَكُونُ رَئِيساً عَلَى إِسْرَائِيلَ». 3وَجَاءَ جَمِيعُ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ إِلَى الْمَلِكِ إِلَى حَبْرُونَ، فَقَطَعَ الْمَلِكُ دَاوُدُ مَعَهُمْ عَهْداً فِي حَبْرُونَ أَمَامَ الرَّبِّ. وَمَسَحُوا دَاوُدَ مَلِكاً عَلَى إِسْرَائِيلَ. 4كَانَ دَاوُدُ ابْنَ ثَلاَثِينَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. 5فِي حَبْرُونَ مَلَكَ عَلَى يَهُوذَا سَبْعَ سِنِينٍ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَفِي أُورُشَلِيمَ مَلَكَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ سَنَةً عَلَى جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا.”
إلا أن حياة داود التالية كانت مأساوية وحَلَّ السيف فيها بدل السلام
(2 صم 12 : 10) “وَالآنَ لاَ يُفَارِقُ السَّيْفُ بَيْتَكَ إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّكَ احْتَقَرْتَنِي وَأَخَذْتَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ لِتَكُونَ لَكَ امْرَأَةً.”
ويعتقد فريق ثالث من العلماء أن هذا المزمور كان يستخدم فى الأعياد الثلاثة حين يجتمع اليهود من كل مكان فى الهيكل فى أورشليم للتعبد. فما أجمل وما أعذب وجود الاخوة معاً فى بيت الرب فى يوم الرب …
بالنسبة للكاتب : يعترض البعض على أن داود هو كاتب هذا المزمور حيث لم يُذكر اسمه فى الترجمة السبعينية وبعض الترجمات القديمة الأخرى، ويقولون إن اللغة المستخدمة تنم عن حداثة نظمه، لكننا نجده – أى داود – مذكوراً فى النص العبرى الأصلى.
وهنا ينقسم الفكر فى المزمور إلى نقطتين :
أولاً : الوحدة ومظاهرها :
1- الجمال (1) :
“هُوَذَا مَا أَحْسَنَ وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْكُنَ الإِخْوَةُ مَعاً!”.
يُعتبر هذا العدد محور المزمور كله حيث أن الأعـداد التى تليـــه هى تشبيهات تشرحه. والكلمة “هوذا” يُراد منها شد الانتباه إلى الحقيقة المحوريّة، إذ يصور لنا الكاتب عظم وجمال وبهجة وجود الإخوة معاً، فما أحسن أن يترابط الإخوة معاً دون أى تنازع أو تصارع ، بل فى محبة وسلام وتآخ.
وما أجمل هذا المنظر بالنسبة للرب. ما أجمل أن يرى الإخوة فى ارتباط كامل يربطهم هدف واحد ورؤية ورسالة واحدة.
وعبارة ” يَسْكُنَ الإِخْوَةُ مَعاً” تشير إلى العادات الشرقية واليهودية خاصة فى الميل إلى العيش فى مساكن متجاورة متلاصقة (حارة اليهود)، وفى مجتمع ما بعد السبىّ اعتاد الناس على السفر والهجرة والتفرق، وافتقد الجميع وجود كل الإخوة معاً.
وهذه العبارة لها مشابه فى:
(تث 25 : 5 و 6) “5«إِذَا سَكَنَ إِخْوَةٌ مَعاً وَمَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَليْسَ لهُ ابْنٌ فَلا تَصِرِ امْرَأَةُ المَيِّتِ إِلى خَارِجٍ لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ. أَخُو زَوْجِهَا يَدْخُلُ عَليْهَا وَيَتَّخِذُهَا لِنَفْسِهِ زَوْجَةً وَيَقُومُ لهَا بِوَاجِبِ أَخِي الزَّوْجِ. 6وَالبِكْرُ الذِي تَلِدُهُ يَقُومُ بِاسْمِ أَخِيهِ المَيِّتِ لِئَلا يُمْحَى اسْمُهُ مِنْ إِسْرَائِيل.”
وتركز على العائلة الكبيرة التى تسكن معاً فى مساكن متجاورة، ولذلك فهم البعض أن العبارة تركز على العلاقات الأسرية كنموذج اجتماعى هام، لكن البعض الآخر رأى أن تشمل أيضاً الإطار الأوسع، الكنيسة والأمة ككل
(تك 13 : 8) “8فَقَالَ أَبْرَامُ لِلُوطٍ: «لاَ تَكُنْ مُخَاصَمَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ رُعَاتِي وَرُعَاتِكَ لأَنَّنَا نَحْنُ أَخَوَانِ.”
(خر 2 : 11) “11وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمَّا كَبِرَ مُوسَى أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ فَرَأَى رَجُلاً مِصْرِيّاً يَضْرِبُ رَجُلاً عِبْرَانِيّاً مِنْ إِخْوَتِهِ”
(أع 7 : 26) “26وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي ظَهَرَ لَهُمْ وَهُمْ يَتَخَاصَمُونَ فَسَاقَهُمْ إِلَى السَّلاَمَةِ قَائِلاً: أَيُّهَا الرِّجَالُ أَنْتُمْ إِخْوَةٌ. لِمَاذَا تَظْلِمُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً؟”
2- الكرم والقوة (2) :
” مِثْلُ الدُّهْنِ الطَّيِّبِ عَلَى الرَّأْسِ النَّازِلِ عَلَى اللِّحْيَةِ لِحْيَةِ هَارُونَ النَّازِلِ إِلَى طَرَفِ ثِيَابِهِ.”. هذا هو التشبيه الأول الذى يقدمه المرنم : الدهن الطيب له قيمة عظيمة جداً فى مكوناته، ونستطيع أن نرى ذلك بوضوح فى:
(خر 29 : 7) ” وَتَأْخُذُ دُهْنَ الْمَسْحَةِ وَتَسْكُبُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَتَمْسَحُهُ.”
(خر30 : 22 – 30) “22وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: 23«وَأَنْتَ تَأْخُذُ لَكَ أَفْخَرَ الأَطْيَابِ. مُرّاً قَاطِراً خَمْسَ مِئَةِ شَاقِلٍ وَقِرْفَةً عَطِرَةً نِصْفَ ذَلِكَ: مِئَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَقَصَبَ الذَّرِيرَةِ مِئَتَيْنِ وَخَمْسِينَ 24وَسَلِيخَةً خَمْسَ مِئَةٍ بِشَاقِلِ الْقُدْسِ وَمِنْ زَيْتِ الزَّيْتُونِ هِيناً. 25وَتَصْنَعُهُ دُهْناً مُقَدَّساً لِلْمَسْحَةِ. عِطْرَ عِطَارَةٍ صَنْعَةَ الْعَطَّارِ. دُهْناً مُقَدَّساً لِلْمَسْحَةِ يَكُونُ. 26وَتَمْسَحُ بِهِ خَيْمَةَ الاِجْتِمَاعِ وَتَابُوتَ الشَّهَادَةِ 27وَالْمَائِدَةَ وَكُلَّ آنِيَتِهَا وَالْمَنَارَةَ وَآنِيَتَهَا وَمَذْبَحَ الْبَخُورِ 28وَمَذْبَحَ الْمُحْرَقَةِ وَكُلَّ آنِيَتِهِ وَالْمِرْحَضَةَ وَقَاعِدَتَهَا – 29وَتُقَدِّسُهَا فَتَكُونُ قُدْسَ أَقْدَاسٍ. كُلُّ مَا مَسَّهَا يَكُونُ مُقَدَّساً. 30وَتَمْسَحُ هَارُونَ وَبَنِيهِ وَتُقَدِّسُهُمْ لِيَكْهَنُوا لِي.”
وكذلك الغرض الذى يعد من أجله.
وسكب الزيت أو الدهن الطيب الثمين على الرأس شىء معتاد فى الشرق إذ كان المضيف يسكب الدهن بغــزارة علــى رأس ضيفـه حتى يغمر لحيته:
(مز 23 : 5) ” تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ. مَسَحْتَ بِالدُّهْنِ رَأْسِي. كَأْسِي رَيَّا.”
فيصل إلى الدهن إلى طرف ثيابه، وهـى تعنى حرفياً “فم ثيابه”. لكن هنا يشير إلى مسح هارون كرئيس كهنة، وكل رؤساء الكهنة من بعده لهذا الزيت (الدهن) المقدس لتقديسهم. وصورة الوحدة هنا تظهر بأجلى معانيها فى أن الزيت أو الدهن يسيل حتى يصل إلى حجرى الجزع على صدرة هارون، وهما يحملان أسماء الأسباط الاثنى عشر، وكأنه بذلك يغمر كل الأسباط بالبركة ويشملهم وهم فى وحدة كاملة وارتباط أخوى بزيت البركة. وهذه ولاشك أعظم صورة لاجتماع الإخوة معاً رغم المسافات والشتات، فهو حين يجتمع فى أورشليم يصبح شعب الله الواحد المتآخى.
وكون الكاتب يعطى هذه الصورة البديعة فى تشبيهه، فهو يريد أن يوضح عظمتها وجمالها فى الاجتماع معاً.
3- المحبة (3 أ) :
ثم يقدم لنا الكاتب فى العدد 3 تشبيهه الثانى :
” مِثْلُ نَدَى حَرْمُونَ النَّازِلِ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ.” وهنا نجد عدة آراء نسردها على النحو التالى :
1- المقصود هنا ليس هو جبل صهيون الذى فى أورشليم ، ولكن “سيئون” الذى هو جزء من حرمون أو هو اسم آخر لحرمون وهذا واضح فى
(تث 4 : 48) “…إِلى جَبَلِ سِيئُونَ (الذِي هُوَ حَرْمُونُ)”
2- لا يوجد ارتباط بين حرمون وصهيون، لأن ندى حرمون لا يمكن أن يصل إلى صهيون. لذلك رُفض هذا العدد.
3- ربما حدث خطأ فى نقل الحروف العبرية، فالمقصود هنا ليس هو “صهيون” بل “عيون”. ونحن نعلم أن حرف ال (ص) فى العبرية يشــابه حرف ال (ع) و “عيون” هو اسم بلد بجانب جبـل حرمون
(1 مل 15 : 20) ” فَسَمِعَ بَنْهَدَدُ لِلْمَلِكِ آسَا وَأَرْسَلَ رُؤَسَاءَ الْجُيُوشِ الَّتِي لَهُ عَلَى مُدُنِ إِسْرَائِيلَ، وَضَرَبَ عُيُونَ وَدَانَ وَآبَلَ بَيْتِ مَعْكَةَ وَكُلَّ كِنَّرُوتَ مَعَ كُلِّ أَرْضِ نَفْتَالِي.”
4- أما الرأى الرابع فهو أن النص صحيح وأن كل هذه الاعتراضات باطلة وهناك الحقيقة الثابتة التى تتضح بأكثر لمعان مع كل يوم من أيام التاريخ، وإن كل اعتراض على الكتاب المقدس لابد أن يرتد على صاحبه، أما تعليل هذه الكلمات فهو أن الأسلوب الشعرى ملىء بالتشبيهات.
والمقصود هنا أن الندى يغمر كل الشعب، كل إسرائيل، من أقصاها إلى أقصاها العالى كحرمون والمنخفض كصهيون، ولقد ذكر جبل حرمون هنا لأن الثلج يظل على قمته على مدار السنة كلها، الذى يهطل منه الندى وينزل بكثرة طوال العام. ويقال أن هذا الندى كان يجعل خيامهم فى الليلة الجافة مبللة كما لو كانت تمطر طوال الليل. ويغمر الندى الأرض – كما يغمر البشر – بالجمال والحيوية والإثمار والخصب ويلف ويوحد الجميع بمشاعر دافئة منعشة.
وكما يأتى الندى من أعالى الجبال لكى يلطف الهواء حوله لا سيما بعد أوقات الجفاف التى تحيط بجبال اليهودية، هكذا فإن المحبة الأخوية تلطف الحياة الإنسانية وتنعشها. هذا هو الهدف من الربط بين جبل حرمون وجبل صهيون فى وحدة تامة فى التأثير والتعبير، رغم التباعد الجغرافى فى المسافة.
ثانياً : الوحدة والموقف :
1- موقف الرب منها: البركة الإلهية :
“هُنَاكَ أَمَرَ الرَّبُّ بِالْبَرَكَةِ حَيَاةٍ إِلَى الأَبَدِ.” (3 ب).
عندما ينظر الرب إلى جماعة المؤمنين فيجدها فى تآخ ومحبة وعشرة طيبة، لاشك أن هذا يفرح قلب الآب، فقد انتهى الصراع والتنافس والغيرة والتناحر، ولم يعد يطلب التلاميذ منه أن يبقى واحد عن اليمين والآخر عن اليسار، لذلك يأمر الرب بالبركة:
(لا 25 : 21) “فَإِنِّي آمُرُ بِبَرَكَتِي لَكُمْ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ فَتَعْمَلُ غَلَّةً لِثَلاَثِ سِنِينَ.”
(تث 28 : 8) “يَأْمُرُ لكَ الرَّبُّ بِالبَرَكَةِ فِي خَزَائِنِكَ وَفِي كُلِّ مَا تَمْتَدُّ إِليْهِ يَدُكَ وَيُبَارِكُكَ فِي الأَرْضِ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ.”
وما أعظمها بركة أن نكون فى روح المحبة والترابط والتآخى والسلام ، هناك حيث هو يحيا معنا إلى الأبد، بركة شاملة غامرة من حرمون إلى صهيون.
والعبارة تركز بشدة على المبادرة الإلهية (أَمَرَ الرَّبُّ بِالْبَرَكَةِ) بركة الشىء الذى يستطيع الله وحده أن يعطيه “حياة إلى الأبد” أى الوعد بحياة متجددة ناهضة ممتدة:
(مز 132 : 14 – 17) “14[هَذِهِ هِيَ رَاحَتِي إِلَى الأَبَدِ. هَهُنَا أَسْكُنُ لأَنِّي اشْتَهَيْتُهَا. 15طَعَامَهَا أُبَارِكُ بَرَكَةً. مَسَاكِينَهَا أُشْبِعُ خُبْزاً. 16كَهَنَتَهَا أُلْبِسُ خَلاَصاً وَأَتْقِيَاؤُهَا يَهْتِفُونَ هُتَافاً. 17هُنَاكَ أُنْبِتُ قَرْناً لِدَاوُدَ. رَتَّبْتُ سِرَاجاً لِمَسِيحِي.”
كبركة للانسجـام والسلام والتناغم، “هناك” حيث الوحدة والادراك الواعى للدور والرسالة والزمن، أو “هناك” حيث التفرق والتمزق والتشرذم يتم تدمير الجماعة وانقسام الأمة كما تم أيام داود نفسه.
هذه النوعية من الحياة المتجددة الممتدة بركة أمر بها الرب، الدهن نازل من الرأس إلى الثياب، والندى نازل من حرمون إلى جبل صهيون، والحياة المتجددة بركة نازلة من الرب إلى الشعب فى غنى وغزارة.
2- موقفنا منها : التجاوب والجهد :
من كل ما سبق يتضح أن البركة نتيجة الوحدة والمحبة وسكن الإخوة معاً. ولأنها نتيجة الوحدة، ولكى نضمن البركة، نحتاج إلى جهد لصناعة الوحدة والسلام، ونحتاج إلى جهد اكبر لصيانة الوحدة والسلام. نحتاج إلى حب صادق، وإلى وعى ناضج، وإلى فهم مستنير لقيمة التنوع الغنى فى إطار الوحدة، تنوع الأفكار والمواهب والشخصيات والأساليب، ووحدة القلب والصف والهدف والرسالة والمصلحة العامة، نحتاج إلى توازن رائع بين تميز الفرد وحريته وكرامته من جهة وصالح الجماعة وتماسكها وأمنها ومستقبلها، وإلى تدرب وقدرة على الحوار المتحضر الراقى الموضوعى، وإلى نظرة كلية شاملة لا تتوقف وتختلف وتنقسم وتتحطم حول الجزئيات، وإلى روح وثابة تستنير من خبرات الماضى لكنها تتطلع بقوة إلى المستقبل، وإلى إدراك لعنصر الزمن وقيمة الوقت ، والاندفاع بقوة فى تيار الحياة، بثقة وإيجابية للبناء، لا بريبة وتشكيك فى كل إنجاز للهدم، أو تضخيم السلبيات والعجز، بل التكتل وتحقيق الأهداف. وحيث يسكن الاخوة معاً هناك يأمر الرب بالبركة، حياة إلى الأبد، حياة السلام والثمر والبهجة.
وبالاجمال، نحتاج إلى قوة الروح القدس التى تفجر فينا المحبة، وتنير الأذهان والبصائر والضمائر، وتثير الوعىّ والإدراك، وتجمع أولاد الله المتفرقين إلى واحد لأن كل بيت منقسم على ذاته يسقط، وكل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب:
(لو 11 : 17) “فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: «كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تَخْرَبُ وَبَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى بَيْتٍ يَسْقُطُ.”
بعض مجالات إظهار الوحدة
نحتاج إلى كل هذا لنعمق الوحدة ولنختبر البركة فى مجالات ثلاثة :
المجال الأول : الأسرة
البيت المؤسس على الصخر، على شخص الرب يسوع وعلى كلمته:
(مت 7 : 24 – 27) “24«فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. 25فَنَزَلَ الْمَطَرُ وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ وَوَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ. 26وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. 27فَنَزَلَ الْمَطَرُ وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ وَصَدَمَتْ ذَلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً!».”
فى ارتباط وتفاهم وإحساس مشترك .. هنا أمر الرب بالبركة حياة إلى الأبد للزوجين معاً وللوالدين والأبناء ككل.
لقد طالعتنا الصحف قبل بعض الوقت بخبر طالب الثانوى الذى قتل أخاه الذى يبلغ من العمر أربع سنوات وأخته الجامعية بنت السبع عشرة سنة، والنتيجة الأب مشلول والأم منهارة والشاب فى الأحداث. لقد دمرت الأسرة وانهدمت بالكامل بسبب الإهمال والإنقسام والتمييز بين الأبناء. إلى هذا الحد تصدق من جديد كلمات المسيح : كل بيت منقسم على ذاته يسقط، لذا فما أحوجنا إلى الوحدة على المستوى الأسرى.
المجال الثانى : الكنيسة
إن النهضة والامتداد كبركة وحياة فى الكنيسة مرتبط بوحدتها وسلامها، والكتاب المقدس وتاريخ الكنيسة يشهدان بذلك. ولذلك يركـز الرسول بولس فى كل كنيسة على حتميـة وضرورة تحقيق الوحدة، ولعل الرسالة إلى أهل فيلبى خيـر شـاهـد عـلى ذلك:
(فى1 : 27) “فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، حَتَّى إِذَا جِئْتُ وَرَأَيْتُكُمْ، أَوْ كُنْتُ غَائِباً أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ، مُجَاهِدِينَ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لإِيمَانِ الإِنْجِيلِ،”
(فى2 : 2 – 4) “2فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْراً وَاحِداً وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئاً وَاحِداً، 3لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. 4لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضاً.”
(فى2 : 14 – 15) “14اِفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ بِلاَ دَمْدَمَةٍ وَلاَ مُجَادَلَةٍ، 15لِكَيْ تَكُونُوا بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاَداً للهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ.”
(فى4 : 2 – 3) “2أَطْلُبُ إِلَى أَفُودِيَةَ وَأَطْلُبُ إِلَى سِنْتِيخِي أَنْ تَفْتَكِرَا فِكْراً وَاحِداً فِي الرَّبِّ. 3نَعَمْ أَسْأَلُكَ أَنْتَ أَيْضاً، يَا شَرِيكِي الْمُخْلِصَ، سَاعِدْ هَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَاهَدَتَا مَعِي فِي الإِنْجِيلِ، مَعَ أَكْلِيمَنْدُسَ أَيْضاً وَبَاقِي الْعَامِلِينَ مَعِي، الَّذِينَ أَسْمَاؤُهُمْ فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ.”
إن الكنائس المحلية والكنيسة العامة فى حاجة ماسة إلى رسالة الكتاب المقدس بخصوص هذا الأمر، فلا رجاء فى حياة ورسالة متجددة مع انقسام وتجذر وتشتت القوى:
(أع 9 : 31) “وَأَمَّا الْكَنَائِسُ فِي جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَالْجَلِيلِ وَالسَّامِرَةِ فَكَانَ لَهَا سَلاَمٌ وَكَانَتْ تُبْنَى وَتَسِيرُ فِي خَوْفِ الرَّبِّ وَبِتَعْزِيَةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ كَانَتْ تَتَكَاثَرُ.”
وإن كانت الطوائف المختلفة، كتعبيرات مختلفة عن أشكال متنوعة للعبادة، حقيقة لا يمكن الهروب أو التنصل منها، إلا أن ذلك لا يمكن أن يمنع الكنيسة الحقيقية من التواصل والاتحاد لأجل تحقيق رسالتها وأهدافها العامة لنشر ملكوت الله. لقد كان وليم تمبل ابناً لرئيس أساقفة، لكنه تشرب علاقات المحبة مع الكنائس الأخرى وعمل على خلق روح التفهم المتبادل وابتكار طرق جديدة للتعاون بين الكنائس، وهكذا ساهم تمبل بقوة فى ايجاد الحركة المسكونية ومجلس الكنائس العالمى.
المجال الثالث : المجتمع والمنطقة العربية والعالم
من الضرورى أن يلتف أبناء المجتمع الواحد حول الأهداف المرجو تحقيقها، هذه القاعدة تنطبق على بلادنا كما وعلى كل الدول الأخرى، فيجب حشد كل قوى وطاقات المجتمع ونحن فى هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا الحديث، يجب أن نحفظ بلادنا من كل صراعات أو انقسام يمكن أن يهدد أو يعيق مسيرة التقدم للمستقبل.
ولعلنا نلاحظ أن كل الاتجاهات اليوم تسعى نحو التكتل والوحدة وتجمع القوى، ونحن نرى ذلك فى كل مناطق العالم، وها نحن نرى الوحدة الأوربية قد صارت حقيقة ماثلة. زالت الحدود وتوحدت العملة وأنشئت الأسواق الموحدة، فهل آن الأوان لنرى شيئاً مماثلاً على مستوى المنطقة العربية؟
كان روبرت سيسل ابن رئيس وزراء محافظ، ولقد صدمته الحرب العالمية الأولى إذ رأى وعانى مما رآه من الآلام والحروب وما جرته على البشر. وكانت نتيجة معاناته وأفكاره ظهور عصبة الأمم التى فتحت الطريق بعد ذلك لوجود الأمم المتحدة. ويتذكر الكل أنه أخذ كلمات المزمور القديم وصاغها فى قرينة جديدة أعطته معنى جديد وقوة جديدة