admin
نشر منذ سنة واحدة
4
المسيح المنتظر وموقف يوحنا المعمدان

المسيح المنتظر وموقف يوحنا المعمدان

الأحد الثالث من المجيء:
المسيح المنتظر وموقف يُوحنَّا المَعمَدان (متى 11: 2-11)

النص الإنجيلي (متى 11: 2-11)

2 وسَمِعَ يُوحنَّا وهو في بِأَعمالِ المسيح، فأَرسَلَ تَلاميذَه يَسأَلُه بِلِسانِهم: 3 ((أَأَنتَ الآتي، أَم آخَرَ نَنتَظِر؟)) 4 فأَجابَهم يسوع: ((اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَون: 5 العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون، 6 وطوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة)). 7 فلَمَّا انصرَفوا، أَخذَ يسوعُ يقولُ لِلجُموعِ في شَأنِ يُوحنَّا: ((ماذا خَرَجتُم إِلى البَرِّيَّةِ تَنظُرون؟ أَقَصَبةً تَهُزُّها الرِّيح؟ 8 بل ماذا خَرَجتُم تَرَون؟ أَرَجُلاً يَلبَسُ الثِّيابَ النَّاعِمَة؟ ها إِنَّ الَّذينَ يلبَسونَ الثِّيابَ النَّاعِمَةَ هُم في قُصورِ المُلوك. 9 بل ماذا خَرَجتُم تَرَون؟ أَنَبِيّاً؟ أَقولُ لَكم: نَعَم، بل أَفضَلُ مِن نَبِيّ. 10 فهذا الَّذي كُتِبَ في شَأنِه: ((هاءَنَذا أُرسِلُ رَسولي قُدَّامَكَ لِيُعِدَّ الطَّريقَ أَمامَكَ)). 11 الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحنَّا المَعمَدان، ولكنَّ الأَصغَرَ في مَلَكوتِ السَّمَواتِ أَكبرُ مِنه. 12 فمُنذُ أَيَّامِ يُوحنَّا المَعمَدان إِلى اليَومِ مَلَكوتُ السَّمواتِ يُؤخَذُ بِالجِهاد، والمُجاهِدونَ يَختَطِفونَه. 13 فَجَميعُ الأَنبِياءِ قد تَنَبَّأوا، وكذلك الشَّريعة، حتَّى يُوحنَّا. 14 فإِن شِئتُم أَن تَفهَموا، فهُو إِيلِيَّا الَّذي سيَأتي. 15 مَن كان لَه أُذُنانِ فَلْيَسمَعْ!

مقدمة

يصف إنجيل الأحد الثالث من المجيء (متى 11: 2-11) المسيح المنتظر بمفهوم يُوحنَّا المَعمَدان وبمفهوم يسوع. والمسيح المنتظر هو ما وعد به الله شعبه لإرساله للعالم لخلاص بني البشر، كما جاء في التوراة “أَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ(المسيح) يَسحَق رأسَكِ (الحية التي ترمز للشيطان) وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه” (التكوين 3: 15)؛ فجاء المسيح لتحقيق الخلاص الذي تنبَّأ عنه أنبياء العهد القديم وإعادة الإنسان مرَّة أخرى إلى الفردوس بعد سقوطه في الخطيئة كما جاء في نبوءة أشعيا “الله هو يَأتي فيُخَلِّصُكم. حينَئِذ تتَفتَحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح وحينَئذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كالأَيِّل ويَهتِفُ لِسانُ الأَبكَم فقَدِ آنفَجَرَتِ المِياهُ في البَرِّيَّة والأَنْهارُ في البادِيَة “(أشعيا 35: 4-6)؛ ومن هنا تكمُن أهمية البحث في وقائع نص الإنجيل وتطبيقاته.

أولا: تحليل وقائع نص الإنجيلي (متى 11: 2-11)

2 وسَمِعَ يُوحنَّا وهو في السِّجنِ بِأَعمالِ المسيح، فأَرسَلَ تَلاميذَه يَسأَلُه بِلِسانِهم:

تشير عبارة “سَمِعَ” إلى أعمال يسوع التي تمَّ الإنباءُ بها من قبل تلاميذه، كما يوضِّح إنجيل لوقا “أَخَبَرَ يُوحنَّا تَلاميذُه بِهذِه الأمورِ كُلِّها، فَدَعا اثنَيْنِ مِن تَلاميذِه” (لوقا 7: 18). أمَّا عبارة ” يُوحنَّا ” فتشير إلى الصيغة العربية من الأصل اليوناني Ἰωάννης المشتق من الاسم العبري יוֹחָנָן، وهو ابن زكريا الشيخ وزوجته أليصابات (لوقا 1: 5). وكلاهما من نسل هارون ومن عشيرة كهنوتية. وكانت ولادته قبل ولادة المسيح بستة أشهر (لوقا 1: 26)، وكان أبواه يسكنان اليهودية، ولربما يطَّا الحاضرة بقرب حبرون، مدينة الكهنة. وكانا طاعنان في السن ولم يكن لهما نسل. ولكن الملاك جبرائيل ظهر لزكريا ووعده بطفل وأعطاه اسم يُوحنَّا، وأعلن انه سيكون عظيماً، ليس في أعين الناس فقط، بل أمام الله. وأن مصدر عظمته الشخصية هو امتلاؤه من الروح القدس وتهيئته طريق المسيح (متى 11: 14). ولد يُوحنَّا سنة 5 ق.م. وتقول التقاليد أنه ولد في قرية عين كارم المتصلة بأورشليم من الجنوب (لوقا 1: 39)، وعرَّف عن نفسه انه “صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة (متى 3: 3). وبدأ كرازته في سنة 26 ب. م. وشهد فيها أن يسوع هو المسيح (يُوحنَّا 1: 15)، وأنه حَمَلُ الله (يُوحنَّا 1: 29 و36). وكان يُعمِّد التائبين بعد أن يعترفوا بخطاياهم في نهر الأردن (لوقا 3: 2 -14). فأصرَّ يُوحنَّا على ضرورة تعميد الجميع بصرف النظر عن جنسهم وطبقتهم (متى 3: 9) مناشداً الجميع أن يتوبوا للهرب من الغضب الآتي (متى 3: 7)، لان معمودية المسيح الآتي ستحمل معها دينونة (متى 3: 12)، وقد طلب يسوع منه أن يعمِّده، لا لأنه كان محتاجاً إلى التوبة، بل ليقدِّم بذلك الدليل على اندماجه في الجنس البشري وصيرورته أخًا للجميع. وبعد توبيخه لهيرودس الملك زجّه في السِّجنِ، وبعد ثلاثة أشهر قدّم هيرودس رأس يُوحنَّا على طبق إلى سالومة ابنة هيروديا. وجاء تلاميذه ودفنوا جثمانه. يقول ايرونيموس “أنهم حملوه إلى سبسطية عاصمة السامرة ودفنوه هناك بجانب ضريح النبيين اليشاع وعوبديا”. وشهد المسيح فيه أعظم شهادة إذ قال: “لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحنَّا المَعمَدان” (متى 11: 11). أمَّا عبارة “السِّجنِ” فتشير إلى الحبس في قلعة مكاور، المطلَّة على البحر الميت شرقا بحسب ما كتب يوسيفوس فلافيوس المؤرخ اليهودي. ولا تزال آثار تلك القلعة باقية حتى الآن. ويعود بناء هذه القلعة إلى القرن الأول ق. م. إذ بناها ألكسندر ينِّيوس. وقام الملك هيرودس بتوسيعها وبناء قصر داخلها. وتمَّ تدميرها على يد القائد الروماني جابنيوس في عهد الإمبراطور طيطس عام 70 م. وبُنيت كنيسة خلال الفترة البيزنطية على قمة القلعة خلال القرن السادس. وأُجريت فيها تنقيبات أثرية وأعمال صيانة وترميم في عام 1995. وكان يُوحنَّا المَعمَدان سجينا في هذه القلعة في نهاية سنة 27 بسبب توبيخه أَميرَ الرُّبعِ هيرودُسَ انتيباس على فجوره، إذ اتَّخذ هِيروديّا امرَأَةِ أَخيهِ فِيلبُّس زوجة له مخالفاً للشريعة (متى 14: 3). وحنقت هيروديا الخائنة على يُوحنَّا وتحيَّنت الفرصة للإيقاع به، لأنه وبَّخ هيرودس بأنه لا يحق له أن يتزوجها (لوقا 3: 19 -20). وهكذا اختفى صوت يُوحنَّا ولم يَعد له وجود في البَرِّية، حيث كان يدعو الجميع إلى التوبة وإلى انتظار ذاك الّذي لا بدَّ وأن يأتي، فنجده سجينا مُرغما على الصمت من قِبل هيرودس انتيباس (متّى 14، 3-4). أمَّا عبارة ” فأَرسَلَ تَلاميذَه يَسأَلُه بِلِسانِهم” إلى بعث بعض تلاميذه للاستعلام من يسوع إن كان هو المسيح. لانَّ الأنباء الّتي وصلته عن المسيح لا تتوافق مع صورة التي قد أعلنها عن مجيء المسيح الذي كان سيقوم بعملية تطهير وتنقية “أَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار. بيَدِه المِذْرى يُنقِّي بَيْدَرَه فيَجمَعُ قَمحَه في الأَهراء، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بنارٍ لا تُطْفأ ” (متى 3: 11-12)، إذ هو المسيح الديّان الّذي سيضع كل الأمور في نصابها الصحيح. فكان ينبغي على يسوع أن يقضي على الشر من جذوره، ويعاقب الأشرار، ويقضي على المظالم. وقد اضطرب يُوحنَّا ونفذ صبره وهو في ظلام السِّجنِ بسبب بطء المسيح في عمله، ولأنه كان يترقب أحداث جسام وأراد أن يرى قبل موته تحقيق أحلام حياته. وربما أرسل يُوحنَّا تلاميذه للسيد المسيح للتأكُّد بأنفسهم من أنه هو المسيح. أمَّا عبارة “أعمالِ المسيح “فتشير إلى تبشير يسوع ومعجزاته التي صنعها ليُبيِّن انه المسيح: “العُمْيانُ يُبصِرونَ، العُرْجُ يَمشُونَ مَشيْاً سَوِيّاً، البُرصُ يَبَرأُونَ والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومونَ، الفُقَراءُ يُبَشَّرون” (لوقا 7: 22)؛ أمَّا عبارة “فأَرسَلَ تَلاميذَه” في اللغة اليونانية πέμψας διὰ τῶν μαθητῶν αὐτοῦ فتشير إلى إرسال اثنين (διὰ ) أو تترجم أيضا بواسطة تلاميذه. ونلاحظ أنَّ تلاميذ يُوحنَّا المَعمَدان ظلوا على اتصال به بالرغم من وجوده في السِّجنِ، وتابعوا رسالته، وحدثَّوه عن أعمال المسيح ومعجزاته. فكانوا ينقلون إلى يُوحنَّا المَعمَدان أخبارا عن يسوع الناصري، عن بعض ما علّم وما عمل. ولم ينفك اتباع يُوحنَّا المَعمَدان يعتبروه معلماً لهم وأبوا أن يعتبروا المسيح أعظم منه على رغم شهادة يُوحنَّا ليسوع (متى 3: 11). وظن بعد المفسِّرين أن يُوحنَّا أرسل تلميذين ليزيل شكوك كل تلاميذه وذلك بمواجهتهم المسيح وسماع كلامه ومشاهدته آياته ومعجزاته (لوقا 7: 18-21).

3 ((أَأَنتَ الآتي، أَم آخَرَ نَنتَظِر؟ ))

تشير عبارة “أَأَنتَ الآتي، أَم آخَرَ نَنتَظِر؟ ” إلى سؤال يُعبِّر عن اندهاش يُوحنَّا المَعمَدان وعن قلقه الكبير بل عن الشك العظيم الذي يساوره حول هوية المسيح المنتظر. أمَّا عبارة ” الآتي ” فتشير إلى المسيح المنتظر منذ قرون حسب نبوءات العهد القديم (التكوين 9: 10، وأشعيا 9: 1-6)، وقد تنبأ يُوحنَّا المَعمَدان أيضا بمجيئه ‘إذ أشار “أَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار. بيَدِه المِذْرى يُنقِّي بَيْدَرَه فيَجمَعُ قَمحَه في الأَهراء، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بنارٍ لا تُطْفأ ” (متى 3: 11-12)؛ أمَّا عبارة “أَم آخَرَ نَنتَظِر؟” فتشير إلى توقعه إتيان غيره، إذ لاحظ يُوحنَّا المَعمَدان أنَّ يسوع الرحيم بعيدٌ كل البعد عن المسيح الديَّان الذي يُنقّي إسرائيل، كما وصفه “ها هيَ ذي الفَأسُ على أصولِ الشَّجَر، فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمراً طيِّباً تُقطَعُ وتُلْقى في النَّار” (متى 3: 10). فإذا هو غير الذي توقعه، لهذا تشكك يُوحنَّا. ويُعلق القديس يُوحنَّا الذهبي الفم ” إنّ المسيح يُظهر رحمةً تجاه الخاطئ الّذي يستحقّ تأنيبًا والذين يغضبونه يستحقّون أن يُدانوا، غير أنّه يتوجّه إلى الناس المذنبين بأعذب الكلام قائلاً: “تَعالَوا إِليَّ جَميعًا، أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم” (متى 11: 28) (عِظة بمناسبة تذكار قدّيس). والواقع أنَّ الأزمة التي وقع فيها يُوحنَّا المَعمَدان انه اقتبس الآية الّذي يتحدث فيها أشعيا عن الانتقام ” لِأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرّبّ وَيومَ آنتِقام لِإِلهِنا ” (أشعيا 62: 2) ولم يفطن إلى الجزء الأول من نفس نص لأية التي تتحدث عن الفقراء والحرية للسجناء كما جاء في نص أشعيا ” روحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَليَّ لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنى وأَرسَلَني لِأُبشِّرَ الفُقَراء وأَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب وأُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنَ المَسبِيِّين وبتَخلِيَةٍ لِلمَأسورين” (أشعيا 61: 1). أفضل طريقة إزالة الشكوك في الدين هي أن نعرضها على المسيح بالصلاة.

4 فأَجابَهم يسوع: ((اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَون:

تشير عبارة ” فَأَخبِروا يُوحنَّا ” إلى إجابه يسوع مصوّرا عمله في إطار الرجاء المسيحاني كما صوّره الأنبياء خاصة أشعيا “حينَئِذ تتَفتَحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح وحينَئذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كالأَيِّل ويَهتِفُ لِسانُ الأَبكَم (أشعيا 35: 5-6)، فأعاد يسوع المسيح يُوحنَّا وتلاميذه إلى الأعمال التي يعرفونها ويجب أن يفسّروها تحقيقا للنبوءات التي نسبها يسوع لنفسه. فيعرفوا أنَّ يسوع هو المسيح من خلال المعجزات التي تدّل على رسالة المخلص (أشعيا 26: 19). وهذا أفضل الجواب لأنه لا شيء يُقنع مثل العمل، ولا شيء يتكلم بصوت اعلى من سيرة الإنسان وتصرفاته. أمَّا عبارة ” اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَون ” فتشير إلى تقديم يسوع لتلاميذ يُوحنَّا صورة حيّة خلال السمع والرؤية، فقد سمعوا كلمات محبّته الإلهيّة الفائقة نحو البشريّة ورأوا أعماله. فالخبر مرتبط بالسمع والرؤية، فينبغي على تلاميذ يُوحنَّا أن يخبروا بان النبوءات التي كانت إسرائيل تسمعها منذ قرون قد تتحقَّق الآن في المسيح يسوع؛ فإن ما تراه العيون الآن هو ذات ما كانت الآذان تسمعه قديما أيضاً. إنّ نبوءات الرب تتحقّق الآن. إن السمع والرؤية يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب. فكلمة الله تفسّر إحداث هذا العالم وإلاَّ ما نستطيع أن نفهم معنى ما يحدث.

هل تبحث عن  الأب الكاهن قدسأبونا القس بيجيمي نسيم نصر

5 العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون،

تشير عبارة “العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً ” إلى إجابة يسوع غير المباشرة على سؤال يُوحنَّا المَعمَدان حاثا إيَّاه على أن ينظر إلى الأعمال التي يُنجزها يسوع ويقرأ فيها علامات الأزمنة ثم أخذ القرار الشخصي مشيرا إلى النبوءات المسيحانية المختلفة الواردة في نبوءة أشعيا (أشعيا 35: 5)، وهي نفس النبوءة التي سبق أن استخدمها أشعيا النبي عن عصر المسيح المنتظر “روحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَليَّ لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنى وأَرسَلَني لِأُبشِّرَ الفُقَراء وأَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب وأُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنَ المَسبِيِّين وبتَخلِيَةٍ لِلمَأسورين” (أشعيا 61: 1)؛ وزاد لوقا الإنجيلي على ذلك قوله ” في تِلكَ السَّاعَة شَفى أُناساً كَثيرينَ مِنَ الأَمراضِ والعِلَلِ والأَرواحِ الخَبيثَة، ووَهَبَ البَصَرَ لِكَثيرٍ مِنَ العُمْيان” (لوقا 7: 21) . وبهذا الأمر يَعلن يسوع الزمن المسيحاني كزمن خلاص وفرح، زمن انتصار على الشر. أمَّا عبارة ” الصُّمُّ يَسمَعون” فتشير إلى نبوءة أشعيا القائلة “في ذلك اليَومِ يَسمعُ الصُّمُّ أقْوالَ الكِتاب وتُبصِرُ عُيونُ العُمْيانِ بَعدَ الدَّيجورِ والظَّلام ” (أشعيا 35: 5-6)؛ أمَّا عبارة “المَوتى يَقومون” فتشير إلى نبوءة أشعيا “ستَحْيا مَوتاكَ وتَقومُ جُثَثُهم. إِستَيقِظوا وهَلِّلوا يا سُكَّانَ التُّراب. فإِنَّ نَداكَ نَدى النُّور وستَلِدُ الأَرضُ الأَشْباح” (أشعيا 26: 19)، ولعلّ إحياء ابن ارمله نائين في منطقة الجليل كانت من جملة المعجزات التي شاهدها تلاميذ المَعمَدان (لوقا 7: 11-17). أمَّا عبارة ” الفُقراءُ” فلا تشير إلى الفقراء والضعفاء فحسب، إنما أيضا إلى المساكين بالروح أي المتواضعين. ويمتاز تعليم المسيح انه لا يفرِّق بين الأغنياء والفقراء، بين الشرفاء وعامة الناس، لان كل بركاته بدون مقابل، بلا فضة وبلا ثمن فيمكن للفقير أن يحصل عليها كالغني، فهو يعزِّي الفقراء بالروح الذين يشعرون بجوع النفس وعطشها إلى البرِّ أكثر من غيرهم (متى 5: 3-5). وأّمَّا عبارة “الفُقراءُ يُبَشَّرون” فتشير إلى نبوءة أشعيا القائلة “روحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَليَّ لِأَنَّ الرَّبَّ مسحني وأَرسَلَني لِأُبشِّرَ الفُقَراء “. ويعلن إنجيل لوقا أنَّ تبشير فقراء هو أهم ما في رسالة يسوع ” رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء”(لوقا 4: 18)، وتُشكل هذه الآية جوهر رسالة يسوع في خط أشعيا (أشعيا 61: 1). ويُعبّر يسوع عن معجزاته وتبشيره بالألفاظ التي أنبا فيها أشعيا في زمن الخلاص، فهي علامات رسالته الخلاصية. وإتمام يسوع هذه النبوءات، دليل على أنَّ خلاص الله أُعْطي منذ الآن للبشر (لوقا 4: 18-19). وفي جواب يسوع لتلاميذ يُوحنَّا مجموعة من نبوءات أشعيا يُبيّن فيها كيف يسوع يُتمّ نبوءة أشعيا حيث أن خلاص الله قد مُنح لجميع الناس “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ”(لوقا 4: 18-19). إن يسوع يستشهد بستة أعمال (معجزات) كدلالة على أيام الخلق الستة. ولا نجد ولا واحداً منها فيه إدانة أو تدمير. هي كلُّها أعمال خلاص وشفاء للإنسان. هي روعة الحياة وروعة الله معاً، هي إعادة الخلق الجديد. إنَّ المسيح يعرض ما يقول وما يفعل، ويترك باب القرار مفتوحاً أمام الإنسان! إن المعجزات هي ختم الله لصدق تعاليم المسيح. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير ” أمام هذا العدد الهائل من الإثباتات والعجائب، لم يكن من سببٍ لأحد أن يشك، بل بالأحرى كان كل ذلك يدعو لكي يزيد إعجابهم أكثر بالرّب يسوع المسيح” (عظات حول الإنجيل، العظة 6).

6 وطوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة)).

عبارة “طوبى” في اليونانية μακάριος مشتقة من أصل عبري אַשְׁרֵי (معناها هنيئا) تشير إلى تبشير فئة من الناس بالسعادة والغبطة من الله. ويستخدم يسوع أسلوبا مألوفا في الكتاب المقدس، يُستعمل لتهنئة أحدٍ نال هبة (متى 13: 16) أو للتبشير بالسعادة (متى 11: 6). فيكشف يسوع عن هوية الذين هم في أوفق حال لنيل ملكوت الله؛ أمَّا عبارة “طوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة ” فتشير إلى تهنئة يسوع المسيح لمن لا يشكُّ فيه، ولا يكون له عائقا أو فخا أي سبب عثار فيسقط ويفقد إيمانه به (لوقا 7: 23). هذا الكلام مناسب إلى يُوحنَّا المَعمَدان إذا مرّ بالشك، ويناسب تلاميذه إن كان سؤاله لمجرد تبديد شكهم. وهي ودعوة إلى الإيمان، انطلاقا من الآيات التي يأتي بها يسوع، إذ لا يُخفى على يسوع أنه يتعذّر على معاصره، حتى على يُوحنَّا، الاعتراف به مسيحاً. وكاد يُوحنَّا يفقد إيمانه بيسوع بعدما رأى منه ما رأى من رحمة وحنان، ولم يشاهد دينونة قاسية فورية، كما وصفه “كُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمراً طيِّباً تُقطَعُ وتُلْقى في النَّار” (متى 3: 10). فمطلوب منا ليس إقرار بخطايانا الشخصية، بقدر ما هو تغيير الصورة الّتي لدينا عن الرب، وتقبله ليس ما نحن نتوقعه بل، كما ورد في الكتاب المقدس على حقيقته. ويُعلق القديس غريغوريوس الكبير ” ماذا يعني بقوله: ” طوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة؟”… إنه كمن يقول: حقًا إنّني أصنع عجائب لكنّني لن اَستنكف من احتمال الإهانات. فإنّني إذ أسير في طريق الموت ليْتَ الذين يكرمونني بسبب العجائب لا يحتقرونني في الموت!”. أمَّا عبارة ” لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة ” في أصل اليوناني σκανδαλισθῇ (معناها يشكُّ) فتشير إلى عائق أو فخ (مزمور 124: 7) وحجر عثرة يسبِّب السقوط (أشعيا 8: 14-15) وبالتالي عندما يشكُّ الإنسان في المسيح بسبب فقره وضعته وتصرفاته خلاف ما يتوقعه منه، يقع في هاوية الإثم والضلال. فالمسيح صار عثرة لكثيرين كما جاء في رسائل بولس الرسول ” هاءَنَذا واضِعٌ في صِهيُونَ حَجَرًا لِلصَّدمِ وصَخْرَةً لِلعِثار، فمَن آمَنَ بِه لا يُخْزى ” (رومة 9: 33)، ” فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب، عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين” (1 قورنتس 1: 23). وأكثر من عَثرَ به، هم اليهود، لأنه لم يأتِ وفق انتظارهم من نجاتهم الزمنية السياسية والمجد العالمي.

7 فلَمَّا انصرَفوا، أَخذَ يسوعُ يقولُ لِلجُموعِ في شَأنِ يُوحنَّا: ((ماذا خَرَجتُم إلى البَرِّيَّةِ تَنظُرون؟ أَ قَصَبةً تَهُزُّها الرِّيح؟

تشير عبارة ” ماذا خَرَجتُم إلى البَرِّيَّةِ تَنظُرون؟ ” إلى تذكير الشعب لدى خروجهم إلى البَرِّية عند بحر لوط (بحر الميت) حيث ذهبوا ليروا ويسمعوا ذلك النبي الشهير يُوحنَّا المَعمَدان الذي كان حينئذ في سجن مكاور ليُجدِّدوا اعتبارهم له. أمَّا عبارة ” َقَصَبةً ” فتشير إلى القصب الفارسي الذي يكون ارتفاعه 4.5 إلى 6 م، وساقه يلوح في الهواء ويتمايل. وتوجد أحجام كثيفة منه حول وادي الأردن وعلى ضفاف السواقي والجداول. ومن المعاني المجازية للقصب كان يرمز به إلى الضعف (2 ملوك 18: 21) وإلى قلة الثبات والتردّد (1 ملوك 14: 15). أمَّا عبارة “أَ قَصَبةً تَهُزُّها الريح ” فتشير إلى المثل بالقصبة التي تحركها الريح، والقصبة سريعة العطب (1ملوك 14: 15)، والريح تستطيع تحرّيكها دون كَسْرها. ولم يكن يُوحنَّا بالقصبة التي تحرّكها الريح، أي السريع التأثر والكثير التقلب، إنّما كان إنسانًا لا يتأثّر بالظروف منحرفًا عن طريقه، بل كان ثابتاً وشديد التمسك بما يعتقد. ويُعلق القديس أوغسطينوس “بالتأكيد لم يكن يُوحنَّا قصبة تحرّكها الريح، لأنه لم يكن محمولًا بكل ريح تعليم”. يُوحنَّا هو كقصبة تهزها الريح فتلويها ولكنها لا تكسرها. إنه لم يتراجع حتى لما وُضع في السِّجنِ. وقد سُجن بسبب تمسكه بالبرّ (لوقا 3: 19-20). ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير “أمَّا يُوحنَّا فلم يكن بالقصبة التي تحرّكها الريح، فلا يتملَّقه المديح، ولا يغضبه الذمّ؛ لا يرفعه النجاح ولا تطرحه المحنة”. إن شهادة يُوحنَّا لم تتغير فيُوحنَّا شهد للمسيح وهو في السِّجنِ، كما شهد له وهو في البرِّية.

8 بل ماذا خَرَجتُم تَرَون؟ أَرَجُلاً يَلبَسُ الثِّيابَ النَّاعِمَة؟ ها إِنَّ الَّذينَ يلبَسونَ الثِّيابَ النَّاعِمَةَ هُم في قُصورِ المُلوك.

تشير عبارة “أَرَجُلاً يَلبَسُ الثِّيابَ النَّاعِمَة؟” إلى كلام يسوع عن يُوحنَّا المَعمَدان أمام الجموع أنّه رجل متقشف، لا متملّق (لوقا 1: 15 و80)، وإنسان مُتنسّك وبعيدٌ كل البعد عن الترف والملذات الجسدية؛ أمَّا عبارة “الثِّيابَ النَّاعِمَةَ” فتشير إلى عيشة الحياة المترفة والخلاعية، كما قال يسوع عن لباس هيرودس انتيباس “ها إِنَّ الَّذينَ يلبَسونَ الثِّيابَ النَّاعِمَةَ هُم في قُصورِ المُلوك” (متى 11: 8). ويُعلق القديس هيلاري أسقف بواتييه “الثياب تعني سرّيًا الجسد الذي تلبسه النفس، فيكون ناعمًا خلال الترف والخلاعة”؛ أمَّا عبارة ” هُم في قُصورِ المُلوك ” فتشير إلى عيشة الترف والتنعم باللذّات كما هي الحال مع الملك هيرودس انتيباس. ويُوحنَّا لم يكن من حاشية الملك، ولا من أهل التملق الذين يشهدون بما يسر الذين هم بينهم بغية منفعة أنفسهم ومصلحتهم الشخصية.

9 بل ماذا خَرَجتُم تَرَون؟ أَنَبِيّاً؟ أَقولُ لَكم: نَعَم، بل أَفضَلُ مِن نَبِيّ.

تشير عبارة “بل ماذا خَرَجتُم تَرَون؟” إلى السؤال الثالث للمسيح دلالة على تقدير الجموع الذين أجابوا على السؤالين السابقين سلبا. فاذا لم يكن يُوحنَّا قصبة، ولا كأحد أهل القصور فماذا يكون؟ أمَّا عبارة “أَنَبِيّاً؟ ” فتشير إلى يُوحنَّا انه نبيّ، بل نبي عظيم هيَّأ طريق الرب، فكان سابق الرب والمنادي أمامه. أمَّا أتباعه لا شك انهم أخطأوا تجاهه فما عرفوه على حقيقته، فظنّوا انه المسيح. إن يُوحنَّا هو نبي عظيم ولكنه ظلّ على عتبة الملكوت. يُوحنَّا ظل في العهد القديم على مستوى الأنبياء. أمَّا يسوع فهو الذي دشّن الملكوت، بل هو الملكوت؛ أمَّا عبارة ” أَفضَلُ مِن نَبِيّ” فتشير إلى مجيء يُوحنَّا المَعمَدان الذي هو الوحيد الذي تنبَّأ أنبياء العهد القديم به (ملاخي 1:3، أشعيا 3:40). تنبأ ملاخي بولادته (لوقا 13:1) وامتلأ بالروح من بطن أمِّه (لوقا 15:1). وهو أفضل من نبي، لانَّ كل الأنبياء تنبأوا عن مجيء المسيح، واشتهوا أن يروه، فلم يستطيعوا، أمّا يُوحنَّا فنال ما طلبوه وأعدَّ له الطريق مباشرة. وكان هو الواسطة لتعريف اليهود بان يسوع هو المسيح بشخصه مشيرًا بإصبعه، قائلًا: “هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم” (يُوحنَّا 1: 29). وبالمقابل مدح يسوع يُوحنَّا لأنه فهم بعد أن تأمل فيما كان يجري على أيدي يسوع. عرف أن يشفِّر علامات الزمن، وأن يدرك أن يسوع هو المسيح المنتظر.

هل تبحث عن  بولس وبرنابا اتجهوا إلى برجة بمفيليا

10 فهذا الَّذي كُتِبَ في شَأنِه: ((هاءَنَذا أُرسِلُ رَسولي قُدَّامَكَ لِيُعِدَّ الطَّريقَ أَمامَكَ)).

تشير عبارة ” فهذا الَّذي كُتِبَ في شَأنِه ” إلى يُوحنَّا الذي كان موضوع بعض نبوءات العهد القديم (ملاخي 3: 14، وأشعيا 40: 3). أمَّا عبارة ” لِيُعِدَّ الطَّريقَ أَمامَكَ ” فتشير إلى دور يُوحنَّا في تهيئة الطريق ليسوع (ملاخي 3: 1)، كما صرّح يُوحنَّا المَعمَدان انه “لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور” (يُوحنَّا 1: 8). إن يُوحنَّا بتواضعه، مثالٌ مُشرِق لما يجب أن تكون عليه حياة كل منا: صوت الكلمة، شاهد للنور، وصديق العريس. ولكي نكون صوت الكلمة، يجب أن نتمرّن على الإصغاء إلى كلامه؛ ولكي نكون شهودا للنور يجب أن نملأ عيوننا بالتأمُّل بنبع النور، ولكي نكون أصدقاء العريس يجب أن نحب بلا حساب. أمَّا عبارة ” رَسولي ” في الأصل اليوناني ἄγγελος (معناها ملاك) فتشير إلى يُوحنَّا الذي لم يأتِ من تلقاء نفسه، بل مرسل من الله للكرازة. ويبدو أنَّ ملاخي النبي يذكر ملاكين أحدهما ملاك العهد، سيد هيكله والآخر سابقه، وهما المسيح ويُوحنَّا كما جاء في نبوءة ملاخي النبي ” هاءَنَذا مُرسِلٌ رَسولي فيُعِدُّ الطَّريقَ أَمامي، ويَأتي فَجأَةً إلى هَيكَلِه السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه، ومَلاكُ العَهدِ الَّذي تَرتَضونَ بِه. ها إِنَّه آتٍ، قالَ رَبُّ القُوَّات” (ملاخي 3: 1). أمَّا عبارة ” لِيُعِدَّ ” فتشير إلى تنبيه الناس بمجيء المسيح وإعدادهم لقبول تعليمه بواسطة التوبة والانتظار.

11 الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحنَّا المَعمَدان، ولكنَّ الأَصغَرَ في مَلَكوتِ السَّمَواتِ أَكبرُ مِنه.

تشير عبارة “الحَقَّ أَقولُ لَكم” إلى تأكيد لما سيأتي من قول أو عمل. أّمَّا عبارة “أَولادِ النِّساءِ” إلى الجنس البشري كما هو شائع في الكتاب المقدس (أيوب 14: 1، 15: 14، 25: 1). أمَّا عبارة ” لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحنَّا المَعمَدان ” فتشير إلى نظرة يسوع بإعجاب إلى يُوحنَّا بوصفه آخر الأنبياء وأعظمهم. إنَّ كل الأنبياء تنبأوا عن المسيح، ولكنهم لم يروه، أمّا يُوحنَّا فانفرد بشرف اختيار الله له أن ينال ما طلبه الأنبياء. لقد رأى الرب وأشار إليه بإصبعه، قائلًا: “هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم” (يُوحنَّا 1: 29)، وعمَّده وشهد له، وهو وحده أدرك سر الثالوث الأقدس يوم عماد الرب يسوع، بهذا قدّم يُوحنَّا شهادة صادقة عن المسيح؛ ولم تكن أفضلية يُوحنَّا على رؤساء الآباء والكهنة والملوك في سجاياه، ولكنه في كونه سابق المسيح في الوظيفة وأقرب إليه من كل الأنبياء. عظمة الإنسان تزيد بقربه من المسيح. ويُعلق القديس ايرونيموس “المعنى الذي قصده هو أن يُوحنَّا أعظم من كل البشر، إن أردت أن تعرف فهو ملاك (متى 11: 10)”. أمَّا عبارة “الأَصغَرَ في مَلَكوتِ السَّمَواتِ أَكبرُ مِنه” فتشير إلى سمو العهد الجديد على العهد القديم الذي يمثله يُوحنَّا المَعمَدان؛ وهنا دعوة إلى يُوحنَّا إلى العبور من العهد القديم إلى العهد الجديد، وبهذا العبور يُولد الإيمان الذي ينجم عنه الخلاص. وأمَّا عبارة ” الأَصغَرَ في مَلَكوتِ السَّمَواتِ أَكبرُ مِنه” فتشير إلى افتتاح عصرٍ جديدٍ، العهد الجديد، ومن هنا يُمكن تفسير هذه العبارة بطرق عديدة: إن أضعف مؤمنٍ الذي له نور معرفة مجد الله في وجه يسوع، هو في مركز أكثر امتيازا مما كان يُوحنَّا المَعمَدان، أو أنَّ المولود من الله بالمعمودية، ويحيا حياة التوبة، هو أعظم من المَعمَدان. فيُوحنَّا كان له كل برّ الناموس، ولكن أولاد الله بالمعمودية خصوصاً المتواضعين الذين تبررَّوا بدم المسيح هم أعظم من أي شخص؛ يُوحنَّا المَعمَدان “بشّر بقرب الملكوت”، بمعمودية ماء فقط للتّوبة، في حين أنّ أقلّ المسيحيين شأناً وعمراً وقدراً يُولد ولادة ثانية من عل ” إذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح ” (يُوحنَّا 3: 5) فيدخل الملكوت؛ في المعمودية يسكن الله قلوبنا، وقد جعلنا بالتبنّي أبناءه ، وفي مسحة الزيت المقدّس يمسحنا ملوكاً وأنبياء وكهنة، وفي القربان الأقدس يُقدّس جسد المسيح أجسادنا، ويسمو بنفوسنا ويُقيم فينا وبيننا (عن يُوحنَّا 1 : 14) . ويُمكن تفسير الآية أيضا أنَّ يُوحنَّا قد يكون أعظم الكل في هذه الحياة، لأنه استحق أن يُعمِّد المسيح وشهد للحق حتى الموت. ويُعلق القديس ايرونيموس ” من كان الأصغر في ملكوت السماوات، أي ملاكًا، فهو أعظم ممن هو أعظم من كل البشر على الأرض”. ولكن ” الأَصغَرَ في مَلَكوتِ السَّمَواتِ أَكبرُ مِنه” ويوضِّح القديس كيرلس الكبير هذا الأمر بقوله “إن يُوحنَّا مثله مثل الآخرين الذين سبقوه، تنسب ولادته إلى امرأة، أمّا أولئك الذين قبلوا الإيمان بالمسيح فليسوا أبناء نساء، بل أبناء الله، كما جاء في تعليم يُوحنَّا الإنجيلي ” أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله” (يُوحنَّا 1: 12). ليس هناك مقارنة بمجد الحياة الآتي. ولكن بعد أن فتح السيد المسيح الفردوس للبشر، ودخل أباء وأبرار العهد القديم ودخل معهم أبرار العهد الجديد كان هناك كلامًا آخر، فالكنيسة المقدسة تضع ترتيب السماويين هكذا مريم العذراء أولًا ثم الملائكة ثم يُوحنَّا المَعمَدان ثم الشهداء ثم القديسين والأبرار. أي أن يُوحنَّا المَعمَدان تضعه الكنيسة على رأس كل المؤمنين في السماء من البشر ما عدا القديسة العذراء مريم التي حملت يسوع المسيح في بطنها.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 3: 1-12)

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 3: 1-12) نستنتج انه يتمحور حول المسيح المنتظر ومن هنا نطرح سؤالين: ما هو مفهوم المسيح المنتظر؟ وما هي رؤية يُوحنَّا المَعمَدان ورؤية يسوع في مفهوم المسيح المنتظر؟

1. ما هو مفهوم المسيح المنتظر؟

لفظة مسيح منقولة عن اللغتين العبرية والآرامية، הַמָּשִׁיחַ، وأمَّا اللفظة اليونانية فهي “خريستوس” Χριστός. واللفظتان تعنيان “مسيح “، أي الممسوح بالزيت. وقد أصبحت هذه التسمية في زمن الرسل اسم العلم ليسوع. غير أن استخدام لفظة المسيح في العهد القديم وفي اليهودية، لا تحمل غنى المعنى الذي تضمنه العهد الجديد.

ارتبط اسم المسيح في العهد القديم مع الملك الدَّيّان (1 ملوك 1: 39)، وأخذ الناس يفهمونه بصورة متطرفة تُبرز خاصة الجانب السياسي من دوره. لذا دهش الناس بقداسة يسوع وسلطته وقدرته، وأخذوا يتساءلون قائلين: “أَتُراهُ المَسيح؟” (يُوحنَّا 4: 29)، أو ما يفيد المعنى نفسه “أَتُرى هذا آبنَ داود؟ ” (متى 12: 23). وألحوا طالبين في أن يُعلن هو بصراحة عن نفسه “حَتَّامَ تُدخِلُ الحَيرَةَ في نُفوسِنا؟ إِن كُنتَ المَسيح، فقُلْه لَنا صَراحَةً “(يُوحنَّا 10: 24).

اتَّفقت السلطات اليهودية، من ناحية، أن تطرد من المجمع كل من يعترف أن يسوع هو المسيح، كما جاء في إنجيل يُوحنَّا البشير “اليَهودَ كانوا قدِ اتَّفَقوا على أَن يُفصَلَ مِنَ المِجمَعِ مَن يَعتَرِفُ بِأَنَّه المسيح” (يُوحنَّا 9: 22)، ومن ناحية أخرى، من يلجأ إلى سلطة يسوع الإعجازية برسالته، ويبتهل إليه معلنًا أنه ابن داود، كما حدث مع أَعمَيين وهما يَصيحان ” رُحْماكَ يا ابْنَ داود! ” (متى 9: 27).

اعترف الكثيرون صراحة أن يسوع هو المسيح، أوّلهم تلاميذه ” وَجَدْنا المَشيح” باليونانية Μεσσίας وبالعبرية הַמָּשִׁיחַ ومَعناهُ المسيح (يُوحنَّا 1: 41)، ثم مرتا أخت لعازر في الوقت الذي أعلن يسوع أنه القيامة والحياة فقالت ” نَعَم، يا ربّ، إِنِّي أَومِنُ بِأَنَّكَ المسيحُ ابنُ اللهِ الآتي إلى العالَم”(يُوحنَّا 11: 27). وأضفى إعلان بطرس الرسول على فعل إيمانه طابعاً رسمياً خاصاً عند جوابه على سؤال المسيح: “ومَن أَنا، في قولِكم أَنتُم؟ فأَجابَ بُطرس: أَنتَ المسيح” (مرقس 8: 29). إلاَّ أن هذا الإيمان الأصيل، ما يزالُ ناقصاً، لأن هذا اللقب “المسيح” مُعرّض أن يُفهم في إطار ملك زمني، كما حدث في معجزة الخبز والسمكتين “عَلِمَ يسوعُ أَنَّهم يَهُمُّونَ بِاختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكاً، فانصَرَفَ وعادَ وَحدَه إلى الجَبَل” (يُوحنَّا 6: 15).

أمَّا مفهوم الانتظار فهو أن مجيء الله وتجسُّدهُ، كان ثمرة انتظار طويل، ابتدأ مع إبراهيم مرورًا بالأنبياء وانتهى مع مريم العذراء. وفي زمن مجيء يسوع المسيح، كان الناس في شدّة الانتظار وهم يُصلّون. لكنه لمّا جاء في ملء الزمن، لم يعرفه أحد، ما عدا بعض الرعاة الفقراء، لانَّ الناس كانوا يتوقعون شيئاً آخر.

2. من هو المسيح المنتظر في رؤية يُوحنَّا المَعمَدان؟

كان يُوحنَّا يعلم انه ” صوت صارخ” على ما ورد في نبوءة أشعيا، فنادى ” بالرب الآتي بقوة ” (أشعيا 40: 10)، وبالديَّان “الآتي كالنار” ليُطهّر كل شيء (ملاخي 3: 1-3). وإن ما بلغ يُوحنَّا في سجنه عن يسوع يختلف كل الاختلاف. انتظر يُوحنَّا من يسوع ذاك الدَّيان ومُنقِّي إسرائيل، الذي يقطع كل شجرة لا تثمر، ويحرق القش، ويدمّر الخطأة. إذ كان يُوحنَّا المَعمَدان يُبشِّر بمسيح صارمٍ، حازمٍ، يضع حداً لكل متهاونٍ، ولكل ما هو مخالف للشريعة والقوانين، ويُدين الفساد ويكافئ الأبرار، لكن يسوع لم يتطابق مع هذه الرؤية، إذ لم يكن المسيح الذي يقلع الشر من جذوره، ويعاقب الأشرار، ويلغي الظلم، ويحمل على التمرد السياسي. بل اظهر حنانه وصبره ورحمته بدل الغضب والحكم والعقاب والدينونة، فهو الذي قال ” فإِنِّي ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبْرارَ، بَلِ الخاطِئين” (متى 9: 13). جاء طبيباً للبرص (لوقا 17: 11-19)، وحلَّ ضيفاً عند العشارين والخاطئين (لوقا 19: 1-10)، ولمس الممسوسين! (متى 8: 28-34). وشفى الوثنيين (يُوحنَّا 4: 37-43)، وعطف على الغرباء (متى 8: 5-1). لذلك لم يكن يسوع متطابقاً وتصورات يُوحنَّا المَعمَدان.

تصرّف يسوع عكس ما تصوره المَعمَدان، أنه جاء من أجل المرضى والخطأة “لِأَنَّ ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه ” (لوقا 19: 10). وأُعلن يسوع سنة مرضيّة (لوقا 4: 19)؛ وأعلنَ يُوحنَّا المَعمَدان المسيح المنتظر يأتي ليُعمّد بالروح القدس والنَّار، ورأى فيه إلهاً متواضعاً يقترب، متضامناً مع الفقراء، طالباً منه أن يُعمّدهُ بمعموديّتهِ بالماء. فكان لزاما على يُوحنَّا أن يتعلّم بأن يسوع أتى ليُعلن عن إلهٍ، تواضعهُ بلا حدود، عن إلهٍ، مع أنه بلا خطيئة، جعل من نفسه خطيئةً لأجلنا، كما جاء في تعليم بولس الرسول؛ “لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر”(فيلبي 2: 6-7)، ويَعد بالفرح الذين يكتشفون الكنز “مَثَلُ مَلَكوتِ السَّمَوات كَمَثَلِ كَنْزٍ دُفِنَ في حَقْلٍ وَجدَه رَجُلٌ فأَعادَ دَفنَه، ثُمَّ مَضى لِشِدَّةِ فَرَحِه فباعَ جميعَ ما يَملِكُ واشتَرى ذلكَ الحَقْل”(متى 13: 44-45). وما أسعد الذين يعيشون بتلك الساعة!

هل تبحث عن  فَعادةُ تَقدمةِ البِكر للرّب، هي شريعةٌ أَوصى بها الرّبُّ شعبَه

تعجّب يُوحنَّا، بالرغم من كل ذلك، حين رأى يسوع ذاك الذي يهتمَّ بالخطأة، ولا يقطعهم كما تقطع الفأس الشجرة (متى 3: 7-12). ويتساءل يُوحنَّا وهو بين جدران سجنهِ، متى ستأتي اللحظة التي سيُظهِر فيها المسيح كامل قدرتِهِ؟ لماذا لم يأتِ حتى الآن ليُخلّصه من هذا السِّجنِ الرهيب؟ فتحيّر يُوحنَّا فحمل على طرح هذا السؤال “أَأَنتَ الآتي، أَم آخَرَ نَنتَظِر؟ ” فيسوع آية. لقد أنبأ سمعان سابقاً عن ذلك، عندما حمَلَ الطفل يسوع على ذراعيهِ: ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض” (لوقا 2: 34).

لمَّا أعلن يُوحنَّا عن يسوع أنه حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم (يُوحنَّا 1: 29)، لم يكن يعرف كيف سيُرفع، ولم يكن يدرك سبب رغبة المسيح في الاعتماد منه (متى 3: 13-15). ولكي يحمل يسوع خطيئة العالم، كان عليه أن يقبل معمودية أخرى، ولم تكن معمودية يُوحنَّا إلا مجرّد مثال لها، وهي معمودية آلام وموت على الصليب، كما صرَّح يسوع إلى تلميذيه يعقوب ويُوحنَّا إذ قالَ لَهما يسوع: ((إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تَسألان. أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سأَشرَبُها، أَو تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها؟” (مرقس 10: 38). وبهذه المعمودية، سيتمّم يسوع كل برّ (متى 3: 15)، لا بإهلاك الخطأة، بل بتبرير الجموع الذين حمل خطاياهم على الصليب، كما تنبأ أشعيا: ” كحَمَلٍ سيقَ إلى الذَّبْحِ كنَعجَةٍ صامِتَةٍ أَمامَ الَّذينَ يَجُزُّونَها ولم يَفتَحْ فاهُ “(أشعيا 7:53). ويُعلق القديس يُوحنَّا للصليب “أن النفس التي ترغب في الحكمة الإلهية، تختار الدُّخول في قلب الصليب. فالصليب هو الباب الذي به يُمكن الدخول إلى كنوز هذه الحكمة”.

3. من هو المسيح المنتظر في رؤية يسوع؟

يوضّح يسوع مفهوم لقب “المسيح المنتظر” إلى يُوحنَّا المَعمَدان، إذ وصفه من خلال أعمال المسيح المنتظر، وهي “العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون” (متى 11: 5). يعلن يسوع بقوله هذا تحقيق نبوءة أشعيا (أشعيا 29: 18-19)، وبالتالي يؤكد يسوع إلى يُوحنَّا المَعمَدان بان يسوع هو حقا المسيح المنتظر الذي تبنا عنه الأنبياء بالقيام بهذه الأعمال العجيبة، كما جاء في إنجيل لوقا ” في تِلكَ السَّاعَة شَفى أُناساً كَثيرينَ مِنَ الأَمراضِ والعِلَلِ والأَرواحِ الخَبيثَة، ووَهَبَ البَصَرَ لِكَثيرٍ مِنَ العُمْيان، ثُمَّ أَجابَهماالمسيح المنتظر وموقف يوحنا المعمدان ( اِذهَبا فأَخبِرا يُوحنَّا بِما سَمِعتُما ورَأَيتُما: العُمْيانُ يُبصِرونَ، العُرْجُ يَمشُونَ مَشيْاً سَوِيّاً، البُرصُ يَبَرأُونَ والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومونَ، الفُقَراءُ يُبَشَّرون ” (لوقا 7: 21 -22). وهذه البشارة في نظر يسوع تتعلق بالأزمنة الأخيرة. وهكذا ردَّ يسوع على سؤال يُوحنَّا بعلامات الملكوت وأعاد التلاميذ إلى يُوحنَّا المَعمَدان بكلمات أشعيا النبي.

قدّم يسوع لتلاميذ يُوحنَّا المَعمَدان صورة حيّة خلال السمع والرؤية، إذ أَجابَهم “اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَون” (لوقا 11: 4). فقد سمعوا كلمات محبّته الإلهيّة الفائقة نحو البشريّة ورأوا أعماله، وأخيرًا حذّرهم من التعثّر فيه. لأنه إذ يدخل إلى الآلام ويجتاز الصليب يتعثّر فيه من لا يدخل إلى أسراره العميقة. وهذا التحذير ليس موجَّهًا للقدّيس يُوحنَّا المَعمَدان، فقد سبق فأعلن يُوحنَّا المَعمَدان بنفسه عن سرّ الصليب بقوله: هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم” (يُوحنَّا 1: 29)، فبقوله “حمل الله” يُعلن الصليب، الذي به يحمل خطيئة العالم. فالحديث إذن موجَّه لتلاميذ يُوحنَّا حتى لا يتعثّروا في صليبه. ويُعلق القديس هيلاري أسقف بواتي “يرسل يُوحنَّا تلاميذ إلى المسيح لينظروا أعماله، فتثبت تعاليم المسيح لهم فلا يكرزون إلا به، غير متطلّعين إلى مسيحٍ آخر”.

تذكِّر أعمال يسوع أيضا بتنبؤات أشعيا (أشعيا 61: 1 و35: 5-6، 26: 19، 61: 1)، إذ تحققت هذه النبوات في يسوع. وتدل تلك الأعمال في نظر الذي يعرف الكتب المقدسة على أنَّ يسوع هو المسيح المنتظر حقا. ويُعلق القديس أوغسطينوس “أمَّا قول المسيح فكان لأجل تعليمهم أيضًا: “العّمي يبصرون”… كأنه يقول لهم: لقد رأيتموني فلتعرفوني! لقد رأيتم أعمالي، إذن فلتعرفوا صانعها… وطوبى لمن لا يعثر فيّ، وهذا أقوله لأجلكم وليس لأجل يُوحنَّا”.

لم تكن صفات المسيح المنتظر ذاك الديَّان فحسب، إنما هو أيضا ذاك المُخلِّص الرحيم، حمل الله، ابن الإنسان، الذي يدعو الخاطئين إلى التوبة “لِأَنَّ ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه”(لوقا 19: 10)، ويدعو المتعبين والمثقلين إلى الراحة ” تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم. اِحمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب، تَجِدوا الرَّاحَةَ لِنُفوسِكم” (متى 11: 28-29)، ويُقدِّم يسوع حياته ذبيحة من أجل جماعة كثيرة “هكذا ابنُ الإِنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس” (متى 20: 28). وهنا يُصرّح بولس الرسول هذه الحقيقة بقوله ” أَنَّ المسيحَ ماتَ مِن أَجْلِ خَطايانا كما وَرَدَ في الكُتُب” (1 قورنتس 15: 3).

استطاع التلاميذ أن يفهموا ماذا ينطوي عليه لقب المسيح بعد قيامته فقط ” أَمَا كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟ ” (لوقا 24: 26). بالطبع، لم يَعد في الأمر مجال لمجد زمني، وإنما الأمر مختلف عن ذلك تماماً. بحسب الكتب المقدّسة، ينبغي “أن يتألم َ المَسيحَ ويقومُ مِن بَينِ الأَمواتِ في اليَومِ الثَّالِث، وتُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم” (لوقا 24: 46).

على ضوء القيامة، تُنسب الكنيسة إلى يسوع لقب הַמָּשִׁיחַ “المسيح”، لانَّ القيامة نصبته في مجده الملكي: الآن وإذ نال يسوع الروحِ القدس الموعود به (أعمال 2: 33)، ” قد جَعَلَه اللهُ رَبًّا ومَسيحًا” (أعمال 2: 36). ولم تتردّد الكنيسة الأولى في الاعتراف ليسوع بأرفع الألقاب، ألا وهو لقب “رَبًّا ومَسيحًا” (أعمال الرسل 2: 36)، ” الـمَسيحُ الرَّبّ” (لوقا 2: 11)، “ربِّنا يسوعَ المسيح”(أعمال 15: 26)، “ابنَ اللهِ” (رومة 1: 4)، وهو “الإِلهُ الحَقُّ” (1 يُوحنَّا 5: 20). وهكذا لم يَعد لقب مسيح بالنسبة إليه لقباً من الألقاب، بل أصبح اسم علم خاص بالنسبة إليه بدون أل التعريف (1 قورنتس 15: 12-23)، وهو يجمع في ذاته كلّ الألقاب الأخرى، ويحمل كلّ الذين خلّصهم المسيح، بحق، اسم “المسيحيين” (أعمال الرسل 11: 26).

ما اشد التَّباين بين هذا المسيح المنتظر، والمسيح الذي نادى به يُوحنَّا المَعمَدان! لذلك صرّح يسوع “طوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة”(متى 11: 6). هنيئا لمن لا يتعثر ولا يزل أمام هذا الانقلاب التام الذي يصطدم به تفكير. وكان قصد السيد المسيح أنَّ لا يدع التلاميذ يشكون فيه، إذا ما رأوه مُعلقاً على عود الصليب، أو مُعرَّضاً لإهانات اليهود. فالتعثر في المسيح المصلوب تعنى عدم الإيمان به.

باختصار، إن شهادة يُوحنَّا المَعمَدان تُسند شهادة يسوع الذي جاء إلى العالم ليشهد للحق وليُخلِّص البشرية باعتباره المسيح المنتظر (يُوحنَّا 18:37). وفي مقابل هذه الرسالة، يمجِّد يسوع رسوله الأمين، يُوحنَّا المَعمَدان داعياً إيّاه “السّراج المتّقد المنير” (يُوحنَّا 5: 35)، و”أعظم نبيّ في أولاد النساء” (متى 11: 11)، ولكنه يستدرك ” أن أصغر الذين في ملكوت السماوات أكبر منه”، مظهراً بذلك تفوّق نعمة الملكوت على موهبة النبوّة، دون أن يحطّ من شأن قداسة يُوحنَّا المَعمَدان. بل هناك دعوة إلى العبور من العهد القديم إلى العهد الجديد حيث يُولد الإيمان الذي ينجم عنه الخلاص لجميع البشر. ويبقى يُوحنَّا المَعمَدان ذاك النبي بل خاتم الأنبياء الّذي يُعدّ لمجيء المسيح، وهو مثالنا في زمن المجيء زمن الاستعداد للقاء الرب مخلصا ودياناً.

الخلاصة

أوضح الإنجيلي متّى موقف اليهود من كرازة يسوع، فقد أرسل يُوحنَّا المَعمَدان تلاميذه ليسوع لكي يدخل بجميعهم إلى التلمذة على يديّه نفسه، وقد قابل المسيح هذا العمل بالشهادة ليُوحنَّا.

علِم تلاميذ يُوحنَّا المَعمَدان أنَّ المسيح المنتظر هو يسوع المسيح الديان والمخلص معا. يسوع المسيح هو الدَّيَّانُ الواقِفٌ على الأَبواب كما أشار إليه يُوحنَّا المَعمَدان وأكّده يعقوب الرسول (يعقوب 5: 9)، لكنه هو أيضا يسوع المسيح الرحيم والمخلص “الذي يَأتي فيُخَلِّصُكم ” كما تبنا أشعيا النبي (أشعيا 5: 4) وقد تمم ّ نبوءة أشعيا النبي ” حينَئِذ تتَفتَحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح وحينَئذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كالأَيِّل ويَهتِفُ لِسانُ الأَبكَم ” (أشعيا 35: 5).

تناول الربّ يسوع “هذه العلامات ” ليُعلن الزمن المسيحاني، زمن خلاص وفرح، زمن انتصار على الشرّ. فإن الله لا يكتفي بان يشير لنا الطريق، بل هو يعدّ لنا طريقه بيننا، فيكون على الدوام بجانبنا في مسيرتنا من خلال ابنه يسوع المسيح. والمسيحي لا يستطيع وحده أن يغلب أهواءه ومحبته للعالم ويسير وراء المسيح، فهو بحاجة إلى عمل الله، كما يؤكده بولس الرسول” فقَد ظَهَرَت نِعمَةُ الله، يَنبوعُ الخَلاصِ لِجَميعِ النَّاس” (طيطس 2: 11).

دعاء

نسألك، أيّها الآب السماوي، أن تُسند مسيرتنا للقاء ابنك الرب المسيح الآتي مُخلصًا وديانًا، فتثبت قلوبنا لمجيئه القريب من خلال كلمة الإنجيل والإفخارستيا والسير على خطاه في خدمة الفقير واليتيم والغريب والضيف والسجين والمسنّ والمريض والمُعاق، وضحايا الحروب والمجاعات واضطرابات الطبيعة، ونشعر بفرح روح الربّ (غلاطية 5، 22)، فرح معرفة أنّ المسيح الربّ يَحيا فينا (غلاطية 2، 20)، فرح اختبار روحه في قلوبنا (غلاطية 4، 6)، فرح ما قد وعدنا به الربّ (غلاطية 3، 29)، فرح اختبار محبّة إخوتنا وأخواتنا في الإيمان. آمين.





الأب لويس حزبون – فلسطين

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي