أمثال يسوع
تأخذ الأمثال حيزاً كبيراً في الأناجيل, وتفتخر الكنائس بها, وهو ما يستدعي دراستها بالتفصيل لنعرف حقيقتها ودورها في إظهار الصفات التي كتبتها الأناجيل وقوانين إيمان الكنائس ليسوع, وأبدأ بأسباب تكلم يسوع بالأمثال.
أسباب تكلم يسوع بالأمثال
يحدد كتبة الأناجيل سبب تكلم يسوع بالأمثال بأمرين اثنين, الأول وهو ما عبر عنه متّى بقوله:
– بدون مثل لم يكن يكلمهم لكي يتم ما قيل بالنبي القائل سأفتح بمثال فمي وانطق بمكتومات منذ تأسيس العالم. (متّى13/34-35)
فالسبب كما يقول متّى في تكلم يسوع بالأمثال هو لكي يتم ما قيل بالنبي القائل سأفتح بمثال فمي وأنطق بمكتومات منذ تأسيس العالم, أي إن يسوع تكلم بالأمثال لأن العهد القديم تنبأ عنه بهذه الصفة, ولكن هل القول الذي استشهد به متّى ينطبق على يسوع؟
لنقرأ المزمور الذي أقتطع منه متّى هذه الفقرة لنرى إن كان ينطبق على يسوع أم لا.
– اصغ يا شعبي الى شريعتي,
أميلوا آذانكم الى كلام فمي,
أفتح بمثل فمي,
أُذيع الغازاً منذ القدم,
التي سمعناها وعرفناها وآباؤنا اخبرونا,
لا تخفي عن بنيهم الى الجيل الاخر,
يبدأ المزمور بدعوة المتكلم لشعبه بأن يصغي إلى شريعته وان يميلوا آذانهم إلى كلامه, وهم بنو إسرائيل, ولا يمكن أن تكون الكنائس هي المقصودة بهذا الخطاب, لأنها ليست من بني إسرائيل, كما ان يسوع قال انه لم يرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة, فأين الكنائس من هذا الكلام وهم ينتمون إلى كل شعوب الأرض إلا شعب إسرائيل!
إن أول ما يظهر من المقارنة بين المزمور ونص متّى, وهو عادة ما يظهر كلما قارنا بين نصوص العهد القديم والنصوص المقتبسة في الأناجيل, هو ذلك الاختلاف بين نص المزمور ونصّ الإنجيل, فمتّى قال سأفتح بأمثال فمي وانطق بمكتومات منذ تأسيس العالم, والمزمور يقول: افتح بمثل فمي, أُذيع الغازاً منذ القدم, التي سمعناها وعرفناها وآباؤنا أخبرونا, وأنا لست أدري ما هو السبب الذي كان من أجله يقوم كتبة الأناجيل بتغيير نصوص العهد القديم, هل هو عدم توفر نسخ العهد القديم بين أيديهم, آم أنهم كانوا في عجلة من أمرهم حتى أنهم كانوا يضطرون إلى نقل النصوص بالمعنى وليس حرفيّاً, آم ان الروح المقدس كان يصحح لهم نصوص العهد القديم حتى يُظهر الحق, كما وعد يسوع تلاميذه بان الروح المقدس سيخبرهم بالحق كله, وإذا كان هذا السبب مقبولاً عند الكنائس فانه من المستغرب أن لا يقوموا بتصحيح النصوص كذلك في العهد القديم, كما فعلت الكنيسة البروتستنتية عندما قامت بحذف سبعة أسفار من العهد القديم وقالت إنها ليست وحياً وأنها منحولة ولم تكتب بسوق من الروح المقدس!
كما أن متّى يقول: إن يسوع ينطق بمكتومات منذ تأسيس العالم, وأنا أتساءل أين هي المكتومات التي أخبر بها يسوع, وهل تستطيع الكنائس أن تخبرنا عن أية مكتومة قالها, ليس منذ تأسيس العالم بل في أي زمان كان سواء القريب أو البعيد, باستثناء الحديث عن خراب الهيكل الذي يمكن أن يكون حدث قبل كتابة الاناجيل؟!
وأما المزمور فيقول انه يذيع ألغازاً منذ القدم التي سمعناها وعرفناها وآبائنا أخبرونا بها, أي إن ذلك المخبر سيذيع ألغازاً كانت مخفية عن الناس, وهي ألغاز كان بنو إسرائيل قد سمعوها وعرفوها من آبائهم فهل أخبر يسوع بأي لغز كان خافياً على بني إسرائيل, لو كان هذا النص يُقصد به يسوع؟
مخبرين بتسابيح الرب وقوته وعجائبه التي صنع,
أقام شهادة في يعقوب,
ووضع شريعة في إسرائيل التي أوصى آباءنا ان يُعرّفوا بها أبناءهم لكي يعلم الجيل الآخر,
بنون يولدون فيقومون ويخبرون أبناءهم,
فيجعلون على الرب اعتمادهم ولا ينسون أعمال الرب بل يحفظون وصاياه,
هذه الفقرات تتحدث عن تسابيح الرب وعن شريعته, وأمره لبني إسرائيل بحفظ تلك الوصايا وتبليغها للأجيال التالية, وهذا الأمر لم تعمل به الكنائس المختلفة, فمن يقول ان هذا النص يتحدث عن يسوع يجب عليه القول ان الكنائس خالفت هذا النصّ بعينه, لأنهم لم يلتزموا بالشريعة ولا حفظوا وصايا الرب كما أمرهم المتكلم في هذا النصّ, كالختان والسبت وغيرهما, والأهم من هذا كله هو أنهم لم يلتزموا بقول يسوع نفسه بعدم دعوة غير اليهود لأنه لم يُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة!
بنو أفرايم النّازعون في القوس الرّامون انقلبوا في يوم الحرب,
لم يحفظوا عهد الرب وأبوا السلوك في شريعته,
ونسوا أفعاله وعجائبه التي أراهم,
قدّام آبائهم صنع أُعجوبة في أرض مصر,
هذه الفقرات تتحدث عن بني أفرايم وكيف أنهم لم يحفظوا عهد الرب وأبوْا السلوك في الشريعة وإنهم نسوا أفعال الرب, ولم يخبرنا متّى ولا غيره من كتبة الأناجيل أن بني أفرايم انقلبوا في يوم حرب كانت في زمن يسوع, ولا ان يسوع دعا بني أفرايم ولم يستجيبوا له وأبوا السلوك في الشريعة, بل ما أخبرنا كتبة الأناجيل سوى محاولات وأقوال ليسوع كانت تدعو لعدم التمسك بالشريعة كما بينت ذلك سابقاً, وكما هو حال الكنائس من عدم التمسك بالشريعة ووصاياها والعمل على مخالفة أكثر أوامرها.
وجرّبوا الرب في قلوبهم بسؤالهم طعاماً لشهوتهم,
فوقعوا في الرب,
قالوا هل يقدر الرب ان يرتب مائدة في البرية,
هو ذا ضرب الصخرة فجرت المياه وفاضت الأودية,
وهذه الفقرة تتحدث عن بني إسرائيل في سيناء, وهذا يثبت ان النص لا يتحدث عن يسوع.
لذلك سمع الرب فغضب واشتعلت نار في يعقوب وسُخط أيضاً صعد على إسرائيل,
لانهم لم يؤمنوا بالرب ولم يتكلوا على خلاصه,
وأمطر عليهم منّاً للأكل وبرّ السماء أعطاهم,
أكل الانسان خبز الملائكة,
في هذا كله أخطأوا بعد ولم يؤمنوا بعجائبه,
اما هو فرؤوف يغفر الاثم ولا يهلك,
ذكر انهم بشر,
وهذه الفقرات كذلك تتحدث عن بني إسرائيل وكيف أنهم كثيراً ما كانوا يكفرون بالرب ولا يتكلون عليه ولا يؤمنون بعجائبه ومع هذا فان الرب رؤوف يغفر الإثم ولم يهلكهم لأنهم بشر!
كما أننا نقرأ قوله أكل الإنسان خبز الملائكة, وفي هذا نقض لما تقوله قوانين إيمان الكنائس من أنه لا يوجد أكل في مملكة يسوع لأن الناس يكونون هناك كالملائكة, وهنا يقول المزمور إن للملائكة طعاماً أكله الناس!
ثم تتوالى الفقرات بالحديث عن بني إسرائيل في التيه حتى تصل إلى الفقرات التالية:
فجربوا وعصوا الرب العلي,
وشهاداته لم يحفظوا,
بل ارتدوا وغدروا مثل آبائهم,
انحرفوا كقوس مخطئة,
أغاظوه بمرتفعاتهم وأغاروه بتماثيلهم,
سمع الرب فغضب ورذل إسرائيل جداً,
ورفض مسكن شيلو الخيمة التي نصبها بين الناس,
وسلّم للسبي عزه وجلاله ليد العدو,
ودفع الى السيف شعبه وغضب على ميراثه,
مختاروه أكلتهم النار وعذاراه لم يحمدن,
كهنته سقطوا بالسيف وأرامله لم يبكين,
كما نقرأ في هذه الفقرات فان المتكلم يقول إن الرب غضب على شعبه بني إسرائيل وأسلمهم للسبي والسيف سواء منهم العامة أو الكهنة, والسبب في ذلك هو إغاظتهم إياه بالمرتفعات والتماثيل, أي إن الرب يغتاظ من التماثيل ومن الذي يصنعها, فماذا ستقول الكنائس لأتباعها الطيبين وهي تملأ الأرض بالتماثيل والصور من كل صنف ونوع؟
وهل الذي غضب على شعبه لأنهم عملوا التماثيل وأسلمهم للسبي والسيف ولم يرحمهم سيفرح بعمل الكنائس للتماثيل والصور ويورثهم الحياة الأبدية جزاء عملهم هذا؟!
فضرب أعداءه الى الوراء, جعلهم عاراً أبدياً,
ورفض خيمة يوسف ولم يختر سبط أفرايم,
بل اختار سبط يهوذا جبل صهيون الذي أحبه,
وبنى مثل مرتفعات مقدسة كالأرض التي أسسها الى الأبد,
واختار داؤد عبده وأخذه من حظائر الغنم من خلف المرضعات,
أتى به ليرعى يعقوب شعبه واسرائيل ميراثه,
فرعاهم حسب كمال قلبه وبمهارة يديه هداهم. (مزامير78/1-72)
في بداية هذه الفقرات جملة تتحدث عن الرب أُنزهه عما فيها من معان لهذا لم اكتبها هنا, وباقي النص يتحدث عن رفض الرب لنسل يوسف والمتمثل بسبط أفرايم واعطاء العهد لسبط يهوذا, واختياره لداؤد عبده ليرعى شعبه بمهارة وكمال قلب.
وبعد فهل يستطيع متّى والكنائس المختلفة أن يقولوا لنا أين وجدوا يسوع في هذا النص الطويل حتى في الفقرة التي قال متّى أنها تتحدث عن يسوع, مع انه قام بتغيير معناها ومضمونها, فهي غير متحققة في الأقوال التي نسبوها ليسوع وقالوا انه تحدث بمكتومات منذ تأسيس العالم كما بينت ذلك في فصل النبوءات؟
وإذا كان استشهاد متّى بفقرة من المزمور خاطئ فهل ما كتبت الأناجيل عن يسوع يشهد له أنه فتح بمثال فمه ونطق بمكتومات منذ تأسيس العالم؟ هذا ما سنعرفه عند استعراض الأمثال بعد قليل.
والسبب الثاني لتكلم يسوع بالأمثال هو ما عبّر عنه في النصين التاليين:
– فتقدم التلاميذ وقالوا له لماذا تكلمهم بأمثال,
فأجاب وقال لهم لأنه قد أُعطي لكم أن تعرفوا أسرار مملكة السماء,
وأما لاولئك فلم يعط,
فان من له سيُعطى ويُزاد,
وأما من ليس له فالذي عنده سيُؤخذ منه,
من أجل هذا أُكلمهم بأمثال,
لأنهم مبصرين لا يبصرون, وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون. (متّى13/10-13)
و(مرقس4/10-20) و(لوقا8/9-15)
وفي إنجيل لوقا قال ومن ليس له فالذي يظنه له يؤخذ منه.
– وأمثال كثيرة كان يكلمهم حسبما كانوا يستطيعون أن يسمعوا, وبدون مثل لم يكن يكلمهم وأما على انفراد فكان يفسر لتلاميذه كل شيء. (مرقس4/23-24)
في هذين النصين نقرأ أغرب أمر يمكن أن يقوم به إنسان, سواء كان نبياً أو صاحب فكرة فلسفية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية, يريد تبليغها للناس, فالأصل في هؤلاء أن يكون شغلهم الشاغل هو كيفية توضيح أفكارهم وأرائهم للناس حتى يؤمنوا بها, وهم يستخدمون من أجل ذلك كل أنواع التوضيح والشرح, وإذا وجدوا صعوبة في إيصال أفكارهم للناس فإنهم يلجئون إلى توضيحها بذكر الأمثال المقاربة حتى لا يكون هناك إشكال في عقول من يتوجهون له تجاه صحة تلك الأفكار والدعوات, إلا يسوع, كما تقول الأناجيل, فانه يذكر الأمثال حتى لا يتمكن الناس الذين أُرسل إليهم أن يفهموا دعوته وبالتالي يبقوا على ضلالهم!
فالنبي أو الرسول يُرسل لهداية الناس وإخراجهم من ضلالهم لا أن يزيدهم ضلالاً فوق ضلالهم كما يقول يسوع عن أُولئك اليهود, الذين لم يُرسل إلا إليهم, فإذا لم يُعط اليهود أن يعرفوا أسرار مملكة السماء فلماذا أُرسل إليهم؟!
ولم يكتف يسوع بالقول ان اليهود لم يُعطوا معرفة أسرار مملكة السماء, بل قال ان من كان عنده شيء من العلم فانه سيؤخذ منه, ويستشهد بقول من العهد القديم بأنهم مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون!
أعود الآن لبداية النص فهو يقول لتلاميذه انه قد أُعطي لهم أن يعرفوا أسرار مملكة السماء, فهل أعطى لهم معرفة أسرار مملكة السماء؟