أنا عطشان – أعطيني لأشرب

أنا عطشان أعطيني لأشرب

+ يا الله، إلهي أنت؛ عطشت إليك نفسي
+ يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء (مزمور 63: 1)
* في الحقيقة أن كل إنسان فينا في باطنه لهيب شوق عطش عميق إلى الله الحي، يدفعه دفعاً للامتداد نحو الله مهما ما كان ساقط أو في عمق أعماق وحل الخطية متورطاً فيها حتى الآذان ويكاد أن يغرق ليموت فيها إذ أنه واقف على حافة الهاوية السحيقة، وهذا الامتداد يجعل في داخله تساؤل يشغل حيز تفكيره ولو من بعيد وهو ما قاله المُرنم في القديم: متى أجئ وأتراءى قدام الله (مزمور 42: 2)، ويتحل التساؤل لأنين عميق في النفس يزيد من الشوق والطوق للإله الحي.


* وشوق النفس هذا لا يرويه غير شخص الله وحده فقط، لأن الإنسان في تيهان قلبه عن الحق، يحفر لنفسه آباراً كثيرة لا تضبط ماء ولا تقدر أن ترويه بكونها مالحة تُسبب عطش أكبر وأعظم، لأنه تارة يبحث عن أعمال صالحة يصنعها أو شيءٌ من النسك الكثير أو القليل، أو يرتكز على الطقوس وغيرها من كل الممارسات الدينية الخارجية لكي يروي ظمأه من نحو الله الحي، أو يفتش عن إنسان يشبعه بالفكر الروحي أو اللاهوتي، ولكن هيهات أن ارتوى، لأنه يزداد جفاف أكثر ويسير في برية التيه، التي فيها لا يرى الله ولا يشعر بقربه، ويشتكي ويصرخ صرخة داخلية صامته: “من ينزل الله من سماء مجده إليَّ، أو من يرفعني إليه”، ومن ثمَّ يبحث عن وسيط ليُصالح بينه وبين الله، ولسان حاله يقول: “ليس بيننا مُصالح يضع يده على كلينا” (أيوب 9: 33)
* ولكن مع الوقت وطول الأيام تزداد المشكلة تعقيداً ويجد الإنسان نفسه أبعد ما يكون عن الله الحي بالرغم من أنه أحياناً يُمارس الممارسات الدينية ويامم الواجبات الروحية، وربما يكون خادم أو حتى ذو رتبه كنسية، ولكن كل أعماله هذه التي يعملها ليست بذات قيمة تُذكر سوى انها أراحت ضميره بعض الشيء، لكن لهيب العطش يوجع أحشاءه من الداخل، ونفسه حزينة جداً حتى الموت، حتى ولو كانت الابتسامة على وجهه ظاهره أمام الناس.


*** ولنعلم أنه من المستحيل على الإنسان أن يرى الله إلا بعد صِدام المواجهة مع الواقع ليصل للقناعة الداخلية التامة أن كل سيره الطويل في البحث عن الأماكن الصالحة ليجد فيها آبار ماء حي لا تُجدي نفعاً وليست بذات قيمة على الإطلاق والمحصلة = صفر، وليس هناك من حل على الإطلاق سوى أن تجده الحياة نفسها وتلتقيه.
* فالإنسان يظل في قلق واضطراب عظيم وروحه في أعماقه تئن فيه، لأنها تُطالب بحقها الإلهي الضائع؛ لأنه يملئها دائماً شعور بالحاجة المُلّحة للحركة والانطلاق نحو هدفها الأسمى الذي هوَّ مصدر وجودها الحقيقي.


+ كما يشتاق الآيل إلى جداول المياه
+ هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله (مزمور 42: 1)
* فطبيعة النفس البشرية أنها تواقة لما هو سماوي، وذلك لأن طبعها الأصلي شريف، لأنها مخلوقة في الأساس على صورة الله، فكل انتماء للعالم أو سقوط تحت عثراته وضغوطه المادية، وكل مطالبة السليمة والشرعية، هو غريب عن أصالة معدنها، والاهتمام الزائد به يسبب لها الضيق والقلق إلى حدّ الوصول للكآبة في ضيق شديد المرارة.


** لذلك فأن شفاء النفس الحقيقي والفعلي من المستحيل على الإطلاق أن يكون بطرق بشرية مهما كانت صحيحة، فمحاولة إدخال الفرح الكاذب بالإيحاءات أو الدراسات أو التسلية أو المسرات الجسدية أو كثرة الحديث أو كثرة الصداقات أو عن طريق المشورة أو التنمية البشرية، فهذه كلها تُزيد من هروب النفس واختفاؤها، ليبرز من بعدها الضيق والتعب والكآبة والحيرة بأشد مما كانت!!!
*** فشفاء النفس هو في حركتها الطبيعية التي خلقها الله، التي هيَّ: الامتداد في معرفته والقرب منه والالتصاق به، والنفس الواعية لسموها الروحي ومكانتها لدى الله وعمل المسيح من أجلها، لا يُمكن بل ومن المستحيل على الإطلاق أن تؤثر فيها أي ظروف معاكسة أو أي خطية تعثرت فيها. فالعودة لله والتوبة إليه عنصر أساسي في تكوينها وحركتها المخلوقة عليه، لا تقدر أن تتناساه أو يعبر عليها، بل يظل أنين في أعماقها يلح عليها إلحاحاً ويدفعها نحو حضن الله لترتمي فيه.


+++ ويفيدنا جداً معرفة أن علاقة النفس علاقة صحيحة بالله هي مصدر الحياة للإنسان وفرحه الدائم واستمرار حياته بهدوء وسلام في أشد الظروف إزعاجاً وضيقاً مهما ما كانت شدة الآلام، فنحن نحتاج – اليوم – لقوة جديدة، التي هي قوة المسيح القائم من الأموات، الذي هو أمس واليوم والغد بل وإلى الدهر، فليتنا اليوم وكل يوم نلمس بالإيمان شخصه لتخرج منه قوة ويقول من لمسني لأن قوة خرجت مني (لوقا 8: 46)
فيحق لنا الآن بأصالة الوعي الروحي أن نقول: العقل المستنير والإدراك الوعي والتفكير العاقل هو في النفس السليمة، والنفس تكون سليمة كلها صحة وعافية في علاقتها الروحية الصحيحة بمصدر حياتها وخلاصها الله القدوس الحي.


* فالعناية – يا إخوتي – بالنفس البشرية أولى من العناية بالجسد ألف مرة، فهي سرّ صحته وعافيته وحياته وقوته. فالنفس في الإنسان أعظم من جسده، بل والنفس بعلاقتها الوثيقة بالله أعظم من الذات التي تنتمي للجسد أي روح الكبرياء والتباهي بالأعمال: “ولكن بنعمة الله أنا ما أنا، ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي” (أنظر 1كورنثوس 15: 10)
+++ عموما باختصار،
الذي لا يهتم بنفسه ويوفر لها مطلبها الأساسي في امتدادها نحو خالقها الذي هو منتهى راحتها وصحتها، فإنه سيقع حتماً تحت عقوبتها، أي مرضها الروحي والنفسي، حتى يؤثر على الجسد نفسه بأمراض غريبة، فالنفس إن مرضت لا ترحم، ولا يعود للحياة كلها أي معنى بالنسبة للإنسان إن هي اعتزلت الحياة وأصابها اليأس والإحباط، لأن هذا كله يدفعها يا اما للجنون وعدم التعقل والشطط، يا أما لليأس المُدمر، حتى تتمنى الموت لأن ليس لها أي رجاء في الحياة الحاضرة ولا الآتية.


*** ولننبته في بساطة قلب لأن: (البسطاء يسمعون الكلمة ويعملون بها عن حب للحق وشوق في قلوبهم، فينالون من الله نعمة الروح؛ أما الحكماء الذين يسعون وراء بلاغة الكلام بلا حب للحق فإنهم يهربون… ولا يتقدمون) ((من عظة 43 عن النمو للقديس مقاريوس الكبير))
+ وحقاً طوبى للذي يعطش الآن لأنه زمان الملء، وطوبى لمن يشرب ويمتلئ كقول الروح: “من يعطش فليأتِ، ومن يرد فليأخذ ماء حياة مجاناً” (رؤيا 22: 17)
والقادر أن يحفظكم غير عاثرين ويوفقكم أمام مجده بلا عيب في الابتهاج يملأ حياتكم بكل نعمة وبركة وسلام وافر؛ “ومن يثبت في تعليم المسيح فهذا لهُ الآب والابن جميعاً” (3يوحنا 9)؛ كونوا معافين باسم الثالوث القدوس آمين.


هل تبحث عن  العذراء .. من الهيكل .. إلي السماء !

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي