نصُّ الإنجيل
قالَ يسوع : ” أَيَأْتي السِراجُ لِيُوضَعَ تَحتَ المِكيالِ أوْ تَحتَ السَرير ؟ أَلا يأْتي ليُوضَعَ على المَنارة ؟ فما مِنْ خَفِيٍّ إلاَّ سَيُظهَر ولا مِنْ مَكتُومٍ إِلاَّ سيُعلَن . مَنْ كانَ لهُ أُذُنانِ تَسمعانِ , فليسمَعْ .” ( مرقس 4/21-23 )
الفكرة الأساسيَّة الواردة في هذا المثل
إنَّ الفكرة الأساسيَّة الواردة في هذا المثل هي أنَّ السِراج المُنير هو يسوع نفسُهُ, النور السماوي المتلألئ, الذي جاءَ إلى العالم لا ليختفيَ تحت طيِّ الكتمان,
بل لينتشر في العالم كلِّه ويضيء الناس ويجعَلهم يتمتَّعون به, فيكون بهجةَ قلوبهم وسببَ خلاصِهم الأبدي. وإليكُم إيضاح هذه الفكرة.
يسوع نور العالم
قال يسوع للجمع: ” أَنا نورُ العالَم . مَنْ يتبَعْني لا يمشِ في الظلام . بل يكونُ لهُ نورُ الحياة .” (يوحنا 8/12 )
1- فيسوع نورُ العالم بسموِّ تعاليمه الموحاة التي أَطْلَعَ بها الناس على أُبوَّة الله للبشر ومحبَّته الوالديَّة لهم وعنايته بهم أجمعين, وعلى الواجب الذي يدعوهم إلى أن يحبُّوا بعضهم بعضاً، كما أحَبَّهم هو حُبّاً بلغ مُنتهى الحبّ.
2- ويسوع نورُ العالم بكمال شخصيّته الإلهيّة ومَثَلُ الفضائل السامية التي مارسها في حياته, ومِنْ أبرزها المحبّة والوداعة والحنان والصبر والعفاف والطاعة الكاملة لإرادة أبيه السماوي, والعطف على المرضى والخطأة والمتألِّمين والمُهمَلين.
3- ويسوع نورُ العالم بروعة التضحيات الكثيرة التي تحمَّلها, ولا سيَّما بالتضحية الكبرى التي أقدم عليها ونفَّذها في سبيل خلاص البشريَّة الخاطِئة, فمات على الصليب طوعاً لأجلِها.
4- ويسوع نورُ العالم بالكشف عن حياة الله الداخليّة الفائقة الوصف التي أظهرت للناس أنَّ الله محبَّة, وأنَّ المحبَّة فضيلةٌ إلهيَّة تنعَمُ بها, حتى على الأرض, نفسُ كلِّ من يؤمِن بيسوع ويحيا حياة القداسة, فتكون هذه المحبّةُ سببَ سعادته الدائمة في السماء.
نور يسوع يتلألأ أمام جميع الناس
لم يأتِ يسوع إلى العالم ليبقى سِرّاً مخفيَّاً أو نصيبَ فئةٍ ضئيلةٍ من المؤمنين, بل ليكون نوراً يتلألأ أمام جميع الناس. وهذا ما حمله على أن يأمر تلاميذه بأن ينشروا نورَهُ في العالم كلّه: ” اذهَبوا وتلمِذوا جميعَ الأُمَم , وعلِّموهم أَنْ يحفظوا كُلَّ ما أَوصيتُكم بِهِ .” ( متى 28/19 )
لقد أرسل يسوع تلاميذه إلى العالم لكي يُعلِنوا للجميع كلَّ ما علَّمهُم إيَّاه على انفراد من الحقائق الإلهيَّة النَيِّرة. قال لهم: ” ما أَقولُهُ لكُم في الظُلُمات قولُوهُ في وَضْحِ النهار , وما تسمعونَهُ يُهمَسُ في آذانِكُم نادوا بهِ على السُطوح . فما مِنْ خفيٍّ إلاَّ سيُظهَر ولا مِنْ مكتومٍ إلاَّ سيُعلن.”
( متى 10/26 ومرقس 4/23 )
الكنيسة تابعت مَهَمَّة الرسل التبشيريَّة
1- إنَّ الكنيسة التي خلفت الرسل تابعت- ولا تزال تتابع- مَهَمَّتهم التبشيريَّة في العالم, فنقلت إلى الناس أجمعين تعليم يسوع الذي اقتبسته من الإنجيل المقدَّس, ومن رسائل بولس الرسول, ومن الرسائل الجامعة التي كتبها سائر الرسل القديسين.
2- فمن أصغى إلى أقوال الكنيسة, وكان صاحب نيَّة سليمة, تغلغل كلام يسوع في قلبه, وكان هذا الكلام نوراً له وهداية, فبلغ إلى معرفة الله الحقَّة, وسلك حياة التوبة, وقام بالأعمال الصالحة, وجاهد الجهاد الروحي ليحقِّق خلاصه الأبدي. وهذا ما أشار إليه يسوع بعبارة وجيزة عندما قال:” من له أُذنانِ تسمعانِ فليسمعْ” .
3- ولكنَّنا نعلم أنَّ في العالم أناساً أشراراً, يكرهون نور يسوع لأنَّ أعمالهم شرِّيرة. فهؤلاء تحلُّ بهم دينونة الله. قال فيهم يوحنَّا الإنجيلي: “إِنَّ النورَ جاءَ إلى العالم , ففضَّلَ الناسُ الظلامَ على النورِ لأَنَّ أَعمالَهم كانتْ سيِّئَة .”(يوحنا 3/19 )
إنَّ هؤلاء الأشرار الذين يحاولون أن يُخفوا نور يسوع “تحت المكيال” أو “تحت السرير” هم المُلحدون وأصحابُ البِدَع. إنَّهم لا يستطيعون أن يحجبوا عن العالم نورَ يسوع الساطع, ولا أن يطفئوه, لأنَّ يسوع هو نورُ الله, وهو أسمى من أن تطاله أيدي الكفرة والملحدين والأثمة.
يريد يسوع أن يكون المسيحي أيضاً نورَ العالم
قال يسوع لتلاميذه : ” أنتم نور العالم “. (متّى 5/14/) لم يشأ أن يكون وحدَه نور العالم, بل أراد أن يقتدي به كلُّ فردٍ من أتباعه المسيحيين, فيكون بإيمانه القويم وأخلاقه الصالحة وسيرة حياته الفاضلة نوراً للعالم. وعبَّر يسوع عن فكرته بتشبيهين
1- المسيحي مدينةٌ مبنيَّةٌ على جبل
شبَّه يسوع الإنسان المسيحي بالمدينة المبنيَّة على جبل. قال: ” لا تَخفى مدينةٌ مَبنيَّةٌ على جَبَل .” (متّى 5/14) إنَّ جميع الناس يرونها من بعيد, فيأتون إليها ويدخلونها, ويحتمون في داخل أسوارها من أذى الأعداء وخطر الحيوانات المفترسة, فيحيون فيها حياة الاطمئنان والأمان والسلام.
إنّ هذا التشبيه يؤكّد أنّه يجب على المسيحي أن يكون كالمدينة العالية التي تجذُب الناس إليها، فيُصبحَ بأعماله الفاضلة قدوةً صالحة لهم يجذُبَهم بها إلى تبنّي أسلوب حياته القويم ويجعلهم يحيَون على مثاله حياةَ السلام والاطمئنان الروحي.
2- المسيحي سِراجٌ منير
وقال يسوع: ” لا يُوَقدُ سِراجٌ ويُوضَعُ تحتَ المِكيالِ , بل على المنارةِ فيُضِيءُ لجميعِ الذينَ في البيت .” بهذا القول شبَّه يسوع الإنسان المسيحي بالسراج المنير الذي يوضع على المنارة لينير جميع مَنْ في البيت. وما هو البيت الذي ذكره يسوع ؟
إنَّ البيت الذي ذكره هو المحيط البشري الذي يعيش فيه المسيحي, والأسرة التي يحيا بين أعضائها, والرعية التي ينضمُّ إليها, والأخويَّة التي ينتسب إليها, والمدرسة التي يُعلِّم أو يتعلَّم فيها, وورشة العمل التي يشتغل فيها, والوظيفة التي يُمارسها, والنادي الذي يرتاده, ومجموعة الأصدقاء الذين يُعاشرهم.
يسوع يطلب من المسيحي أن يكون نوراً ساطعاً في هذا البيت, ليحمل جميعَ من يعيشون فيه على أن يسلكوا سلوك حياته الفاضلة المستنيرة بالأعمال الصالحة: ” لِيُضِئْْ نورُكُم قُدَّامَ الناسِ , لِيَروا أَعمالَكُم الصالحةَ ويُمَجِّدوا أَباكُم الذي في السماوات.” (متى 5/14-16)
فالهدف الذي يتوخَّى يسوع إصابته من دعوته للمسيحي إلى أن يكون نوراً للآخرين بأعماله الصالحة هو تمجيدُ اسم الله الآب السماوي على الأرض, لا الافتخار بنفسه أمام عيون الناس.
التطبيق العملي
نحن نؤمن بأنَّ يسوع نورُ العالم. وهذا ما يجعلنا نتبعه بفرحٍ وسلام.
ولكنَّ يسوع لا يكتفي بأن يكون وحده نور العالم، بل يطلب مِنْ كُلِّ واحدٍ منَّا أن يصبح هو أيضاً نور العالم.
غير أنَّنا كثيراً ما نُهمل طلب يسوع, عن تعمُّدٍ أو عن طيش, ونعيش عيشة الفتور والخطيئة السافرة, فعوضاً عن أن نكون للآخرين قدوة صالحة تقودهم إلى الله, نكون لهم سبب عثرة وخطيئة تُبعدهم عنه تعالى. ولذلك نشعر بخجلٍ عميق يستولي علينا, ولا نعرف كيف نبرِّر أنفسنا أمام نظرات يسوع الحادَّة التي تُعاتِبنا على سوء سلوكنا.
إنَّنا لا نقدر أن نلبِّي دعوة يسوع ونكون نوراً للآخرين إلاَّ إذا كان حُبَّ يسوع قائماً في قلوبنا. ولا يقوم هذا الحُبُّ فينا إلاَّ إذا عشنا معه بالصلاة والتأمّل في أقواله الإنجيليَّة,
وطلبنا منه القوَّة والعون بوساطة أسراره المقدَّسة التي رسمها لتشفي نفوسنا، وتُغذّي حياتنا الروحيَّة، وتجعلنا قادرين على أن نكون نوراً للناس بأعمالنا الصالحة التي تمجِّد الله تعالى.