الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ … اِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا …
وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزًا، لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ
( مرقس 6: 35 ، 36)
يا لها مِن كلمات مُخجلة تخرج مِن أفواه أُناس راجعين توًّا مِن التبشير بالإنجيل: «اِصرفهم»! ولكن الكرازة بالنعمة شيء، والعمل بالنعمة شيء آخر. ومع أن التبشير ممدوح، إلا أنه لا يكون ذا قيمة إن لم يكن مصحوبًا بالعمل. وكما أن تعليم الجهال أمر صالح، كذلك إشباع الجياع صالح أيضًا، وقد يحتاج الأخير إلى إنكار الذات أكثر من الأول، لأن التبشير بالإنجيل قد لا يُكلِّفنا شيئًا، أما إطعام الجياع فيُكلِّفنا فتح مخازننا العزيزة لدينا، وعندما يصل بنا الأمر إلى هذه النقطة يُقدِّم القلب احتجاجاته التي لا حصر لها.
وما حمل التلاميذ أن يطلبوا هذا الطلب المملوء بمحبة الذات «اِصرِفهم»، إلا عدم الإيمان، لأنهم لو تذكَّروا أن بينهم شخصًا قد عال في قديم الزمان ستمائة ألف ماشِ في برية مُقفرة، مدة أربعين سنة، لعلموا أنه قادر على أن لا يصرف جمعًا كثيرًا وهو في حالة الجوع، إلا بعد أن يُشبعه، لأن نفس اليد التي أشبعت تلك الجموع الفقيرة قديمًا كل ذلك الزمان، لا شك قادرة أن تُقدِّم أكلة واحدة لخمسة آلاف شخص. هذا في اعتبار الإيمان، وأما عدم الإيمان فيعمي البصيرة، ويُضيِّق القلب، ويغلق أحشاء الرحمة، لأن الإيمان والمحبة متلازمان دائمًا، وينموان معًا على مُعدَّل واحد. فالإيمان يفتح ينابيع القلب، ويُفجِّر منه مجاري المحبة، لذلك يقول الرسول للتسالونيكيين: «لأن إيمانكم ينمو كثيرًا، ومحبة كل واحدٍ منكم جميعًا بعضكم لبعض تزداد» ( 1تس 1: 3 ). هذا هو القانون الإلهي: القلب المملوء بالإيمان يستطيع أن يُقدِّم فعل الخير، أما القلب غير المؤمن فلا يقدر أن يُقدِّم شيئًا، لأن الإيمان يجعل القلب على اتصال بمخازن الله التي لا تفرغ، ويملأه بأرق العواطف الخيّرة، أما عدم الإيمان فيشغل الإنسان بنفسه، ويملأه بجميع حسابات ومخاوف محبة الذات. والإيمان يرفعنا لنتنسم جو السماء الذي يُوسِّع قلوبنا، أما عدم الإيمان فيتركنا منغمسين في جو هذا العالم الفاسد. الإيمان يجعلنا نُصغي إلى كلمات ربنا المملوءة نعمة: «أعطوهم أنتم ليأكلوا»، أما عدم الإيمان فيقودنا أن ننطق بهذه الكلمات الجافة: ”اصرف الجموع“. وبالإجمال لا شيء يُوجِد رَحبًا واتساعًا في القلب كالإيمان، كما أنه لا شيء يُضيِّق النفس نظير عدم الإيمان. يا ليت إيماننا ينمو كثيرًا حتى تزداد محبتنا أكثر فأكثر.
يا منبعَ الحنانْ
يا مصدرَ الإحسانْ اهدِ حياتي مُرشدًا
للخيرِ كل آنْ