مريم المجدلية واعلان بشرى القيامة
من الواضح أنه كان للنساءِ دورٌ كبيرٌ في حياةِ السيدِ المسيح ورسالتِه وتعاليمِه وأمثالِه ومعجزاتِه، ويطولُ بنا الحديثُ لو أردنا التطرق الى هذا الموضوعِ من جميعِ جوانبه، فقد نحتاجُ الى كتابٍ برمته لا بل إلى أطروحةِ دكتوراه، لذلك سأكتفي بدورهن في القيامة انطلاقاً من إنجيل هذا الأحد.
أولاً وقبل كل شيء علينا أن نقفَ وقفةَ إجلالٍ واحترامٍ لأمِنا وسيدتِنا مريم العذراء التي وقفت تحت صليب يسوع ابنها وشاركته في آلامه على الجلجلة واحتضنته بعد أن أُنزِلَ عن الصليب ووضعته في القبر. وهنا لنا عبرٌ ودروسٌ في الصبرِ والصمتِ والاستسلامِ لإرادة الله وقبولِ الألمِ والتضحيةِ بأغلى ما نملك والمشاركة في الفداء، ولكن أيضاً الايمان الواثق الصادق وتحقيق مخطط الله وكذلك انتظار القيامة بثقة، ومن هنا لا يذكر الانجيل بأنها ذهبت عند فجر الأحد لزيارة القبر كما فعلت النسوة الأخريات لثقتها بأنه سيقوم ولكن أيضاً وبحسب التقليد لأنه عند قيامته ظهرَ لها أولاً ليفرحها بقيامته ويطمئنها بأنه حقق رسالته وانتصر على الموت وقام ظافراً.
بكلمة واحدة مريم هي مثال المرأة المؤمنة الواثقة التي تعيش الألم بملئه ولكن تحيا بالأمل، لذلك فإنها ستلعب دوراً محورياً في لململة شمل التلاميذ بعد القيامة وخاصة بعد الصعود “وكانوا يواظبون جميعا على الصلاة بقلب واحد، مع بعض النسوة ومريم أم يسوع ومع إخوته” (أعمال 14:1) لكي تكون الشاهدة على انطلاقة الكنيسة يوم العنصرة وحلول الروح القدس، بالفعل إنها الأم التي أعطاها يسوع ليوحنا ولنا وللكنيسة من أعلى الصليب عندما قال: “هذه أمك”!
وهنا نأتي لدور النساء الأخريات: فعند صليب يسوع وقفت أمه وأخت أمه مريم امرأة قلوبا ومريم المجدلية.. ومن التلاميذ كان واقفا فقط يوحنا التلميذ الحبيب.. والسؤال أين باقي التلاميذ؟ والعبرة هي شجاعة النساء وقت الألم والخطر لا بل عظم محبتهن وتضحيتهن، فامرأة غسلت قدميه بدموعها ومسحتها بشعرها، وامرأة مسحت وجه يسوع بمنديل في درب آلامه، والنساء هنا يقفن تحت الصليب وينزلنه عن الصليب ويكفننه ويدفننه في القبر.. وما أن انبثق فجر الأحد الا وذهبن مبكرات الى القبر ليطيبنه بالعطور والطيوب ومتسائلات من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر وكأنهن وحدهن وليس معهن رجال..! وعندما يكتشفن حدث القيامة يرجعن مسرعات الى التلاميذ المختبئين في العلية لإعلان بشرى القيامة، يا لشجاعتهن وجرأتهن وإيمانهن…! حتى بعض التلاميذ لم يصدقوهن وشككوا في روايتهن كما رأينا في انجيل تلميذي عمواس بأن “أن نسوة منا قد حيرننا، فإنهن بكرن إلى القبر فلم يجدن جثمانه فرجعن وقلن إنهن أبصرن في رؤية ملائكة قالوا إنه حي”.
ويذكر الانجيل أسماء هذه النسوة: “ورجعن من القبر، فأخبرن الأحد عشر والآخرين جميعا بهذه الأمور كلها، وهن مريم المجدلية وحنة ومريم أم يعقوب، وسائر النسوة اللواتي معهن أخبرن الرسل بتلك الأمور” والغريب في الرواية الانجيلية بأنه التلاميذ لم يصدقوهن لا بل شككوا في اقولهن: “فبدت لهم هذه الأقوال أشبه بالهذيان ولم يصدقوهن”. بينما النسوة فقط صدقن وآمنن لدرجة أنهن أسرعن لنقل البشرى للتلاميذ… وهنا نفهم بأن النساء أقرب لا بل أسرع في الايمان والتقوى والتصديق ولا أبالغ إن قلت بأنهن أقوى في نقل البشرى بشجاعة.
وهنا نصل الى انجيل اليوم وبالذات الى دور مريم المجدلية التي كانت حاضرة وقت الصلب، فقد كانت محبتها قوية كالموت، دفعتها للوقوف بجوار السيد المسيح حتى موته على الصليب، حينما اختبأ جميع التلاميذ، ماعدا يوحنا، فقد ظلت قريبة من ربها راكعة قرب صليبه خلال تلك الساعات الطويلة المرهقة والمفجعة في الجلجثة.
أما في حدث القيامة، ونجد في انجيل القديس يوحنا روايتين: الأولى بأنها “في يوم الأحد جاءت مريم المجدلية إلى القبر عند الفجر، والظلام لم يزل مخيما، فرأت الحجر قد أزيل عن القبر”. وهنا لم تخفي الامر بل “أسرعت وجاءت إلى سمعان بطرس والتلميذ الآخر الذي أحبه يسوع، وقالت لهما: “أخذوا الرب من القبر، ولا نعلم أين وضعوه” وهنا يذهب التلميذين بطرس ويوحنا للتأكد مما قالته.
أما الرواية الثانية فإنها “كانت واقفة عند القبر في خارجه تبكي. فانحنت نحو القبر وهي تبكي” وهنا تكتشف حدث القيامة من الملاكين ولكن أيضاً تلتقي بالقائم الذي ظنته البستاني، وهنا تعرفه من صوته عندما ينطق اسمها “مريم” وتجيب بكلمة “رابوني” ويقول لها: “لا تمسكيني، إني لم أصعد بعد إلى أبي، بل اذهبي إلى إخوتي، فقولي لهم إني صاعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم”. وهنا بالفعل تصبح رسولة المسيح ومبشرة القيامة الأولى: “فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ بأن “قد رأيت الرب”. وبأنه قال لها ذاك الكلام.
لم يكن إيمان مريم المجدلية معقداً، بل كان مباشراً وصريحاً وصادقاً أصيلاً. فقد كان شغفها بالإيمان والطاعة أكثر من اهتمامها بتفهم كل الأمور. وقد أكرم يسوع إيمانها البسيط كإيمان الأطفال بأن شَرّفَها بأول ظهور له بعد قيامته، كما كلفها بأول رسالة عن قيامته.. فالحب يدفع المؤمن للقاء مع القائم من الأموات في أول فرصة ممكنة، مريم المجدلية التي التصقت بالسيد المسيح حتى آخر لحظات الدفن تمتعت بأول أخبار القيامة المفرحة المجيدة، فكانت أول كارزة بالقيامة.
من هاتين الروايتين نستنتج: شغف المجدلية بالمسيح، لهفتها في البحث عنه، حزنها على فقده، فرحها بلقائه، ومعرفتها له بعد قيامته، واسراعها في نقل البشرى للتلاميذ. ففي الروايتين هي التي تبشر بالقيامة وتخبر التلاميذ. انها لا تستطيع أن تخفي فرحها وتحتفظ به لنفسها، فمثل هذا الخبر العجيب الغريب المدهش المبهر لا يمكن أن يُخفى، لأنه حدث فريد من نوعه لا بل غير معقول ولذلك قد يكون غير مقبولاً ومع ذلك فهي تؤمن وتسرع وتخبر بدون خوف ولا وجل من أن يتهمونها بالجنون أو التخريف.
ونحن، الرجال والنساء، هل نؤمن بالقيامة وهل نشهد للقيامة في حياتنا مثل مريم العذراء، ومثل مريم المجدلية، ومثل نساء الانجيل ومثل التلاميذ والرسل في الجماعة المسيحية الاولى: “وكان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع تصحبها قوة عظيمة، وعليهم جميعا نعمة وافرة” (أعمال 33:4)؟