أنا سوداء وجميلة (ب)
يمكن ان تستخدم عبارة ” انا سوداء وجميلة ” للدلالة على الإنسان الذي هو في حالة ضعيفة ومحتقرة أمام البشر.
مثل الأباء الرسل الذين كانوا صيادين من جهال العالم، حيث قيل عن بطرس ويوحنا إنهما ” إنسانان عديما العلم وعاميان” (أع 4: 12). وكما كانت القديسة العذراء في نظر الناس إنسانة فقيرة خطيبة رجل نجار، ومع ذلك جعلها الله أسمى من الشاروبيم واعلى من السارافيم وقبل رؤساء الملائكة.
ويمكن لعبارة ” أنا سوداء وجميلة ” أن تكون وصفا لغير الإنسان:
كقرية بيت لحم التي كانت تعتبر أنها ” الصغرى بين رؤساء يهوذا ” ولكنها صارت من أعظم المدن إذ ” خرج منها مدبر يرعى شعب إسرائيل” (مت 2: 6) هو المسيح الرب. وكذلك يمكن أن يوصف بنفس العبارة ” مزود البقر ” الذي ولد فيه رب المجد. أماكن سوداء ولكنها جميلة. ومثل مدينة الناصرة التي قيل عنها في تعجب ” أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟!” (يو 1: 46). ومع ذلك كل تلك الأماكن مواضع مقدسة: سوداء كما كانت في نظر ذلك الزمان. ولكنها صارت جميلة.
مزود البقر الذي تعافه النفس، أتى إليه أباطرة وملوك لكي يتباركوا منه ويسجدوا فيه. وكل حبة تراب من أرضه تغنى قائلة: أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم.
عبارة ” سوداء وجميلة” تستخدم أيضا في مجال الفضائل والمثاليات.
فكثير من الفضائل تبدو للإنسان سوداء، بينما هى جميلة. ومن امثلة ذلك الباب الضيق والطريق الكرب (مت 7: 14) وهكذا الصليب الذي ينبغى أن تحمله كل من يسير وراء الرب (مت 10: 38).
وقد تبدو سوداء، الأمور التي يتعب فيها الإنسان نفسه، وتضغط على إرادته: مثل تقديم الخد الأخر لمن يلطمه اللطمة الأولى (مت 5: 39). وكأن يبارك لاعنيه، ويحسن إلى مبغضيه (مت 5: 44). ويقبل الظلم في صمت. كشاه تساق إلى الذبح، ولا يفتح فاه ” (أش 53: 7).. كل هذه تبدو أمامه امورا ضاغطة. و لكنها تهمس في أذنيه ” انا سوداء وجميلة”..
هكذا كل أنواع التعب التي يتحملها الإنسان من أجل الخير:
ليس في الروحيات فقط، وإنما حتى في جميع الواجبات كتلميذ يسهر الليل، ولا يخرج لاهيا مع أصحابه. إنما يحبس نفسه في بيته، ويذاكر لكي ينجح. وأيضا رب الأسرة الذي يكدح ليلا ونهارا لأجل الحصول على قوت أسرته. امثله كلها تعب، ولكنها جميلة.
الجلجثة عموما تبدو في نظر الناس سوداء، وكذلك الصليب.
سواء كان ذلك لأجل الفضيلة، وفي محيط الخدمة. انظروا ماذا يقول القديس بولس الرسول عن خدمته وخدمة معاونيه: مكتئبين في كل شيء، ولكن غير متضايقين. متحيرين ولكن غير يائسين. مضطهدين لكن غير متروكين. مطروحين لكن غير هالكين.. نسلم دائما للموت لأجل يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضا في جسدنا المائت. (2كو 4: 8 – 11).
وما عبارات: مكتئبين، متحيرين، مضطهدين، نسلم دائما للموت، إلا عبارات تبدو سوداء، وهى جميلة.
كذلك يقول بنفس المعنى عن الخدمة ” كمضلين ونحن صادقون. كمجهولين ونحن معروفون. كمائتين وها نحن نحيا.. كحزانى ونحن دائما فرحون. كفقراء ونحن نغنى كثيرين.. (2 كو 6: 8 10).
ونحن ننظر إلى عبارات: مضلين، ومجهولين، ومائتين، وحزانى، وفقراء.. فتهمس في أذننا “انا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم”.
وعبارة ” بنات أورشليم ” إنما ترمز إلى اولاد الله السائرين في طريقة. الذين ينتمون إلى أورشليم ” مدينة الملك العظيم” (مت 5: 35)
إن أورشليم ترمز كثيرا إلى الكنيسة المقدسة. والأبرار سوف يسكنون في أورشليم السمائية، النازلة من السماء كعروس مزينة لعريسها (رؤ 21: 2) وبنات أورشليم هى النفوس المنتمية إليها التي تتحدث إليها عذراء النشيد. ” أنا سوداء”. أنا الباب الضيق الذي يوصل إلى الملكوت. أنا الوصايا الصعبة التي تبدو ضاغطة على ” الأنا “، على الذاتية، على الكرامة البشرية، على الإرادة التي يناديها الرسول بقوله “لا تحبوا العالم ولا الاشياء التي في العالم” (1 يو 2: 15)، بينما هى لم تتخلص بعد من محبة العالم..
إننا مدعوون جميعا لأن نمشى في طريق الجلجثة حاملين الصليب.
ولا يوجد طريق إلى القيامة سوى الجلجثة. وإن نتألم مع المسيح، فلن نتمجد معه (رو 8: 17). ألام الزمان الحاضر قد تبدو سوداء، ولكنها لأنها تؤدى إلى المجد العتيد الذي سيستعلن فينا (رو 8: 18).
وجميع صلبان الحياة الروحية تصيح قائلة: أنا سوادء وجميلة.
هذه الصلبان (السوداء!) خاف من سوادها بطرس الرسول، فقال للرب “حاشاك يا رب أن يكون لك هذا” (مت 16: 21، 22). وظن بطرس أن الجمال يكون على جبل التجلى فقال للرب ” يا سيدى، جيد أن نكون ههنا” (مر 9: 5).. كلا، أيها الرسول العظيم. إن المسامير والجلدات والأشواك، كلها سوداء، ولكنها جميلة، لأنها عن الحب، وفيها البذل والفداء.
أيضا فضيلة الزهد والموت عن العالم، هى سوداء وجميلة.
قد يبدو صعبا ومتعبا، أن يحرم الإنسان نفسه من كل ملاذ العالم، حتى الحلال منها ويحيا في الوحدة، والصوم، وفي العوز والفقر، متجردا من كل الرغبات والشهوات.. ولكنها حياة جميلة.
صدقونى، إن الحياة الروحية كلها، يمكن أن تندمج تحت هذه العبارة: ” سوداء وجميلة”. إنها تذكرنا بقول الرب:
” من وجد حياتة، يضيعها. ومن أضاع حياته من اجلى، يجدها” (مت 10: 39).
من ذا الذي يقبل أن يضيع نفسه؟! في نظره هذه العبارة سوداء. ولكنها جميلة، لأنها الطريق الوحيد الموصل إلى الله. ولهذا ذكرها الله كبداية للسير وراءه، فقال ” إن أراد أحد أن يأتى ورائى، فلينكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعنى” (مت 16: 24).. نعم، لابد أن تختفى ذاته، لكي يظهر الله في حياته.. تموت ذاته، لكي يحيا الله فيه..
إن الحياة مع الله تبدأ بالموت. فتموت لكي نحيا.
ندفن معه في المعمودية، لكي نقوم في جدة الحياة. يموت إنساننا العتيق، لكي يولد إنسان جديد على صورة الله (رو 6: 3 – 8).
وهكذا يصرخ الطفل حينما نغطسه في الماء، ولكننا نلبسه بعد ذلك ملابس بيضاء، رمزا للحياة الطاهرة الجديدة التي يحياها. ونهنئ اهله على أن ابنهم قد مات مع المسيح. ماتت طبيعته القديمة. وكل شيء صار جديدا.
التجارب والضيقات هى أيضا في المفهوم الروحى سوداء وجميلة.
أنظروا إلى تجربة أيوب كمثال. كانت تبدو سوداء للغاية، إذا قد تم تجريده من كل شئ: من الأولاد والمال وكل غناه، ومن صحته ومن راحته. حتى من أصحابه الذين عيروه ظلما. حتى من كرمته أيضا، إذ يقول أيوب ” أقاربى قد خذلونى، والذين عرفونى نسونى. نزلاء بيتى وإمائى يحسبوننى أجنبيا. صرت في أعينهم غريبا. عبدى دعوت فلم يجب. بفمى تضرعت إليه. نكهتى مكروهة عند إمرأتى، وخممت عند أبناء أحشائى.. كرهنى كل رجالى، والذين أحببتهم انقلبوا على (أى 19)
وبقدر ما كانت تجربة أيوب سوداء، إلا أنها كانت جميلة إذ قال فيها لله: بسمع الأذن سمعت عنك. والأن رأتك عينى (أى 42: 5).
دخل في التجربة السوداء. فخرج أبيض أكثر من الثلج. خرج منها بخيرات مضاعفة (أى 32: 10، 12). وبخبرات روحية عميقة (أى 40: 4) (أى 40: 4) (أى 42: 2 6). كما كانت تجربة جميلة، كقدوة للأخرين ومثال (بع 5: 10، 11).
إننا نصلى إلى الله قائلين ” لا تدخلنا في تجربة” (مت 6: 13). ولكن جمال التجارب التي نخافها، يظهر في قول يعقوب الرسول:
” أحسبوه كل فرح يا أخوتى، حينما تقعون في تجارب متنوعة” (يع 1: 2).
خذوا تجربة ثانيه هى تجربة أبينا إبراهيم: كم كانت شديدة وحساسة جدا، إذ قال له الرب ” خذ أبنك، وحيدك، الذي تحبه نفسك، إسحق.. وأصعده لي محرقة على أحد الجبال الذي أريك إياه” (تك 22: 2). أمر صعب، ويبدو فوق الاحتمال. واخبار تبدو سوداء. حتى أن إبراهيم لم يستطيع أن يقولها لزوجته سارة، خوفا من ان تسقط ميتة عند سماعها.. ! ومع ذلك كانت هذه التجربة جميلة، في أنها أثبتت إيمان إبراهيم وطاعته، وجعلته مثلا في الطاعة. كما كان من نتيجتها قول الرب له ” من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تمسك إبنك وجيدك عنى، اباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء، وكالرمل الذي على شاطئ البحر..” (تك 22: 16، 17)
مع ان تجربة إبراهيم في ذبح ابنه كانت تبدو سوداء، إلا أنها كانت جميلة، كمثال للفداء، وللطاعة، وللإيمان. صورة رائعة..
بالفهم البشرى كل تجربة تبدو سوداء. ومن الناحية الأخرى لابد أن وراءها خيرا. أول معرفة ابرام بالله، كانت تبدو تجربة، حيث قال له ” اذهب من أرضك ومن عشيرتك وبيت أبيك، إلى الأرض التي أريك” (تك 12: 1).. حرمان من الاهل ومن الأقارب والوطن. ومع ذلك كانت التجربة جميلة، إذ قال له الرب فيها: ” فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم أسمك، وتكون بركة.. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض” (تك 12: 2، 3).
إن سواد التجربة يكمن في الفهم البشرى الخاطئ لها. أما جمالها فهو في القصد الإلهى منها، والفهم الروحى لها.
الطاعة أيضًا قد تبدو سوداء أحيانًا، عندما تضغط على الإرادة.
صعب أن يتخلى الإنسان عن مشيئته ورغبته، وربما عن فكره الخاص ن وينفذ مشيئة غيره.. كالطفل الذي يحرمه أبوه من ألعابه وأصحابه، ليجلس إلى دروسه.. ولكن الطاعة جميلة، لأن فيها الخير. وبها تتدرب نفوسنا وتكبر. وما أخطر ان يسلك الإنسان حسب هواه، كما يفعل الأبن الضال! وكما يفعل الوجوديون الملحدون الذين يطيعون هواهم ليتمتعوا بوجودهم!!
أيضا من الأشياء التي تبدو سوداء وجميلة: التوبيخ والتأديب:
صعب على الإنسان المهتم بكرامته، ان يسمع كلمة توبيخ وكلمة انتهار، وأن توقع عليه عقوبة.. ! بينما نرى النفس التي تسعى إلى خلاصها، ترحب بكلمة التوبيخ وتفرح بها، لأنها تكشف لها أخطاءها، لكي تعالجها فتخلص..
إن التأديبات جميلة ” لآن الذي يحبه الرب يؤدبه” (عب 12: 6)
ولكنها سوداء في نظر الذين لا يحتملونها. إذ تخدش “الذات” التي يحرصون عليها، وتحرم من المديح الذي يحبونه!
عندما قال الرب لبطرس ” اذهب عنى يا شيطان. انت معثرة لى، لأنك لا تهتم بما لله، لكن بما للناس” (مت 16: 23).. لم يغضب بطرس، بل سمع عبارة التوبيخ في محبة، لخلاص نفسه.
إن الله يعلمنا الحياة: بكلمات الحب حينا، وبكلمات التوبيخ حينا أخر. بالبشارة المفرحة حينا، وبالصليب حينا أخر.. بالخيرات التي تنسكب من السماء حتى نقول كفانا كفانا، وأيضا بالتجارب والضيقات..
أيضا فضيلة التعب من أجل الرب، هى كذلك سوداء وجميلة..
سواء التعب في السهر والصوم والنسك والمطانيات وضبط النفس.. ما أسهل أن يستريح الإنسان، ويسترخى تحت فراشه الدافئ.. ولكن الجميل هو أن يقوم ويصلى صلاة نصف الليل، فيجد التعزيات الجميلة. كذلك الذين يمارسون المطانيات لا يشعرون فيها بتعب إنما بلذة روحية. و الصوم أيضا ليس حرمانا للجسد بل هو نشوة للروح. كما أنه مفيد للجسد من نواح متعددة..
نفس الكلام نقوله عن العشوروالبكور، والعطاء عن احتياج.
ما أصعب ممارسة البعض لهذه الوصية، مع شعورهم باحتياجهم لكل قرش يدفعونه! ولكن ما أجملها في البركة وفي البذل، وفي المحبة التي نظهرها نحو الفقراء، وفي إطاعة الوصية..
إن الفضيلة قد تكون صهبة وسوداء بالنسبة إلى المبتدئين، الذين يشتهى فيهم الجسد ضد الروح. أما عند القديسين فهى جميلة ومحبوبة.
إن الكاملين الذين ذاقوا حلاوة الحياة الروحية ولذة العشرة مع الله، لا يرون الفضيلة سوداء مهما بدت صعبة! بل هى في نظرهم جميلة يشتهونها بكل قلوبهم. وهكذا يقول القديس يوحنا الحبيب ” ووصاياه ليست ثقيلة” (1 يو 4: 3). ويتغنى داود كثيرا بوصية الرب فيقول إنها “مضيئة تنير العينين” (مز 19). وإنها أحلى من العسل في فمه، وأغلى من الجوهر (مز 119).
إن النفس التي تعبت من أجل الرب وعاشت في العالم كسوداء، ” لا صورة لها ولا جمال” (أش 53: 2) في مذلة الأتضاع والأحتمال، لا متعة لها بالعالم وكل ما فيه، ولا غنى فيه وجاه، ” خسرت كل الأشياء وهى تحسبها نفاية لكي تربح المسيح” (فى 3: 8)، وأضاعت نفسها لكى تجدها.
هذه النفس عندما تصعد إلى فوق، ستقول لنفوس الأبرار في الفردوس ” أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم”