“ما الأيسر أن يُقال مغفورةٌ لكَ خطاياك أم أن يُقال قمْ فامشِ؟”
جاؤوا إلى يسوع بمخلّع محمول على سرير بواسطة أربعة رجال. ويبدو أنّ وضع هذا المخلّع كان متردّياً جداً جداً؛ فهو لم يستطعْ أن ينطق حتّى بكلمة واحدة أو أن يطلب من يسوع أو يخاطبه. فهو، بكلمة أخرى، كان في أردأ صورة ممكنة لخليقة بشريّة، أشبه بميت منه بحيّ.
أمام حالة كهذه، ومقارنةً بحالاتِ شفاءٍ أخرى أجراها يسوع لمرضى بأوضاع أفضل، ماذا كنّا سننتظر من يسوع سوى أن يأمر هذا الإنسان قائلاً “قمْ وامشِ”؟ ولكن على العكس، تفاجأ الجميع بأنّ يسوع تغاضى لحظتها عن هذا الوضع المثير للشفقة وقال للمخلّع “يا بنيّ مغفورة لك خطاياك”!
من الواضح أنّه، لا حاملو المخلّع كانوا يطلبون شيئاً كهذا من يسوع ولا الجمهور المحتشد كان ينتظر ذلك أيضاً. والواضح أيضاً أنّ يسوع تعمّد ذلك.
لقد أراد أن يؤكّد للجميع، في مثل هذه الحالة الخطرة حتّى الحدّ الأقصى، أن الخطر الأكبر هو تخليع الروح وليس الجسد. لأن الأهمّ هو الروح، بينما الجسد هو الخادم له.
هذا هو ترتيب الأمور منذ البدء. ففي الفردوس كان الإنسان يحيا دون آلام وبلا أوجاع وتنهّد، وكانت كلّ الخيرات في خدمة نموّه الروحي وكماله. لقد كان شرط استمرار هذه الحالة الفردوسية هو استمرار الكمال الروحي. لأن هذه الحالة السليمة وهذا الجسد الكريم هو الإناء الملائم لتلك الحياة الروحيّة. لكن لمّا عَكَسَ الإنسانُ المسيرةَ الإلهيّة المفتوحة أمامه، وقَلَبَ ترتيب الأمور، سمح الله بالآلام والجوع وبكلّ تلك المظاهر التي تعذّب حياتنا اليوميّة؛ وذلك ليصير كمالُ الجسد هديةَ الكمالِ الروحيّ عندما يتحقّق.
فالجسد المعافى من الآلام يجب أن يكون إناءً للإنسان الكامل روحيّاً. وهذا الجسد بعد سقوط الإنسان صار رجاءً بعد أن كان في الفردوس عربوناً. لأن الأهم هو الكمال الروحي، أما المادّة والجسد فهذان هما “إناء كرامة أو هوان”.
ترتيب الأمور منذ البدء كان تفوَّق الروح على المادّة وخدمة المادّة هَرمونياً للروح. كانت التراتبيّة واضحةً وسليمة.
لهذا يبدو أن يسوع أمام هذا المخلّع يتحدّى بشدّة وعنف تهافُتَ الناس على الحاجات الماديّة، وحتّى في حالة كهذه، حيث كانت الحاجة ماسة لحدود الفصل بين الحياة أو الموت. ولقد شدّد يسوع بقوّة على تفوّق الروح على المادّة، فالتفت إلى مغفرة الخطايا وصحّة النفس عندما كان الجسد بأشدّ الحاجة إلى الصحّة.
وعصرنا بحاجة اليوم أكثر من الأمس، إلى قراءة هذا الحدث والاعتبار منه، ومراجعة موقف المسيح هذا وتحدّيه لجرفِ تيار المادّيات أمام تراجع الروحيّات.
حضارتنا المعاصرة مهدّدة بالفساد، ويلائمها كلّ لحظة تحدّي المسيحيّين المشابه لتحدّي يسوع أمام هذا الحدث. إن هذا التحدّي لا يلغي ضرورة الحاجة المادية، فهذه مباركة، ولكنّه يؤكد على أولوية الروح. فإذا طلبنا ملكوت الله وبرّه فكلّ ذلك بعدها سيُعطى ويُزاد.
نظرة سريعة لأهمّ جوانب الحياة، وتطورها وتبدّل غاياتها، تؤكّد لنا أن المِلحَ بدأ يفسد. ويطرح السؤال بماذا يملّح بعد إذن؟
حضارتنا تهضم حقّ العمل وقيمة المهن حين تُدنّي غايتَه إلى الربح. ما هو سبب اختيار المهن؟ أهو تقدمتها الإنسانيّة مثلاً أم تقدمتها المادية، الخدمة أم الربح؟ الملاحظ أنّ الربح يحلّ محلّ الخدمة. المال يوجّه كلّ شيء. المنفعة فوق المحبّة. فعلى سبيل المثال مهنة من أشرف المهن وهي التعليم، لأنّها اليوم ليست المربحة بالدرجة الأولى، صارت من حيث الأهمّية بالدرجة الأخيرة. تبدّلت قيمة الأستاذ بالذات. كان الأستاذ بمثابة الأب والمربّي. واليوم نلاحظ غياب هذه القيمة السامية، وكأنّه يجب أن يمتهن هذه المهنة مرّات كثيرة مَن جارتْ عليه الأيّام ولم يستطع تحصيل مهنة أربح.
العلم، كمثال آخر، كانت غايته الإبداع وخدمة الإنسان، وهو أشرف ما في الإنسان من صورة الله فيه، نراه اليوم مرّات عديدة يوجَّه من الأرباح. الإبداع بالذات صار يُشترى بالمال؛ والمال يوجّهه. تيارات القتل تشتري قوى الخلق! هذه هي غرابة أيّامنا. تقدّمنا في وسائل التعذيب صار أكثر مما حقّقناه تطوّراً في وسائل التطبيب. حضارتنا مهدّدة بالتزييف. ناهيك أخيراً وليس آخراً عن ضعف تلك المعاني، إن لم يكن غيابها، كالصداقة الصدوقة، والإخلاص، والتضحية، والبذل، والوطنية، واستبدالها بكلمة واحدة: المصلحة.
لم تعد للإنسان قيمة في شخصه بمقدار ما غدا فرداً في مجتمع وعدداً في جماعة، يشترى ويباع دون النظر إلى فرادته الإنسانيّة وإلى قيمته الشخصيّة، تتحكّم به غالباً قوى الظلمة التي مقياسها الوحيد هو المال. ما هي قيمة الإنسان الفقير في حضارتنا؟ الجواب هو “صفر”! ما هي قيمة الإنسان المخلّع أو المريض؟ الجواب هو: الأفضل أن نتخلّص منه.
الأمثلة عن فساد الملح عديدة. والمسيحيّ يتحدى كسيّده هذا الفساد. الكمال الخلقيّ ليس رجاءً أخروياً منتظراً لما بعد هذه الحياة. الكمال الروحي المرتقب مسيرة تحدٍّ وسط تيارات الفساد. ندفع بها، بالجهد والسهر والصلاة، خطوة بعد خطوة. المسيحيّ نور العالم وملح الأرض. تيارات الفساد ليست حُكماً ولكنّها تحدٍّ. وإن كان التحدّي قاسياً فقوّة السيّد في ضعفنا تكمل.
يحمل المسيحيّ الإنجيل ملحاً لعالم فَسُد ملحُه، ويبشّر بالكلمة الإلهيّة نوراً لعالم فقدَ نوره. يعرف التواضعَ سموّاً وعدم القنية كنـزاً، ويعيد ترتيب الأمور إلى مجراه الحقيقيّ، ويُنصر الروح على المادّة في كلّ مكان وزمان. المسيحيّ يجاهد من أجل عصر الروح، فهو يدٌ قويّة تسيّرها ريح النعمة الإلهيّة لتبني عصرَ الروح باستخدام المادّة. آميــن.