يبدو أن حدث شفاء الأعمى منذ مولده كان من أهمّ الأحداث التي جرت على يدي يسوع. فلقد شفى الربّ يسوع كثيرين وأجرى عجائب عديدة لعميان وسواهم، ولكن هذا الحدث كان له وقع خاص حيث أنَّ اليهود أعطوه أهمّية مُمَيَّزة. فعندما جاء يسوع بعد قليل ليقيم لعازر في بيت عنيا ولما وصل إلى القبر كانت الأغلبية من اليهود تراقب بتردّد إن كان يسوع يستطيع أن يقيم ميتاً بعد أربعة أيّام قد أنتن! حينذاك “قال بعضٌ منهم: ألم يستطع هذا الذي فتح عينَي الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت؟” (يوحنا 11، 37). إذن إن إعطاء النور لعينَي هذا الأعمى منذ مولده يعادل، في القوّة والبرهان على سلطة يسوع، إقامة لعازر الذي أنتن. فهو من أهمّ الأحداث التي جعلت اليهود ينقسمون فيما بينهم بشأنه.
لم يكتب الإنجيليّ يوحنا عجائب المسيح وأعماله وإنّما “أقواله”. لكنّه أورد خمسة عجائب، تلك التي كانت تشير إلى ما هو أبعد من حدث شفاء. فمثلاً يورد عجيبة تكثير الخبز ليقدِّم لحديث الربّ التاريخيّ: “أنا هو خبز الحياة”. وهنا يورد الإنجيليّ قصّة شفاء هذا الأعمى ليجيب على رفض اليهود، الذين لم يتقبلوا قبل قليل ادّعاء المسيح أنّه نور العالم، والذين لم يحتملوا حواره مساوياً فيه ذاته مع الآب، ولقد حاولوا أن يرجموه لأنّه برأيهم كان يجدِّف، فهو يسمّي ذاته “الكائن” وأنَّه قبل إبراهيم. كلّ ذلك كان يعني لليهود بوضوح، أنَّ المسيح يدّعي كما سيعلن بعد قليل أنّه مساوٍ للآب، “أنّه والآب واحد” (يوحنا 10، 30)
حركات يسوع أثناء شفاء الأعمى تجيب على هذه الشكوك، تبرهن أنّه الله الخالق بالذات، وأنَّه “هو هو”: يهوه. لقد تَفَلَ على الأرض وصنع (بيدَيه) من التفل طيناً وأعطى بذلك “حياةً” لعينَي الأعمى اللتين لم تعرفا الحياة. لقد جبل بيديه وتفل فأعطى حياةً كما يذكر سفر التكوين عن يهوه في خلق الإنسان الأوّل والحياة.
لكن يهوه الخالق، نور العالم، دخل العالم ليعمل أعمال الآب الذي أرسله. وما هو عمل الآب بعد الخلق الأول؟ إنّه بالذات ما نعيِّد له يوم الفصح! إنّه إعادة الجبلة، أي تجديد الخليقة، أو الخلق الثاني للخليقة؛ إذا صحّ التعبير.
لهذا وضعت الكنيسة هذا النصّ في سلسلة الآحاد بعد القيامة مباشرة. لكنَّ هذه المهمة الجمَّة لن يقوم بها الله الخالق وحده، كما في سفر التكوين، وإنّما سيوكِلها إلى الإنسان الخالق الثاني، الذي لن يجلب، كما الله، من العدم إلى الوجود، لكنّه سيحوِّل الوجود إلى أحسن الموجود. الإنسان كاهن الكون، رسالته فيه أن يحوِّل الخليقة الماديّة إلى كونٍ روحاني. هذا العمل الجبار يحوِّل مثلاً البَصَرَ إلى بصيرة، ويجعل شفاء المُقْلَتين سبباً لرؤية الربّ. الترانيم الكنسيّة تُشدِّد على لسان الأعمى أنَّ نعمة البَصَر البيولوجيّة، التي وهبه إيّاها الربّ، صارت سبباً لبصيرةٍ روحيّة يرى فيها الربّ يسوع، ولقد سجدَ له. هذا هو الحدث السرّي في هذا النصّ، أنَّ خلقاً مادياً (إعادة بصر) صار خليقةً جديدة تبصر الربّ. الربّ يسوع بعد هذا النصّ، تماماً في نهاية الحدث، يعلن بوضوح: “أتيتُ أنا إلى هذا العالم حتّى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون” (يوحنا 9، 39)، وهذا ما تحقّق بين الأعمى وأهله.
إنَّ الخليقة بأسرها، وكل ما هو ماديّ، هو أداة تقديس ورسالة وليس غاية. الصحّة والنظر والمال والأولاد والعلوم وكلّ الخيرات، لا بل حتّى الشدائد أيضاً والصعوبات هي كلها وسائط لننظر منها إلى المسيح ولنكوِّن “البصيرة” الروحيّة. هذا هو الخلق الثاني للخليقة الأولى الماديّة. المادّة حين تبقى مادّية نقتلها ونحرمها حقّها في خدمة الحياة. الإنسان الذي يتعاطى مع أيّ شيء بشكل لا روحاني يقتل قيمته ويحرفه عن غايته. ويتحوّل من كاهن إلى قاتل.
إنَّ هذا الإبداع في المبدوعات، أيّ روحنة العالم والماديّات، هي رسالة الإنسان وهي الدعوة المسيحيّة إلى تجديد الخليقة التي عليها بكهنوت الإنسان أن تصير ملكوتاً لله وليس مملكةً أرضية وحسب. وكل موهبة أو عطيّة لا نوجّهها في سبيل هذه الغاية تفقد وجهتها. والإنسان بدون هذا الدور يفقد أيضاً غايته السامية ودعوته الإنسانيّة الحقانيَّة.
ماذا نبتغي من المال؟ من الحضارات؟ من التمدُّن؟ من الطاقات؟ من السعي؟ وما هي بالنهاية الغايات؟ لا يوجد جواب يستحق الجهد الإنسانـيّ إلاَّ إعادة الخلق وتجديد الخليقة. كلّ شيء هو أداة والغاية هي مسحنة العالم. لعلّنا نقول: “من كلّ شيء في الدنيا أؤمن يا ربّ وبكلّ شيء أسجد لك”! آميــن