وظيفة النبي في الكتاب المقدس

وظيفة النبي في الكتاب المقدس

“وظيفة النبي

في حضارتي، عندما يتقابل اثنان من الناس عادة يتبادلا الأسماء. ثم حالاً، يسألان هذا السؤال: “أية وظيفة تشغلها؟” من أوجه كثيرة، هذا ما سوف نسأله في هذا الدرس. ماذا كانت وظيفة النبي؟”
سوف نفحص ثلاثة موأضيع بخصوص وظيفة النبي: ألقاب الوظيفة لأنبياء العهد القديم؛متغيرات الوظيفة، أي التغيرات ألتي حدثت في النبوة، وتوقعات الوظيفة من الأنبياء.
دعونا نبدأ هذا الدرس باكتشاف ألقاب وظيفة النبي. في الحياة اليومية نحن ندعو الناس بألقاب كثيرة. قد ندعو شخصاً واحداً بلقب راع، رياضي، موسيقار. لماذا؟ لأن الناس بطبيعتهم يعملون في كل أنواع الأشياء في الحياة. نفس الشي صحيح فيما يتعلق بأنبياء العهد القديم.
ولكي نكتشف الألقاب ألتي يستخدمها العهد القديم للأنبياء، سوف نفحص صنفين أساسيين. أولا، المصطلحات الأصلية. وثانياً، المصطلحات الثانوية.
دعونا نفحص أولا في المصطلح الأصلي الخاص بالأنبياء.
عندما يسمع معظم المسيحيين المتكلمين باللغة الإنجليزية كلمة ” نبي،” يكونوا ميّالين للظن أن ألنبي هو ببساطة أحد الأشخاص الذين يتنبأون بالمستقبل، وبالأكثر هو شخص “عرّاف أي قارئ- حظ” أو شخص وسيط (شديد الحساسية للقوى الروحية أو الخارقة للطبيعة). أما كون أنبياء العهد القديم قد تنبأوا بالمستقبل فهذا أمر صحيح، لكن دورهم كان أكبر من ذلك بكثير. الترجمة اليونانية للعهد القديم، والمعروفة بالترجمة السبعينية استعملوا الكلمة اليونانية (profhth$)، والتي منها اشتقّت كلمتنا الإنجليزية (prophet). هذا المصطلح يجمع بين مقطعين. المقطع ألثاني من الكلمة اليونانية (profhth$) هو (fhth$) يدل بأن الأنبياء تكلموا وكتبوا أقوالا كثيرة. هذا واضح ألى حد كاف، لكن المقطع الأول (pro) في كلمة (profhth$)، يجوز أن يدل على معنيين. وممكن ان يعني التكلم مسبقا أو التنبؤ. وببساطة ممكن أن يعني” يتكلم ناطقا ” أو “يصرح بشئ ما” لا صلة له البتة بالتنبؤ بالمستقبل. في الواقع، قام أنبياء العهد القديم بالأمرين معا. فقد تكلموا عن المستقبل، لكنهم أيضا تكلموا بجرائة عن حاضر أيامهم. فاللقب الأصلي “نبي” يشير إلى وظائف متعددة قامَ هؤلاء الناس بإنجازها.
وعندما ننظر إلى العهد القديم العبري، نكتشف أن مصطلح “النبي” (Navi في العبرية) كان له معنى أوسع. ومن لغات الشرق ألأدنى القديم الموازية للعبرية، نعرف أن مصطلح نبي “navi” يعني “شخص مدعو.” وهو مصطلح ليّن العريكة، وهو هنا ببساطة يشير ألى أن ألنبي هو شخص قد دُعيَ من الله.
هناك عدد من المصطلحات الثانوية ترتبط بوظيفة ألنبي في العهد القديم. في المقام الأول، كثيرا ما عرف الأنبياء بمصطلح أو لقب عبد (ebed) ، أو خادم. فقد دعي كثير من الناس بلقب خادم في العهد القديم. لكنه لقب هام للأنبياء، لأنه كثيرا ما كان يحمل دلالات الوظيفة الرسمية، خاصة في البلاط الملكي. وحتى ملوك إسرائيل كانوا قد دُعيوا بخدام الله لأنهم تقلدوا مناصب رسمية في البلاط الملكي الإلهي السماوي.
هذا وقد لعب الأنبياء أيضاً أدواراً خاصة في البلاط الملكي الإلهي. كانوا خداماً رسميين تكلموا باسم الملك العظيم. ويفسر لنا هذا لماذا اعترف دانيآل أنها كانت خطية بني إسرائيل العظيمة أن يتجاهلوا الأنبياء. تأمل ماذا يقول في (دا 9 : 6):
“وما سمعنا من عبيدك الأنبياء الذين باسمك كلموا ملوكنا …” تكلموا الأنبياء باسم الله، لانهم كانوا عبيد في البلاط الملكي الإلهي السماوي.
فوق ذلك، دعيوا الأنبياء ايضاً “رائي” أو “رقيب”. وبحسب (1صم 9 : 9 ) يتضح أن الأنبياء كانوا قد دُعيوا أولاً بالرائيين. ” … لأن النبي اليوم كان يدعى سابقا الرائي.” هذا ويخبرنا (2صم 24 : 11) بطريقة مماثلة، أن جاد، الذى خدم كنبي في عصر داود، كان أيضا معروفا كرقيب أو رائ. “فقد جاء “كلام الرب إلى جادٍ النبي، رائي داود”.
دُعيَ الأنبياء بالرائيين لأنهم كانوا قد أعُطوا امتياز رؤية السماويات. فمثلاً، وصف ميخا بن يمله رؤية سماوية كان قد رآها في (2 أخ 18 :19-18): “قد رأيت الرب جالسا على كرسيّه وكل جند السماء وقوف عن يمينه وعن يساره. فقال الرب من يغوى أخآب ملك إسرائيل فيصعد ويسقط في راموت جلعاد. فقال هذا هكذا وقال ذاك هكذا.” هذا النص يبيّن لماذا دُعيَ الأنبياء بالرائيين. لقد نظروا إلى السماويات. راقبوا أفعالا تحدث. تفاعلو مع الله في السماويات. أن مثل هذه الإختبارات السماوية كانت مركزية لخدمة الأنبياء.
مصطلح آخر استعمل للتعبير عن الأنبياء هو الكلمة العبرية (shomer) ، أو “الرقيب” وهو الذي يقوم بمهمة الحراسة. وكان لمدن العالم القديم حرّاس يفحصون الأفق. وقد فعل الأنبياء نفس الشئ عندما كانوا يراقبون الأعداء وعندما كانوا يراقبون مباشرة الله لعمله في البركة وفي الدينونة. مثلا، في حزقيال 3 : 17، يتكلم الله للنبي حزقيال بهذه الطريقة: “يا ابن آدم قد جعلتك رقيباً لبيت إسرائيل. فاسمع الكلمة من فمي وأنذرهم من قبلي.” لقد أعلن الله أن أنبيائه كثيراً ما قاموا بدور الرقيب والإنذار بخراب وشيك الحدوث أو ببركات قادمة حتى تتوفر للناس الفرصة لتهيئة أنفسهم. كان الأنبياء يتطلعون لكي يروا ماذا تأتي به لهم الأحلام والرؤي، ثم اخبروا الناس بما كان في الأفق.
كان الأنبياء أحياناً يلقَبون أيضاً بالمصطلح العبري (malak) والذي يعني “رسول.” وفي زمن العهد القديم، في العالم العتيق، لم تكن هناك تلفونات، ولا بريد إلكتروني، ولا أجهزة تلفزيونية، وكانت الطريقة الوحيدة للإتصال عبر المسافات الطويلة هي من خلال الرسل البشريين. وكان الرسل، على الأغلب، يستخدمون عندما تكون الحاجة للإتصال ملّحة ويتطلب الموقف أمرا عاجلا. ويسمّي العهد القديم الأنبياء بهذا اللقب لأنهم تسلموا رسائل ملحّة من الله لشعبه وأتوا بها إليهم. وعلى سبيل المثال، عندما رجع بنو يهوذا (اليهود) من السبي البابلي إلى أورشليم، كانوا مثبطي العزائم بصورة مريعة. من ثم ارسل الله النبي حجّى برسالة. يتكلم سفر حجّى 1: 13 بهذه الطريقة: “فقال حجّى رسول الرب برسالة الرب لجميع الشعب قائلا أنا معكم يقول الرب”. أن الأنبياء لم يأتوا بأفكارهم الشخصية الخاصة لشعب الله. بل على العكس، فقد خدموا كرسل يهوه.
أخيراً، تجب الإشارة إلى أن الأنبياء كانوا يُدعون أحيانا بَلقْب “رجل الله” ( ish-Elohim). وقد يترجم أيضا هذا اللقب “رجل الله” ب “رجل من الله.” فكان اختيارهم وإرسالهم يتم بواسطة الله ذاته. لذلك، كان للأنبياء حماية خاصة، وسلطة خاصة من الله. وفي سفر الملوك الثاني (2مل 1: 12)، كشف إيليا النبي عن معنى هذا اللقب. هناك يقول: “فأجاب إيليا وقال لهم إن كنت أنا رجل الله فلتنزل نار من السماء وتأكلك أنت والخمسين الذين لك. فنزلت نار الله من السماء وأكلتهُ هو والخمسين الذين له.” نلاحظ هنا أن سلطة إيليا الإلهية موصوفة بإظهار معجزي للنار التي أكلت أولئك الذين عارضوا النبي. لم يكن إيليا رجلا عاديا. كان مرسلا من الله. وكان الله معه يؤيده ويناصره.
قد تناولنا بهذه النظرة العامة مقدارا ضئيلا من هذه الألقاب العديدة والمستخدمة في العهد القديم. لكننا نرى شيئا واحدا بوضوح – أن الأنبياء هم أكثر مما يظن معظم الناس بكثير. لم يكونوا مجرد وسطاء أو قارئي-حظ (عرّافين). فقد كانت لهم ألقاب متنوعة لأنهم كانوا يخدمون خدمات متنوعة. وإذا كان علينا أن نفهم نبوة العهد القديم، يجب أن نوسع فكرتنا عما يكونه النبي أو عما يعنيه النبي.
والآن يجب أن نتوجه إلى موضوعنا الثاني: ماذا كانت التغيرات التي جرت في وظيفة النبي؟ لقد عملت في وظائف كثيرة في حياتي، واختبرت أن هناك شيئا واحدا يصدق على كل وظيفة منها على حدة. وكل وظيفة تطورت وتغيرت مع الزمن. ويصدق نفس الشئ نوعا ما على الأنبياء. كلما تقدم تاريخ الكتاب المقدس، كلما اجتازت وظائفهم تغيرات وتحولات.
ولكي نفهم كيف اجتازت وظائف أنبياء العهد القديم تغيرات ، يكون من النافع أن نفكر في النبوة في أربعة مراحل تاريخية: فترة ما قبل الملكية، أي الوقت الذي سبق قيام الملوك في إسرائيل؛ فترة الملكية؛ أي الوقت الذي خرجوا فيه مسبيين من الأرض؛ ثم فترة ما بعد السبي، أي عندما رجع بنو إسرائيل من السبي.
دعونا نفحص أولا الأنبياء أثناء فترة ما قبل بدء الحكم الملكي. سيكون من السهل أن نرى العديد من الأوجه للنبوة في ذلك الوقت. أولا، كان هناك نسبيا أنبياء قليلون. ولم يظهر لقب النبي (navi) كثيرا في الأسفار من التكوين إلى القضاة. فهناك، في هذه الأسفار، أقل من 20 إشارة إليهم، ويختص عدد منهم بأنبياء سيظهرون في المستقبل. وهكذا كان هناك عدد قليل من الأنبياء أثناء الأزمنة الأولى قبل أن يكون هناك ملكاً. ثانياً، أظهر أنبياء فترة ما قبل الحكم الملكي خدمات متنوعة على نحو واسع ولكن بصورة غير رسمية نسبياً. كما بدا الكثير من عملهم كأنه مؤقت، معد ليناسب مواقف هامة وأزمنة معينة.
فقد احضرت فترة الحكم الملكي بالكثير من التغييرات في حياة الأمة الإسرائيلية، تتضمن تغيرات في دور الأنبياء. فهناك تباين ملحوظ بين فترة ما قبل الحكم الملكي وهذه الفترة، حيث يظهر الأنبياء بأعداد كبيرة في أثناء ذلك الوقت. وبين حين وآخر، سوف نقرأ عن هذا النبي وعن ذاك النبي في أسفار مثل صموئيل، الملوك، وأخبار الأيام. في الواقع، هناك أنبياء مذكورين في الكتاب المقدس بكثرة، في هذه الفترة من الزمن، أكثر من أي وقت آخر.
وقد أخذت النبوة شكلا رسميا مع تزايد عدد الأنبياء فى فترة الحكم الملكي. فمع قيام الملكية، أعطى الله الأنبياء مهمة التركيز على متابعة أعمال الملوك والتأكد من طاعتهم لناموس موسى. فهم عادة أصبحوا مفسدين ويفسدون بدورهم هؤلاء الذين تحت سلطتهم. وفي حالة تاريخ إسرائيل، عندما أصبح الملوك فاسدين، كان الأمر يشكل خطورة بالغة إذ أن أفعالهم تلك كانت تأتي بدينونة من الله على كل الأمة. وتوقعاً لذلك، وضع موسى عددا من القيود على سلطة الملوك في سفر التثنية 17 : 14 – 20. يجب أن يكون لإسرائيل ملكا بحيث “يختاره الرب فقط.” يجب أن يكون الملك واحدا منكم “من وسط إخوتكَ …” وفي كلمات أخرى، أن يكون إسرائيلياً. ولا يجب أن الملك “يكثر له الخيل. ولا يرد الشعب إلى مصر.” كما “لا” يجب أن الملك “يكثر له نساءً،” ويغلب أن موسى قصد بذلك الإكثار من الزوجات الأجنبيات. ويجب ألا “يجمع كميّات كبيرة من الفضة والذهب ويكدسّها“. ويجب على الملك أن يكتب “لنفسه نسخة من شريعة” موسى. كما ويجب أن “يقرأ الملك الشريعة في كل أيام حياته.” ويجب أن يتبع “ويحفظ جميع كلمات هذه الشريعة” ، ولا يجب أن “يرتفع قلبه على إخوته”ِ “ظاناً أنه لكونه ملكاً فهو أفضل منهم”.
بالطبع معظم ملوك إسرائيل، لم يتقيدوا بالقواعد التي وضعها موسى. لذلك أرسل الله أنبياء ليشهدوا ضد عصيان الملوك والناس الذين ساروا ورائهم. ويمكننا رؤية هذا الربط القريب بين الأنبياء والملوك على صفحات كثيرة من الكتاب المقدس. واجه ناثان النبي داود. وتنبأ “أوديد” (Oded) لآحاز. وانتقد إيليا آخآب. والآن لسنا في حاجة أن نقول، أنه ليس كل نبي خدم فعلا ورسميا في البلاط الملكي. فقد رفض كثير من الأنبياء الحقيقيين المخلصين من ملوك عصرهم. لكن سواء ْ كانوا في بلاط الملك أو في شوارع المدن، أنبياء فترة الحكم الملكي كانوا يلفتون نظر الملوك والسلطات إلى انتهاكاتهم لناموس الله. وهكذا نرى أداءً رسميّا أكثر من الأنبياء، لوظيفتهم في أثناء فترة الحكم الملكي.
الآن نوجه انتباهنا إلى فترة السبي. فماذا حدث للنبوة أثناء فترة السبي؟ في عام 722 ق.م.، سقطت عاصمة السامرة الشمالية لإسرائيل في يد الأشوريين. وفي عام 586 ق.م.، سقطت أورشليم في يد البابليين. وقد تم أسر عدد كبير جدا من شعب الله ونقلهم من بلادهم وسبيهم إلى أمم أخرى. وأثناء ذلك الوقت، تميزت خدمات الأنبياء بأمرين بارزين. أولا، نقص في العدد. كان دانيآل وحزقيال، على سبيل المثال، أفضل المعروفين من بين الأنبياء القليلين أثناء ذلك الوقت.
وبالطبع، مع السبي، توقف نشاط الحكم الملكي في إسرائيل، ولهذا السبب صارت خدمة الأنبياء لله، مرة أخرى، أكثر تنوعا وبغير صفة رسمية. وفي الأغلب، صرف أنبياء الله الحقيقيون وقتهم في تفسير السبي وتعليم شعب الله عن إمكانية الرجوع إلى الأرض.
وبعد فترة السبي، نأتي إلى ذلك العدد القليل من الأجيال التي شاهدت النشاط النبوي في فترة ما بعد السبي. وكان زربابل هو القائد الذي ظهر في مطلع تلك الفترة وهو الذي بدأ في إنعاش الأمة وإعادة الحياة لها. بدأ الأنبياء في تحرك طفيف رجوعا مرة أخرى نحو دور أكثر رسميّة. وصار زربابل حاكما ليهوذا، ووضعت عليه الآمال أن يكون هو الملك الآتي. شجع حجّى وزكريا سلطات إسرائيل لإعادة بناء الهيكل. وانتهر ملاخى السلطات وشعب الجماعة العائدة من السبي لاستمرارهم في التمرد على الله.
وهكذا كان أن بروز النبوة ووضعها الرسمي أمرا متوقفا، تقريباً، على حالة المؤسسة الملكية قياماً أو سقوطاً. هذه التغيرات في وظيفة الأنبياء سوف تساعد في أن توفر لنا التكييف اللازم لفهم كلماتهم.
وألان، سنكشف موضوعنا الثالث، توقعات وظيفة النبي. وماذا كان يتوقع الله أن يعمله الأنبياء؟ سوف نفحص أمرين: أولا، نماذج شائعة يطبقها كثير من مفسري الكتاب المقدس على الأنبياء؛ وثانيا، نموذج العهد الذي يقدمه الكتاب لوظيفة الأنبياء.
دعونا نفحص أولا بعض النماذج المنوّعة والتي كانت قد استخدمت لتصف ماذا كان يتوقع الله أن يفعله أنبيائهُ. وعبر التاريخ ، أدرك كل من اليهود والمسيحيين على السواء الدور الذى قام به الأنبياء بطرق مختلفة. قارن مفسرون كثيرون أنبياء العهد القديم مع الكاهن الدلفي (وسيط الوحي)، أو يشبهون وسطاء ثقافات الشرق الأدنى القديمة، فقد اُعتبروا كرجال فازوا بالدخول إلى محضر الله ويوزعون استجابات الله لأسئلتهم وصلواتهم الشخصية. أن الأنبياء قاموا فعلا بهذا الدور في الكتاب المقدس بين حين وآخر، لكن هذه النظرة ليست نموذج شامل لما هو متوقع أن يفعله الأنبياء.
وهناك فكرة أخرى شائعة، أنهم كانوا أساساً “متنبؤون” بالمستقبل أو “قارؤا-حظ”. فعندما كان يريد أحد الناس أن يعرف ماذا سيحدث بعد، كان يذهب إلى النبي لكي يكتشف الأمر. مرة أخرى نقول، إن هناك شيئا من الحق في هذه النظرة لأن الأنبياء كثيرا ما تنبأوا عما كان سيحدث في المستقبل. فهناك ما هو أكبر وذو مغزى أعمق كان متوقعا من أنبياء العهد القديم.
أما أهم نموذج شامل وواسع الإدراك يستخدمه العهد القديم في وصف النبوة فهو النموذج العهدي (أو نموذج العهد). وإذ نبدأ في اكتشاف نموذج العهد للنبوة، يجب أن نتذكر أن اليهود والمسيحيين لقرون عديدة ميزوا وسلموا بأن العهد هو مفهوم مركزي في الكتاب المقدس. لكن مفهومنا للفكرة الكتابية عن العهد قد تحسنت وتقدمت عبر السنين. وهكذا، يجب أن نبدأ بالتفكير في مفاهيم العهد الماضي ثم نتقدم أكثر لدراسة المفاهيم المعاصرة للعهد.
لم يعرف اللاهوتيين، عن القرائن القديمة التي أحاطت بالفكر الكتابي للعهد في منطقة الشرق الأدنى. وهكذا، قرى اللاهوتيين العهود في أسفار العهد القديم بلغة القانون الروماني أو بنسق شرعي معاصر. فعلى سبيل المثال، عندما نسمع أن العهد هو اتفاقية بين شخصين أو أكثر، كما قيل كثيرا، فهذه الصيغة، ليست خطأ تماماً، لكنها على درجة من الغموض لاعطئنا المساعدة.
في العقود الحديثة، ساعدتنا المكتشفات الحفرية الهامة والكثيرة في فهمنا لأشكال العهد في أسفار العهد القديم. مثل هذا التقدم، يوضح كيف ساعد تأسيس العهد وظيفة الأنبياء.
في كل أنحاء عالم الشرق الأوسط القديم، وجدت الكثير من المعاهدات بين أمة وأخرى. وبرغم أنه كان بعض من التنوع، أدرك الناس كيف أدت تلك المعاهدات وظيفتها. ولهذا السبب، كان الرب يقيم علاقة بين عهود إسرائيل ومعاهدات الشرق الأدنى بطرق كثيرة.
كثيرا ما كانت المعاهدات، في أزمنة الكتاب المقدس، تتم بين دول متساوية المنزلة، ونحن نسمّي هذه المعاهدات بالمعاهدات المتكافئة. فعلى سبيل المثال، معاهدة تمت بين الإمبراطوريتين المصرية والأشورية لا بد أنها كانت، في فترات معينة من التاريخ، معاهدة متكافئة بينهما. لكن غالباً، كانت المعاهدات في العالم القديم بمثابة اتفاقيات بين إمبراطور عظيم وملك أقل شأنا كأن يكون ملكا على مدينة أو أمّة صغيرة. وكانت مثل هذه المعاهدات تعرف ب (suzerain-vassal treaties) أي “معاهدات دولة أعلى مع دولة تابعة”. وكان الأباطرة يشرّعون القوانين المنظمة للعلاقات والتي كانت توفر العناية والحماية. وكانت الدويلات التابعة تخدم الأباطرة.
كان واحدا من المعالم الهامة لهذه المعاهدات بين “دولة أعلى وأخرى أدنى” هو أنهُ: كثيرا ما أرسل القياصرة مبعوثين، أو سفراء. وقد حاولوا أن يجعلوا الدويلات التابعة تستجيب لشروط أنظمتهم وتذعن لها، لكنهم كثيرا ما لم يفعلوا ذلك. غير أن الأباطرة كانوا صبورين جدا مع دويلاتهم الخادمة التابعة، لكن في النهاية، إذا رفضت إحدى هذه الدول أن تصغي إلى سفرائه، فإن الإمبراطور العظيم سيهزم تلك الدويلات الأصغر التابعة.
فقد خدم الأنبياء كمبعوثين للعهد الإلهي أو نوّاب الله العموميين للعهد. واحياناَ كان الأنبياء يوصون إسرائيل بالاستجابة لعهدهم وطاعته، لكنهم كانوا أولا و قبل كل شئ ينذروا بأن الاستمرار في التعديات والانتهاكات سوف يجلب عليهم هجوما من قبل الإله الغاضب.
سيكون من الصعب المغالات في توكيد هذا التبصر في نبوة العهد القديم. فالأنبياء مثلوأ الله باعتبار كونه القيصر العظيم لأمته التابعة إسرائيل. هذه هي الوظيفة الأساسية الذي قاموا بها الأنبياء الى الله.
وتعطي قصة اشعياء 6 المعروفة مثلاً يوضح أهمية هذا الشكل المبعوثي بدرجة عالية جدا. ففي الأعداد الخمسة الأولى، يتلقى إشعياء رؤيا. وفي إشعياء 6: 1 ، سجل النبي أنه قد رأى الله “جالسا على كرسيّ عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل.” وعندما وَجّه إشعياء هنا بالمشهد، صرخ بقوة، كما في العدد 5 : ” … لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود.” رأى اشعياء أنهُ الله كان هو الملك على شعبهِ، القيصر أو الإمبراطور الذي كان عالياً ومرتفعاً كرب على الجميع.
مع ذلك، لنا أن نسأل لماذا دُعي إشعياء لكي يرى المشهد المجيد لغرفة عرش الله. قد أدرك إشعياء حالاً لماذا. فقد نظر إلى عرش قيصره وقال هذا، في الإصحاح 6، عدد 5: “ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين…” والذي حدث هو أن إشعياء قد استدعى للمثول أمام القيصر الإلهي بسبب خطيّة خطيرة كانت قد انتشرت على نحو واسع في ربوع الأمة التابعة. كان ذلك هو السبب العادي لدعوة الأنبياء في العهد القديم.
في إشعياء 6: 6 و7 ، تقدم إلى إشعياء واحد من السرافيم وطهّر شفتيه بجمرة فحم. مثل هذا التطهير يمكّن إشعياء من خدمة الله كناطق بلسانه. ثم بعد ذلك نقرأ الأعداد من 8 إلى 13 ونرى إشعياء يقبل إرساليّة من الله لكي يتابع العهد حتى النهاية. ففي الإصحاح 6: 8 ، يقول الرب: “من أرسل ومن يذهب من أجلنا.” هذا يوضح لنا أن الرب يريد شخصا ما ليكون مبعوثه أو سفيره لإسرائيل. ويجيب إشعياء بهذه الكلمات المعروفة: “هأنذا أرسلني.” وهنا يقبل إشعياء دعوته كشخص مرسل من قبل القيصر العظيم إلى أمة إسرائيل. وأدان إنتهاكات العهد، وقدم رجاء بركات العهد لشعب الله. يظهر هذا المثال المعطى في إشعياء 6 في كل مكان في نبوة العهد القديم.
في هذا الدرس قد اكتشفنا اختبار الأنبياء بالنظر إلى وظيفتهم ودراستها. لقد رأينا بعضا من ألقاب الوظيفة الكثيرة التي قبلوها، وكيف أن وظيفة النبي نشأت. ثم فحصنا أخيراً التوقعات الأساسية لوظيفة ألنبي. هناك الكثير من الارتباك فيما يتعلق بأنبياء العهد القديم، ويجب أن نتذكر ألقاب وظيفتهم، متغيرات الوظيفة التى اجتازوا فيها، والتوقع الذي كان عند الله تجاه الأنبياء. عندها، سوف نكون قادرين أن ندرك ونطبق كلماتهم.
هل تبحث عن  ايليا النبى

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي