المؤمنون ليسوا تحت الناموس

المؤمنون ليسوا تحت الناموس
لنتفحص بالتدقيق تعليم العهد الجديد عن العلاقة بين المؤمن المسيحي والناموس. يتعرّض العهد الجديد إلى هذه المسألة في عدة مواضيع، وفي كل مرة نجد الحقيقة الواضحة المحدّدة نفسها، وهي أن برّ المؤمن المسيحي لا يعتمد على حفظ أي جزء من الناموس (الوصايا العشرة) مطلقاً. فلنلقي نظرة على عدد من المواضع التي توضّح هذا في العهد الجديد

أولاً يقول بولس للمؤمنين في رومية 14/6: فإن الخطيئة لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة

هذا العدد يُعلن حقيقتين هامتين: الأولى أن المؤمنين المسيحيين ليسوا تحت الناموس بل تحت النعمة. وفيما يلي عبارتان تلغي كل منهما الأخرى بالتبادل: “كل من هو تحت النعمة لا يكون تحت الناموس”، و”لا يمكن لأحد أن يكون تحت النعمة وتحت الناموس في الوقت نفسه.” والحقيقة الثانية التي يُعلنها هذا العدد هي أنّ السبب الذي يجعل الخطية لا تسود على المؤمنين هو أنهم ليسوا تحت الناموس، فما دام أحدهم تحت الناموس فهو تحت سيادة الخطية، وللتخلّص من سيادة الخطية ينبغي التحرر من الناموس

أما شوكة الموت فهي الخطية، وقوة الخطية هي الناموس. 1كورنثوس 26/15

فالواقع أنّ الناموس يقوّي سيادة الخطية على أولئك الذين هم تحته، وكلما حاولوا وكافحوا أكثر لحفظ الناموس (الوصايا العشرة)، كلما زاد إدراكهم لقوة الخطية وسيادتها في داخلهم، محبطة بذلك كل محاولات العيش بحسب الناموس. والحل الوحيد للهروب من سيادة الخطية هذه، هو التحول من تحت الناموس إلى تحت النعمة

لأنه كما كنا في الجسد كانت أهواء الخطايا التي بالناموس تعمل في أعضائنا لكي نثمر للموت. وأمّا الآن فقد تحررنا من الناموس إذ مات الذي كنّا ممسكين فيه حتى نعبد بجدّة الروح لا بعتق الحرف رومية 5/7

يقول بولس هنا أن الذين تحت الناموس خاضعين لأهواء الخطايا التي تعمل في أعضائهم أي في طبيعتهم الجسدية، مما ينتج ثمر الموت. أما كمؤمنين “فقد تحررنا من الناموس” لنعبد الله لا بحرفية الناموس بل بجدة الحياة الروحية التي نلناها بالإيمان في المسيح. ومرة أخرى في رومية 4/10 يقول بولس

لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن

هل تبحث عن  من سمات القديس يوحنا ذهبي قوة القدوة في الكرازة والرعاية

فاللحظة التي يضع فيها شخص ما ثقته وإيمانه في المسيح من أجل خلاصه، هي غاية الناموس (أي نهايته) كوسيلة لتحقيق البر بالنسبة لذلك الشخص. إن بولس دقيق للغاية فيما يقوله هنا، فهو لا يقول أن هناك نهاية للناموس باعتباره جزءاً من كلمة الله، فكلمة الله ثابتة إلى الأبد، ولكن هناك نهاية للناموس باعتباره وسيلة لتحقيق البرّ للمؤمن. فبرّ المؤمن ليس مشتقاً من حفظ الناموس فيما بعد، سواء قُصد بذلك الناموس كلّه أو بعضه، لكن البرّ هو نتيجة للإيمان في المسيح فقط

ويقول بولس بأن الناموس وصل إلى نهايته كوسيلة لتحقيق البرّ بموت المسيح الكفاري على الصليب

وإذ كنتم أمواتاً في الخطايا وغلف جسدكم، أحياكم معه مسامحاً لكم بجميع الخطايا، إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضداً لنا وقد رفعه من الوسط مسمّراً إياه بالصليب. كولوسي 13/2

يقول بولس هنا أنه بسبب موت المسيح محا الله “الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضداً لنا” ولا يقصد بولس هنا محو الخطايا بل محو الفرائض والطقوس (أي متطلبات الناموس) التي تقف حائلاً بين الله وبين أولئك الذين يتعدون هذه الفرائض لذلك ينبغي إزالتها من الطريق قبل أن يتمكن الله من منحهم الرحمة والغفران. إنّ الكلمة “فرائض” هنا تشير إلى مجمل نظام الناموس الذي أعطاه الله على يد موسى ومن ضمنه ذلك الجزء الذي نسميه عادة ” الوصايا العشر”. ويؤكد بولس على ان هذا ينطبق على الوصايا العشر في نفس الإصحاح حيث يقول

فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت (كولوسي 16/2).
وهذه العبارة كما يشير حرف الفاء في بدايتها مرتبطة بما تمّت الإشارة إليه في الأعداد السابقة لها، وهو محو فرائض الناموس من خلال موت المسيح. والإشارة إلى السبت في نهاية هذا العدد تعني أن حفظ يوم السبت هو إحدى تلك الفرائض التي محاها الله، مع أنّ وصية حفظ يوم السبت هي الوصية الرابعة من الوصايا العشر، مما يدل على أنّ هذه الوصايا هي من ضمن فرائض الناموس التي محاها الله وأزالها من الطريق بواسطة موت المسيح

هل تبحث عن  Open Our Eyes Lord Lyrics

وهذا يؤكد ما سبق ورأيناه من أن الناموس بما فيه الوصايا العشر هو نظام كامل مستقل قدّمه الله لإسرائيل على يد موسى، كنظام متكامل لتحقيق البرّ، ثم ألغي بصفته هذه (وسيلة لتحقيق البرّ) على يد المسيح كنظام متكامل أيضاً

لأنه هو (المسيح) سلامنا الذي جعل الإثنين واحداً ونقض حائط السياج المتوسط أي العداوة، مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض لكي يخلق الإثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً صانعاً سلاماً . أفسس 14/2

يقول بولس هنا أنّ المسيح بموته الكفاري على الصليب قد أبطل “ناموس الوصايا” مزيلاً بذلك الخط الفاصل الذي رسمه ناموس موسى بين اليهود والأمم، فصار لكليهما الحق بالمصالحة مع الله ومع بعضهما بواسطة الإيمان في المسيح

إنّ العبارة “ناموس الوصايا” تشير بأكثر وضوح ممكن إلى ان ناموس موسى بأسره، ومن ضمنه الوصايا العشر، لم يعد له تأثير باعتباره وسيلة لتحقيق البرّ، وذلك بسبب موت المسيح على الصليب

وفي 1كورنثوس 8/1 يناقش بولس علاقة المؤمن المسيحي بالناموس ليصل إلى النتيجة نفسها

ولكننا نعلم أن الناموس صالح إن كان أحد يستعمله ناموسياً، عالماً هذا: أن الناموس لم يوضع للبار، بل للأثمة والمتمردين، للفجّار والخطاة ،للدنسين والمستبيحين،لقاتلي الآباء وقاتلي الأمهات لقاتلي الناس، للزناة لمضاجعي الذكور لسارقي الناس للكذابين للحانثين وإن كان شيء آخر يقاوم التعليم الصحيح

ويعرّف هنا بولس صنفين من الناس: الإنسان البار من جهة، وأولئك الأثمة بسبب الخطايا التي يعددها بولس من جهة أخرى. إنّ الإنسان المذنب بهذه الخطايا ليس مؤمناً مسيحياً حقيقياً مخلّصاً بالإيمان في المسيح. أمّا من يثق في المسيح من أجل خلاص نفسه فلا يعود مذنباً بمثل هذه الخطايا لكنه يُبرّر، ليس بسبب برّه الشخصي بل ببرّ الله الذي بالإيمان بيسوع المسيح لكل وعلى كل من يؤمن

يؤكد بولس بأن الناموس لم يوضع من أجل إنسان بار كهذا فهو ليس تحت سيادة الناموس فيما بعد. لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله .رومية 14/8

فأبناء الله المؤمنون فعلاً هم أولئك الذين ينقادون بروح الله، هذه علامة أولاد الله الذين يقول لهم بولس: ولكن إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس غلاطية 18/5

هل تبحث عن  القديس بولس بطريرك القسطنطينية

فهذه هي الميزة الرئيسية التي تُظهر أولاد الله المؤمنين بالفعل وهي أنهم ينقادون بالروح وهي تعني أيضاً أنهم ليسوا تحت الناموس

ويمكن تلخيص هذه الحقيقة بما يلي: إذا كنت إبناً حقيقياً لله بواسطة الإيمان في المسيح فدليل ذلك أنك تنقاد بروح الله. وإذا كنت منقاداً بروح الله فلست تحت الناموس. لذلك لا يمكن أن تكون إبناً لله وتكون تحت الناموس في الوقت نفسه. فأولاد الله ليسوا تحت الناموس. ويمكن توضيح هذه المفارقة بين الناموس والروح إذا تخيّلنا محاولة إيجاد الطريق إلى مكان معين باستخدام وسيلتين مختلفتين: الأولى هي الخريطة، والثانية هي أن نتبع شخصاً كقائد وكدليل. فالخريطة هنا تشير إلى الناموس والقائد يشير إلى الروح القدس. الناموس يوفر للإنسان خريطة من دون زلل، لكي ترشده هذه الخريطة إلى الطريق من الأرض إلى السماء، مع أنّ أحداً لم يستطع أن يحقق هذا المقياس من الدقة من قبل. وهذا يشير إلى عجز الإنسان عن اجتياز الرحلة من الأرض إلى السماء بحفظه المعصوم لكل تفاصيل الناموس

أما المؤمن تحت النعمة فيسلم نفسه للمسيح كمخلّص، ثم يرسل المسيح الروح القدس إلى ذلك المؤمن ليكون قائده الشخصي. والروح القدس يعرف الطريق إلى السماء لأنه أتى من هناك ولا يحتاج إلى استخدام الخرائط. لذلك لا يحتاج المؤمن في المسيح والمنقاد بالروح القدس إلى خريطة، بل عليه أن يتبع قائده الشخصي ليصل به إلى السماء. إنه لا يعتمد على الخريطة التي تمثّل الناموس، بل تكون لديه كل الثقة بشيء واحد وهو أنّ الروح القدس لن يقوده أبداً ليفعل شيئاً معاكساً لطبيعته فائقة القداسة. لهذا يعلّمنا العهد الجديد بأن من هم تحت النعمة ينقادون بالروح القدس ولا يعتمدون على الناموس.

نستنتج من هذا كلّه بأن الله لم يتوقّع مطلقاً من الإنسان أن يحصل على البرّ من خلال حفظ الناموس، لا جزئياً ولا كلياً. وهذا يطرح سؤالاً مثيراً: إن كان الله لم يتوقع أن يحقق الإنسان البرّ عن طريق حفظ الناموس، فلم أُعطي الناموس أصلاً للإنسان ؟

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي